تعودنا في المغرب على أن نتلقى أنباء عن بعض الوقائع والممارسات الغريبة عن ذهنية المجتمع المغربي وعن نمط سلوكه. وهذه الوقائع هي، في حقيقتها، طلائع مشروع هادف يجري التحضير له وتنفيذه وفق مخطط سابق وهندسة مرصودة سلفا وإخراج مدروس يقوم، في ما يقوم عليه، على مفاجأة المجتمع بسلوكات شاذة تناقض جانبا من المنظومة التصورية والأخلاقية للمجتمع. فيستتبع ذلك، طبعا، انطلاق موجة من التنديدات والإدانات الاجتماعية هي، في تقدير مصممي المشروع ومخرجيه، مفيدة جدا في معرفة درجة اليقظة الدينية والحيوية المجتمعية والإحساس بالخطر والاستعداد لمواجهته، وإن كنا نراها، من جهتنا، نوعا من العلاج بالصدمة التي تنبه الإحساس وتضخ دفقة من الحياة في الأوصال المترهلة والمشرفة على الموت. وإثر انطلاق موجة التنديد والاستنكار التي تبديها القوى الحية الواقفة على حدود حراسة الوجود المعنوي للأمة، ينطلق الشق الثاني من المشروع، وهو المتمثل في انبعاث أصوات مناقضة منسقة الأدوار، منبعثة من زوايا متعددة، لتعلن عن ضرورة حماية الحقوق الفردية ووجوب الالتزام بالقيم الكونية والأخذ بالمواثيق الدولية وبكل ما تشاء حمايته، إلا ما تعلق بهوية الأمة وبعناصر تماسكها المجتمعي. وقصد هذه الحملة المكثفة والمنسقة تشكيك الأمة في قيمها وكسر إرادة الدفاع عنها بتصويرها قيما متجاوزة غير صالحة للحياة الحديثة. وفي هذا السياق ووفق هذا المخطط المتكرر، يأتي مشروع الإفطار العلني في رمضان، وهو مشروع أعدته قوى متعددة في الداخل والخارج سرعان ما برزت على الساحة المغربية في الوقت المناسب، موهمة بأن الأمر يتم بعفوية وأنه لا يتعلق إلا بالرغبة في نصرة الحقوق الفردية في مجتمع يتنكر لها. وبما أن النقاش المجتمعي ومساءلة الذهن المتحرر من كل الولاءات يظل هو السبيل الأمثل للعبور إلى الحقيقة، فإنه لا بد من طرح ملاحظات عن الموضوع، خصوصا بعد أن هدأت الأجواء، وسكنت النفوس ووجدت قابلية الإصغاء. وأول ما يجب التوقف عنده هو التصوير المزيف والتقديم الخاطئ الذي سوقت به قضية الإفطار في رمضان، وهو تشخيص يوحي، في ظاهره، بأن أشخاصا معينين اختاروا أن يفطروا في بيوتهم في رمضان لكن بعض المواطنين أو قوى الأمن تسوروا عليهم بيوتهم واقتحموا عليهم مكامنهم، فكان ذلك مصادرة لحقهم في أن يمارسوا حريتهم الفردية. والواقع يختلف عن هذا اختلافا كليا، لأن الأمر يتعلق بأشخاص صمموا على أن يفطروا في مكان عمومي أمام أعين الناس وتحت أنظارهم مستهينين بما يمثله الصيام في نفوسهم وما له من الحرمة والمكانة في قلوبهم وضمائرهم، وفي هذه الحالة لم يكن المقصود هو الإفطار بالذات، لأن ذلك كان بالإمكان أن يتم في مكانه العادي وفي غير المشهد الاستعراضي الذي اختير له، وإنما كان القصد هو تحدي الناس واستفزاز مشاعرهم واستدعاؤهم إلى ردود فعل غير محمودة قد تخل بروح التعايش والتساكن المؤسسة على الاحترام أصلا، ومعنى هذا أن الإفطار العلني لم يكن إلا ممرا للعبور إلى قيم المجتمع ومقدساته. إن الموقف أصبح يستدعي، وبكل إلحاح، دراسة مبدأ الحرية الفردية وضبط حدود وشروط الأخذ بها في المجتمعات التي توليها أهمية قصوى. والأكيد أن الأخذ بمبدأ الحرية الفردية في تلك المجتمعات يتم في نطاق رؤية شمولية ومراعاة كاملة للعديد من القيم الضرورية لتحقيق السلم الاجتماعي ولاستدامة التعايش بين الأفراد، لأنه من الوهم الكبير اعتقاد إمكان تأسيس المجتمعات على القيمة الواحدة دون اعتبار نظيراتها، ومنها: قيمة احترام الضمير الجمعي، والدخول في الشراكة الاجتماعية، وقيمة المسؤولية الفردية والجماعية، وتحقيق الأمن، واحترام أسس الدولة الحديثة، وممارسة الديمقراطية، وصيانة حقوق الإنسان والحفاظ على الوحدة الترابية والمجال الجغرافي للدولة الوطنية. ويأتي في مقدمة تلك القيم، بحكم المستجدات الراهنة، توفير السلم الاجتماعي والنأي عن كل أسباب ودواعي التوتر البيني والاحتراب الداخلي، ومناهضة العنصرية والطائفية وكل الدعوات التي تلغي مفهوم الاستواء في الحقوق والواجبات في الوطن. وبسبب هذه الرؤية التكاملية لقضية القيم المجتمعية، فقد أصبحت كل المجتمعات الواعية بقيمة التصرفات الفردية والفئوية لا تستسيغ أن يقوم فرد منها بامتهان رموزها السياسية أو الدينية أو الثقافية، سواء كانت علما أو نشيدا وطنيا أو كتابا مقدسا تؤمن به جماعة من المواطنين أو تراثا وطنيا أو رمزا مستقرا في المخيال الجماعي تعتقد فئة من الناس أنها تنحدر منه أو فكرة تاريخية متغلغلة في الضمير الجمعي، فأصبحت مألوفة جدا مؤاخذة كاتب أو باحث يشكك في المحرقة النازية أو في مذابح الأرمن أو يدعو إلى معاداة السامية أو يبث الكراهية، وما إلى ذلك من القضايا التي أصبحت تمثل خطوطا حمراء يؤدي الوقوع عليها إلى الاقتياد إلى قاعات المحاكمة من غير أن يجدي الاحتماء بمبدأ ممارسة الحرية الفردية أو التعبير عن الرأي الحر أو ممارسة الإبداع أو إنجاز البحوث. إن الملاحظ حاليا أن حماية الرمزية الجماعية في المجتمعات الغربية أصبحت جزءا من الذهنية الغربية ومن التوجه القانوني أيضا، فلم يعد مسموحا بأن يهين شخص مقبرة دون أن يتعرض للمساءلة اعتبارا لما تمثله جثث الراقدين في تلك المقبرة من رمزية بالنسبة إلى الأحياء، وإن صارت تلك الجثث رمما بالية. وهذه رمزية تقل بكثير، ولا شك، عما يمثله الدين في نفوس المسلمين الذين يعيش معهم، مع الأسف، من يحتقر معتقداتهم. لقد أصبحت القوانين في البلاد الغربية تتجه إلى التضييق على مساحة الحرية الفردية لصالح الانسجام الاجتماعي في كل حالة تشكل فيها ممارسة الحرية إخلالا بمبدأ التساكن، بل أصبح عاديا أن يعاقب شخص يشعل سيجارة في مكان عمومي ولو أنه مقهى أو مطار، وأصبحت نصوص القانون تلاحق من يقطع شجرة أو يلقي نفاية أو عبوة فارغة في الطريق العام، كما أصبحت القوانين صارمة في التعامل مع من يسيء معاملة طفل، وإن يكن ولده، أو معاملة حيوان، وأصبح عاديا أن يرفع مواطن سماعة هاتفه ليستنجد بالشرطة ضد كل من يسبب إزعاجا ماديا أو معنويا للمجتمع. إن الذي أصبح يضبط الموقف الغربي من سلوكات الأفراد هو ما يعبر عنه ب«احترام النظام العام»، وهو مبدأ واسع ومطاط يمكن أن تشحن به كل المطالب والحاجات الاجتماعية التي تؤدي إلى تحقيق مصلحة المجتمع. ومن خلال تسميته، يتبين أن الأولوية للمجتمع ما دام النظام نظاما عاما. ويرتبط بوجوب المحافظة على النظام العام، قانونيا، مبدأ آخر هو وجوب احترام الذوق العام، وهو اعتبار اجتماعي وأخلاقي تعبر عنه فئات متعددة من أفراد المجتمع المدني، في تمهيد واضح لتدخل القانون مستقبلا من أجل منع كل مظهر يفسر بأنه استعلاء على المجتمع وخروج عن ذوقه واختياراته العامة، فمن ثم لا يسمح بارتداء اللباس العادي في الشواطئ المعدة للسباحة، كما لا يسمح بدخول حفلات المسرح أو الموسيقى الكلاسيكية المقامة على مسارح الأوبرا لمن لا يضع ربطة عنق، كما لا يسمح بدخول الحفلات الرسمية والصالونات الدبلوماسية من غير اصطحاب قرينة إن كان ذلك مشترطا في الدعوة أو من غير ارتداء لباس خاص يتدخل الذوق العام في تحديد لونه وتفصيلته. ولهذا السبب، وجدت في دول كثيرة، ومنها الصين، جمعيات الضغط التي تناهض عادة التجول بملابس النوم لتدعو إلى الانسجام مع المجتمع في ذوقه العام. وفي جميع هذه الحالات، لا تكون دعوى ممارسة الحرية الفردية مبررا كافيا للخروج عن سلطة المجتمع واختياراته. وبهذا، يتبين نفاق المنظمات والجمعيات التي تمضي في نسق احترام النظام العام والذوق المجتمعي في بلادها، لكنها تدعم محاولات الانتفاض على المجتمع في دول أخرى. وحين نحاول معرفة مقدار المساحة التي تمارس عليها الحرية الفردية في نفس المجتمعات التي تسوّق الحرية الفردية وتقايض عليها وتتخذها مبررا لخلخلة قيم مجتمعات رخوة مصابة بسهولة الاستهواء، فإننا نلاحظ أن تلك المساحة تضيق تدريجيا، وقد يكون موضوع منع حجاب المرأة المسلمة في بعض البلاد الغربية شاهدا على هذا التوجه، وهو منع لم يفد فيه الدفع الحقوقي بحق ممارسة الحريتين الفردية والدينية، كما يمكن أن نجد له شاهدا آخر في منع الأذان على الصوامع في الدول الأوربية بخلاف ما تستفيد منه أبراج الكنائس من رفع صلصلة الأجراس لمدة أطول مما يستغرقه الأذان بكثير. إنه ليس بالإمكان الاستمرار في استعراض كثير من الشواهد على زيف دعوى ممارسة الحرية الفردية في الغرب بإطلاق، خصوصا بعد أن أباحت أحداث 11 شتنبر أن تتجه الدول إلى التضييق على الحريات الفردية. وأخيرا، فإذا كنا نلوم من يتطاول على قيم مجتمعنا ويستخف بها، فإنه لا يجوز أن نعفي مجتمعنا أيضا من مسؤولية التقصير في التعريف بحقيقة الإسلام وما له من نزوع إنساني جماعي راق يشدد على وجوب احترام شعور الآخرين. والواقع أن مجتمعنا كان، في حالاته العادية وعبر تاريخه الطويل، يجد أنه من العيب الكبير أن يتجاهل المرء وجود الآخرين فيأكل أمام الناس، مثلا، وهم ينظرون إليه حتى حينما يكون الأكل مباحا، لتقدير أن من الناظرين من قد يشتهي ذلك الطعام وهو لا يتوفر على ثمن شرائه، وكانت المرأة في البؤرة من هذا التوقع لاحتمال أن يكون بها وحم، وقد نشأ هذا السلوك من تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجود عينين تأكلان وعينين تنظران، ومن قوله عليه السلام: «المؤمن لا يأكل وحده». وقد تعارف الناس في المجتمع الإسلامي المفعم بالروح الجماعية على أن يلغي الرجل حفلا يقيمه ببيته إذا صادف ذلك وفاة أحد جيرانه، والأمثلة من هذا النوع كثيرة في المجتمعات الإسلامية. وهذه ثقافة اجتماعية طبعت كل سلوكات الإنسان المسلم مهما كان مستواه الثقافي والاجتماعي، وهو أيضا ما وجه فلسفة العمران، فكانت البيوت تحتفظ بجماليتها في داخلها ولا يبدو على خارجها ما يمكن أن يمثل إثارة للفقراء، وكان من آثار هذا التوجه احترام شعور الآخرين حتى في حال الاختلاف معهم، أخذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أبي جهل وكان في حياته عدو الإسلام الأكبر، وقال عليه السلام: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» (صحيح الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشتم) مراعاة لشعور قرابة أبي جهل. إن الفرق بين هذه التربية، التي يتلقاها الإنسان المسلم في المحاضن التي تجعل قيم الإسلام عمادها، وبين موقف من يأكل في الساحات العمومية والناس صائمون، ليتحرش بدينهم والتزامهم، هو فرق واضح جلي، وهو ذات الفرق بين إنسانية الإسلام واحترامه الغير وبين ثقافة تنضح أنانية واستعلاء، فتدفع صاحبها إلى أن يركب أسهل المراكب ليعبر بها عن حريته الهابطة، وهي حرية لا يمتنع أن تدفع بصاحبها إلى أن يتخلص مما في بطنه في نفس المشهد وبنفس الصورة إذا صار هذا السلوك أيضا عنوانا للحرية الفردية. إن من المؤسف حقا أن تصير الاستجابة لداعي الأكل ولشهوة الطعام عنوانا للحرية بمعناها الإنساني الكبير، وهذا يناقض ما تعارف عليه الناس في كل بقاع العالم من أن يكون الامتناع عن الطعام والإضراب عن تناوله والتضحية بشهوة الأكل هي الأسلوب الذي يعبر به أصحاب القضايا الكبيرة عن مطالبهم ويستلفتون به الأنظار إليها. أما تناول الطعام حين يتم في مشهد عمومي، فإنه لا يمكن أن يعبر عن سمو موقف أو تضحية من أجل الفكرة، لأنه لا يمتنع أن يجد المفطر، وهو يتناول طعامه، إلى جانبه طفلا يأكل لأنه لا يعي معنى الصيام، أو يجد شخصا فاقد العقل يأكل أيضا لأنه معفى من التكليف، أو يجد كائنات أخرى تأكل إلى جانبه من غير أن يكون أحد هؤلاء الآكلين أشرف من غيره. إن الحرية قيمة إنسانية جميلة لا يجوز أن تشخص في فعل يمثل في الإنسان ضعفا بشريا وانصياعا لإكراه معوي. كما لا يجوز وضعها في مقابل الدين لأن الدين كان دائما هو الأصل والمنشأ في الحرية. وعقيدة التوحيد فيه هي بالذات عقيدة التحرير من الخضوع لما سوى الله. والأنبياء هم المحررون الأوائل الذين أخرج الله بهم الناس من عبودية البشر وقوى الطبيعة والأوهام إلى فضاء الحرية والطلاقة، فكان موسى عليه السلام محررا بارزا انتشل شعبه من قهر فرعون وظلمه وغشمه ورفعه إلى مستوى الحرية والمسؤولية والإمامة بناء على مراد الله وانطلاقا من أمره سبحانه، وهذا المراد هو الذي عبر عنه الله تعالى بقوله: «ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونُريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون» (القصص 5)، وكان محمد صلى الله عليه وسلم محرر الناس الأكبر الذي فك عنهم قبضة الأسياد الأبديين، وثبت الأخوة الإنسانية، وقرن قيمة الإنسان بتقواه وصلاحه وإيجابيته وقدرته على التحليق في سماء الفضيلة والارتفاع عن مستوى الزواحف التي تسحب أجسامها على بطونها إلى أن تموت. فضيلة د.مصطفى بنحمزة .................................................................... فيديو لفضيلة د.مصطفى بنحمزة بمؤسسة مولاي سليمان بوجدة: http://www.youtube.com/watch?v=n5zQhToY2FY http://www.youtube.com/watch?v=NiMNl3GcifA http://www.youtube.com/watch?v=Nvvw8CuzZbQ http://www.youtube.com/watch?v=UnBLzKrKEBk