العرض الذي ألقاه الدكتور عبد الهادي التازي يوم الأحد 18 شعبان 1409 = 26 مارس 1989 على متن سفينة الوحدة (مراكش) التابعة للشركة المغربية للملاحة – قاعة أكدال – أمام لجنة المؤسسات أثناء الرحلة البحرية التي نظمتها جمعية فاس سايس تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الحسن الثانيطيب الله ثراه... إذا كان المغرب قد حافظ بجدية وفعالية على صلاته ببلاد المشرق عبر التاريخ، فإن حفاظه على علاقاته بإيالات المغرب الكبير ظل حقيقة قائمة ثابتة. ولم يكن مرد ذلك راجعا فقط إلى الإيمان بوحدة الواقع الجغرافي والسلالي واللغوي، ولكن المغرب ما انفك يعتبر هذه الوحدة قدرا ومصيرا يجب أن تتضافر الجهود من أجل الاستجابة لها والاقتناع بضرورتها، وهو حكم كان وليد تجارب قرون خوال بلغت فيها بلاد المغرب الكبير قمة عزها وأوج عظمتها عندما كانت موحدة قبل أن يتناثر عقدها وتتبدد كلمتها. سوف لا أتحدث هنا عن الآثار التي خلفتها تلك النوازع والطموحات التي استهدفت بناءنا واستقرارنا نحن أبناء المغرب العربي الكبير، كما لا أستعرض هنا تلك الأيادي الخفية التي كانت تحرك هذا الفريق على ذاك أو ذاك على هذا... ولكني سأقصد إلى إبراز بعض المحاولات التي بذلها المغرب من أجل تجسيد هذه الوحدة وجعلها ملموسة، إيمانا منه بأنها الطريق الذي لا بديل له إذا كان القادة يهتمون بقضايا الازدهار والتقدم في بلادهم... ولابد من الإشارة منذ البداية إلى أننا نتحدث عن فترة محددة في الفترة التي تبتدئ من أواسط القرن الحادي عشر الهجري = أواسط السابع عشر الميلاد، بل عن بعض الجوانب فقط من هذه الفترة، وإذا كنت صادقا مع وثائقي فإنني أمام مجرد إشارات وومضات ولكنها إشارات وومضات دالة وعميقة تعطي البرهان بالوسيلة الواضحة على أن بلاد المغرب جميعها كانت، وما تزال، مقتنعة بفكرة المغرب العربي... ودعونا نستخلص الصورة لهذه الأقطار المغربية التي ظلت على ما أشرنا حرية على تحقيق فكرة الوحدة في ظل عروبة شاملة... إن القيام بإحصاء دقيق لهدف السفارات الأجنبية التي تواردت على المغرب الأقصى في صدر دولة العلويين كان هو نفس الهدف الذي كان للبعثات الدبلوماسية التي وردت على المغرب أواخر الدولة السعدية التي حكمت المغرب قبل الدولة العلوية... كل الدول التي شعرت بمتابعة أو مطاردة من القسطنطينية العظمى قصدت المغرب أملا في أن تجد منه حليفا ضد تركيا سيما وقد كان المغرب من الجهات التي برهنت على صلابة عودها وقوة شكيمتها إزاء المد العثماني. وجدنا في المغرب سفارات من دولة فارس التي تجاور تركيا، ومن إمبراطورية النمسا أيضا، ووجدنا سفارات من هولاندا ومن إسبانيا... كل يريد أن يصور الخطر الذي يكمن في الوجود التركي، وكل يريد أن يبرر ضربهم والإلقاء بهم في البحر!! وبودي لو كان لنا متسع من الوقت لكي نستعرض جميع التقارير التي رفعها السفراء الأجانب المعتمدون في المغرب إلى حكوماتهم، سواء فيهم من كان يتمتع بصلات خاصة بالبلاط أو من كانت له دالة على بعض رجال الدولة ومن كان منهم محترفا يباشر مهامه بموضوعية... ولكن لابد أن أذكر مع هذا أن في هذه التقارير ما كان يهتم بنوع من الإغراء الذي كان يقدم للمغرب حتى يقوم بحركته الفاصلة ضد الأتراك في الإيالات المجاورة، وأذكر على سبيل المثال – من بين هذه الإغراءات تمكين المغرب من منطقة شاسعة تصل حدود طرابلس...! ولكن تلك التقارير كانت تضطر أصحابها الأجانب للتعقيب قائلين : إنما مهما بذلنا من عروض للمغرب فسيظل عطفه على الإيالات العثمانية هو نفسه بالرغم مما يلحقه من مضايقات من الأتراك، إننا عندما نتحدث إلى المغرب بما يبيت له من طرف الأتراك لا يتردد في القول بأنه باستطاعته أن يقف أمام كل تحرك يستهدف النيل منه، ولكنه لا يستطيع أن يمضي حلفا ضد إخوانه في الدين...! في استطاعة كل واحد أن يقرأ في تقارير من هذا النوع تلاحم أسرة المغرب العربي وعملها في باب المحافظة على المبادئ الأساسية للتعامل... دعونا نتتبع قليلا سفارة السير أنطوني شيرلي (A.Sherly) إلى الديار المغربية أوائل القرن السابع عشر... لقد كان الأمر يتعلق – كما نعرف – بتحرك دولي، في البداية من الشاه عباس الكبير في أعقاب ما كان يبلغه عن المراسلات المغربية التي كانت تهنئ الباب العالي بانتصاراته ضد الصفويين... ذلك التحرك الذي لم يلبث أن تعزز أيضا بتكليف أنطوني شيرلي من طرف رودولف الثاني إمبراطور ألمانيا ثم من طرف البابا كليمان الثاني لدى ملك المغرب وأخيرا من طرف فليب الثاني ملك إسبانيا الذي كانت تراوده فكرة كسر الحلف العثماني الفرنسي المبرم عام 1536 = 942 (1) بين سليمان القانوني وبين فرانسوا الأول. نحن أمام رسالة حررت في مدينة مراكش بتاريخ 16 دجنبر 1605 من طرف كوي (Coy) الوزير الهولاندي المعتمد في العاصمة المغربية : ... لقد كانت مهمة شيرلي تتركز على إقناع المغرب بمناهضة الأتراك وطردهم عن الشمال الإفريقي... وقد استنتج السفير الهولاندي من هذا أن المطلب لابد أن يجاب بالرفض من طرف العاهل المغربي الذي اعتاد على أن لا يحالف أحدا من المسيحيين ضد المسلمين... اللهم إذا كان الأمر يتعلق بدفاع عن كيانه... ومع ذلك فقد كان يهدد ولا ينفذ!!. هذه رسالة أخرى من الدبلوماسي الفرنسي الدكتور أرنول دوليسل (A. De Lisle) الذي كان طبيا للأسرة الملكية قال : إنه علم بواسطة الأميرة المغربية لالة صفية أخت السلطان أبي فارس، أن شيرلي (Sherly) ورد من طرف إسبانيا لتأليب العاهل المغربي ضد تركيا على امتداد الساحل الإفريقي، من جبل طارق إلى تونس، وأن ملك إسبانيا سيعد العاهل المغربي بمساعدته على هذه الحركة على أن يتم الاتفاق بعد النصر النهائي على توزيع الشمال الإفريقي بين ملك المغرب وملك إسبانيا، فيصبح الساحل لملك إسبانيا والداخل كله لملك المغرب حتى تونس!!. ويضيف التقرير الفرنسي بأن إسبانيا – منذ أن ارتبط الأتراك باتفاقيتهم مع فرنسا – أخذت تخطط لهذا المشروع وأنها من أجل تحقيقه عدلت عن وعدها بمناصرة ملك البرتغال في وقعة وادي المخازن، وأن هذا المخطط لم يمت بوفاة السلطان المولى عبد الملك وجلوس أخيه احمد المنصور على العرش بل إنها، أي إسبانيا، ما انفكت تستغل حوادث الحدود الشرقية مع الأتراك في الجزائر لتجعل العاهل المغربي أكثر اقتناعا بقبول الحلف المذكور، بيد أن ملك المغرب، يقول التقرير الفرنسي، ظل يتملص من اتفاق من هذا النوع... أن المغرب غير متحمس للتحالف مع المسيحيين ضد الأتراك ولو نه بالمرصاد لهؤلاء عندما تحدثهم نفسهم بالتعدي على التراب المغربي، وقد كان مما يشجع إسبانيا – يقول التقرير الفرنسي – على مفاتحة المغرب حول هذا المخطط اقتناعه بالكره الذي يكنه أيضا أهل الجزائر وتونس للأتراك وميل السكان في المنطقة المذكورة لتكوين وحدة ضد الأتراك الذين ظلوا يعتبرون بعيدين عن المنطقة... ويضيف التقرير الفرنسي أن نجاح مثل هذا المشروع من شأنه أن يلحق ضربة قاسية بمصالح فرنسا بقدر ما هو في صالح إسبانيا سواء أيام الحرب أو أيام السلام، ويختم التقرير بذكر انطباعات المبعوث الفرنسي على هذا النحو : إنه حسب التجربة التي يتوفر عليها طوال المدة التي قضاها بالمغرب لا يعتقد أن المسؤولين المغاربة يخدعون أبدا لعروض إسبانيا التي تظل العدو المشترك لكلا الفريقين!! وقد ورد هذا التقرير في مجموعة دوكاستري المعروفة تحت عنوان (مصادر لم تنشر من تاريخ المغرب) (القسم السعدي الفرنسي) السلطة الأولى، المجلد الأول ص 108 التعليق رقم 2... وإن المرء ليشعر بالغبطة العارمة وهو يسمع في تلك الأيام عن الصلات المنتظمة التي كانت للجزائر مثلا بالمغرب.... ولننتقل بعد هذا إلى نوع آخر من الوثائق الدبلوماسية التي يزخر بها الأرشيف الأوربي وبخاصة الفرنسي والإسباني والتركي. لقد كانت تركيا – على ما علمناه – مرتبطة مع فرنسا باتفاقيات وأحلاف كان أقدمها ما عقد بين السلطان سليمان القانوني و فرانسوا الأول سنة 1536... الاتفاقية كما أشرت تهدف ضرب مصالح إسبانيا... لا لهدف إلا لأنها تتخالف مع فرنسا حول قضايا تتصل بوراثة العرش... ولابد أن تسير الولايات التابعة للباب العالي مع خط اهداف تلك الاتفاقيات، وحيث إن المغرب ظل الصخرة التي تحطمت عليها مطامع الأتراك فغي الامتداد، فقد كان على فرنسا أن تحاول بشتى الوسائل الدبلوماسية الحصول من المغرب على اتفاق يشبه ما عقدته مع الباب العالي في شأن مضايقة إسبانيا... وهنا ألفت النظر مرة أخرى إلى ملف زاخر حافل بما كان يجري على ساحة المغرب الكبير من اصطدامات واحتكاكات ومواجهات لم تكن في الأصل من صنع أجنبي خارجي، أي إن هناك أدمغة بعيدة عن المنطقة من حيث المسافة ومن حيث المعتقد، ومن حيث الهدف، تلك الأدمغة هي التي تدبر، وعلى الإخوة أن يتقاتلوا فيما بينهم لتنفيذ ما دبر.!! نحن نعيش أيام المفاوضات الجارية بين السلطان المولى إسماعيل وبين الملك لويز الرابع عشر، من أجل الوصول إلى اتفاق... لكن المغرب قبل أن يقبل السير قدما في التوقيع على المعاهدة المشار إليها كان يريد أن يعرف عن فوائد الاتفاق وعوائده منه قبل كل شيء، إن مضايقة إسبانيا من أجل المضايقة فقط أمر لا يهم المغرب، سيما وقضية وراثة العرش لا تتصل به ولا بتقاليده، ولكنه مع ذلك يقبل أن يجلس للمناقشة على أساس... وقد كان السؤال الذي وضعه المغرب على مفاوضيه الفرنسيين : هل ما إذا كانت فرنسا جاهزة لمساعدة المغرب على استرجاع مدينة سبتة؟ لقد كان السلطان المولى إسماعيل قد حرر المعمورة وطنجة والعرائش وأصيلا... ولكنه أمام سبتة يحتاج فيها إلى عون وأي عون!! إن سبتة تشكل كما هو معلوم شبه جزيرة... ولذلك فإن السيطرة عليها إنما تتم لمن يتوفر على أسطول قوي، ومن ثمة كان القائد داود ابن عائشة، قائد الجيش المرابطي قد اشترط على الذين استنجدوا بالمغرب من الأندلس أن يوافوه بأساطيل ابن عباد لتحيط بسبتة قبل أن ينزلها هو من البر..! ومن ثمة أيضا وجدنا السلطان المولى إسماعيل يستخدم في فترة من الزمن ورقته الدبلوماسية مع إنجلترا عندما احتلت جبل طارق، على نحو ما سيفعله السلطان المولى سليمان بمناسبة ظهور نابليون على الساحة الدولية... لقد ظهر أن الملك لويس الرابع عشر كان يريد الحصول على توقيع اتفاقية بدون مقابل ! ومن هنا شاهدنا تشنجا في العلاقات بين البلدين : فرنسا والمغرب... لم يلبث أن استحال إلى توتر... ومن العادي أن يقع بين الدول مثل ذلك التشنج أو التوتر عندما لم تصل تلك الدول إلى اتفاق فيما بينها... ولكن الشيء الغريب أن يتحول القلق الدبلوماسي إلى المواجهة المسلحة، بل إن الأغرب من كل ذلك أن تكون هذه المواجهة على حدودنا ومع إخوتنا العثمانيين، وأن الأكثر غرابة من كل هذا أن نجد آثارا تدل على أن الحلف العثماني الفرنسي كان يقوم بواجبه بكل نشاط في الناحية الشرقية من المغرب !! ولابد أن نشي بصفة خاصة لصورة من تلك المواجهات المؤسفة التي عرفتها سنة 1103 =1692 قبل ثلاثة قرون حيث نجد خطابات مكتوبة موجهة من العثمانيين إلى لويز الرابع عشر تشكو من اتفاق مزعوم بين المغرب وتونس لتصفية الوجود التركي في المنطقة ! ونجد في الوقت ذاته خطابات تهديد للمملكة المغربية من الباب العالي الذي يتساءل عن السبب في عدم تحرير بقية الثغور المغربية والانشغال بوجود الأتراك في إفريقيا !! الأمر الذي لم يتردد السلطان المولى إسماعيل في الجواب عنه مخاطبا العثمانيين بما مفاده : وماذا منعكم انتم من تحرير وهران إلى الآن مع انها في متناول اليد، وعوض تخليصها تسمحون لأنفسكم بإذاية الأعراب هنا... ومرة أخرى نجد الأتراك يرفعون الشكوى للباب العالي بأمر حلف جديد موجه ضد وجودهم بإفريقيا الشمالية، وهذا الحلف المزعوم هذه المرة يضم علاوة على المغرب كلا من طرابلسوتونس... وقد جاء هذا الوهم من كون المغرب كان يتوسط في كثير من الأحيان بين الإيالتين المتجاورتين تونسوطرابلس لإصلاح ذات البين فيما بينهما ! قد نتساءل عن مدى الصلة بين المغرب وبين تونسوطرابلس حتى يقوم المغرب بعلاج مشاكلهما... وهو سؤال موضوع حقيقة، وفيه نجد بدورنا جوابنا عن الشعور الذي يخامر المغرب الأقصى بالاحتفاظ بالمغرب الكبير عربي القلب واللسان... وأنه – أي المغرب – بالرغم من تقديره للعثمانيين كمجاهدين مناضلين إلا أنه لم يخف استنكاره لشعورهم المعادي في بعض الأحيان للعرب على ما يقال... وإن من المهم أن نشير لرسالة إسماعيلية إلى لوس الرابع عشر بتاريخ 14 جمادى الأولى 1122 = 22 يوليه 1709 يعرض المغرب فيها على أن فرنسا المساعدة العسكرية له ولحليفته تركيا ضد النامسا... وقد جاء في هذه الرسالة قول العاهل المغربي : إنه بالرغم من نظرة تركيا للعرب... وخوفها من وحدة كلمتهم... فإننا على أتم الاستعداد للوقوف إلى جانب فرنسا مادامت تعمل يدا واحدة مع تركيا. ومن المهم هنا أن نذكر بالاتفاقية الخطيرة التي أبرمها السلطان عبد الحميد الأول مع روسيا بتاريخ 21 يوليه 1774 = 12 جمادى الأولى 1188 والذي تحتوي المادة الثانية عشر منها على أنه : إذا رغبت دولة روسيا أن تعقد معاهدة تجارية مع الأفارقة : أي حكومات طرابلس الغرب وتونس والجزائر فإن دولتنا العلية تتعهد ببذل اعتبارها وجهدها لحصول دولة روسيا على مرغوبها وتضمن حكومات الإيالات المذكورة بأنها تحافظ على العهود المرسومة... وشعورا من المغرب بما أخذ يظهر على الساحة الإفريقية، وحوض البحر المتوسط، وخاصة بعد هذه الاتفاقية العثمانية الروسية... فقد رأى المغرب أن يتوجه بسفارته إلى ملك النمسا جوزيف الثاني حليف الإمبراطورة الروسية كاثرين حيث أبرم هناك اتفاقية مع النمسا (10 رجب 1198 = 30 مايه 1784). وابتداء من هذا التاريخ أخذ الباب العالي يفكر في تغيير موقفه المعادي إزاء إسبانيا... حتى لا يكثر من خصومه في منطقة الشمال الإفريقي حيث رأينا العثمانيين يتوجهون إلى العاهل المغربي الملك محمد الثالث يطلبون إليه التوسط لدى الداي محمد عصمان باشا والي الجزائر حتى ينضم إلى الصلح الذي أبرموه مع إسبانيا... وهذا ما يفسره الاستدعاء الذي وجهه 1199 = 1785 المغرب إلى بعض الدول الأوربية التي كانت تهدد بمهاجمة السواحل الجزائرية إذا ما استجاب محمد عصمان باشا لرغبة الباب العالي...! فالذي قبل منهم كلامنا ورجع ولم يدخل الجزائر وغيرها من مراسيهم فنحن معه على الصلح والمهادنة كما كنا، والذي أراد منهم دخول الجزائر ومراسيهم ولم يمتثل لما أمرناه به فنحن معه على المحاربة على حد تعبير التصريح الملكي الذي يحتفظ به أرشيف فيينا. ولا ينسينا اهتمام المغرب بإخوته العثمانيين، التعرض للمشكل القانوني الذي وضعه الفصل العاشر من المعاهدة المغربية النمساوية سالفة الذكر 1198=1785... إن هذا الفصل ينص على أنه إذا وقعت الحرب بين الملة النصرانية وبين الملة الإسلامية فإن العلاقات بين الطرفين المغربي والنمساوي لا تتأثر بهذه الحرب بل تبقى المحبة والمودة بين الجانبين إذا ما قارنا هذا الفصل بما ورد في نص الشعار الذي رفعه المغرب آنذاك : نسالم من يسالم تركيا ونحارب من يحاربها.(2) وإذا قارناه بما ورد في خطاب العاهل المغربي لملك فرنسا، فسنجد أن هناك تناقضا بين هاته المواد... والواقع أن المغرب ظل يتجاهل، وبكل بساطة، سائر البنود التي تحد من اتصالاته بإخوته في الدين مهما كانت النتائج على نحو ما سيقع مثلا بالنسبة للاتفاقية المغربية الأمريكية... ومن الأمانة للتاريخ أن نحضر حوارا بين العاهل المغربي وأحد وزرائه (أبو القاسم الزياني) ممن كانوا لا يرون جدوى في إغداق المساعدات على العثمانيين، لقد سأل العاهل وزيره عما يقوله الناس حول مساعدته المادية للأتراك، فأجاب الوزير بصراحة زائدة : إنهم يقولون : لو صرفت هذه الأموال في الجهاد بالمغرب لكان أولى... ولكن العاهل المغربي أقنع وزيره بأن الأمر يتعلق بالتخفيف عن الإخوة من الضربات الموجهة التي تتوالى عليهم من أعداء الإسلام – على حد تعبيره -. ومن جهة أخرى يجب أن نرحل إلى الأرشيف الفرنسي لنجد من جهة أخرى رسالة احتجاج قوية اللهجة تصدر عن المغرب إلى فرنسا بصدد الاعتداء الذي وقع على تونس من طرف الجيش الفرنسي... ويتعلق الأمر بالقلق الشديد الذي عم المغرب وهو يسمع عن قصف المدفعية الفرنسية لسوسة... بعد أن امتنع الباشا علي باي من إرضاء المطالب الفرنسية الملحة. وهكذا نجد رسالة تحمل تاريخ 6 ذي القعدة 1184=3 مارس 1770 موجهة من العاهل إلى لويس الخامس عشر... وقعها عنه الوزيران المعروفان : أحمد المهدي الغزال، وعبد الهادي السلاوي... لقد أعطى السلطان سيدي محمد بن عبد الله مهلة أربعة شهور لكي تعيد فرنسا النظر في سياستها إزاء تونس وإلا فإنه مضطر لإشهار الحرب عليها... الأمر الذي جعل فرنسا تجيب عن الاحتجاج معتذرة وموضحة الأسباب التي دفعت بها لقصف المدينة، وتم الاتصال عندئذ بالقنصل الفرنسي بالمغرب الذي عبر عن الرغبة في أن تعود المياه إلى مجاريها. وماذا عن الاحتلال الإسباني الذي تجدد لوهران؟ لقد كتب السلطان محمود الأول إلى العاهل المغربي يطلب إليه الاستمرار في مساعدته للعثمانيين الموجودين بالجزائر من أجل تخليص الثغر... وكانت فرصة اغتنمها السلطان سيدي محمد بن عبد الله بعقد اتفاق سري يهدف إلى العمل يدا واحدة لتطهير السواحل المغربية من الاحتلال الإسباني من وهران إلى سبتة على ما تترجمه الرواية الأوربية نقلا عن الرسالة التي كتبها الملك محمد الثالث بخطه... وهنا نفتح ملف من الملفات الحزينة التي تكشف عن جوانب أخرى من المعوقات الخارجية التي كانت تقف دون الخطوات نحو الوحدة، بعد أن سمعنا عن المعلومات السابقة... ويتعلق الأمر بالتناور الذي كانت تقوم به إسبانيا أيضا لكسر كل شكل من أشكال الوحدة!!. إن إسبانيا – كما قلنا – كانت تبسط نفوذها على بعض الثغور الجزائرية على نحو ما كان عليه الأمر بالنسبة للمغرب، وفي كل مرة كانت إسبانيا تشعر بعزم صادق من إحدى الجهتين لتمديده في يد الجهة الأخرى، تعمد إلى هذه الجهة و تلك لتمنى وتغري، وهنا كنا نشهد الكوارث... ولابد من العودة إلى الوثائق الإسبانية لنقرأ مئات الدلائل على ضروب المواربات والمناورات التي كانت توجه في الخفاء ضد التقارب بين أقطار المغرب العربي لضرب كل تضامن يهدف لتصفية الاحتلال الإسباني على سواحل بلاد المغرب... وهل نحن بحاجة للتذكير بما حصل والعاهل المغربي يحاصر العرائش... ويجهز جيشه نحو شمال المغرب... إن كلنا يعلم أن هذا الوقت بالذات هو الذي اختير للمناورات التركية على الحدود الشرقية... بل إن كلنا يعلم أن الأمر لم يكن مجرد (صدفة) ولكنه كان وليد (صدفة) استعمارية أو بهذه المناسبة أرجو أن تسمحوا لي أن ألفت النظر إلى المؤرخين الذين يكتفون بالحديث عن اصطدام هذا الجانب بذاك أو تحرش ذاك بهذا، أو يتحدثون عن فشل هذه التجربة بوجود فلان أو فلتان كانوا – في نظرنا – مؤرخين قاصرين سطحيين... إن عليهم أن يبحثوا عن أسباب الفشل ليس فقط فيما تناقلته مؤلفاتنا العادية، ولكن فيما يوجد على الأقل بأرشيفات إسطانبول وفرنساوإسبانيا... ومن المؤسف أن نظل في هذه الحلقة المفرغة بالرغم من ظهور المصادر الدفينة والوثائق المعاصرة... وما بالنا نروح بعيدا... دون أن نقف قليلا مع السلطان سيدي محمد بن عبد الله أثناء حصاره لمدينة مليلية في أعقاب الاتفاق الذي تم بينه وبين محمد عصمان باشا والذي أشرنا إليه. فلقد تحدثت المصادر المغربية عن فك الحصار بصفة مفاجئة... وأخذت تتساءل عن الأسباب التي كان عليها أن نجدها في المصادر الإسبانية وفي المصادر الإنجليزية... – بل وهذا شيء مطرف – أن نكتشفها في كتب النوازل الفقهية الذي قد تعثر بعيدا عن المصادر التاريخية..! لقد كان الأمر يتعلق بخذلان نتيجة لوقيعة إسبانية بين المغرب والجزائر!! إن الذين يتجاهلون الجوانب المضيئة في تاريخ التعاون بين الإيالات، كانوا هم الآخرين يتحركون من منطلقات غير موثقة وربما مغرضة، وكيف نفسر إطباق المصادر العثمانية ذاتها، وعلى رأسها المؤرخ التركي والنائب البرلماني عزيز سميح في كتابه (كتاب الأتراك في شمال إفريقيا) الذي يقول فيه، في المجلد الثاني منه (ص45) بالحرف الواحد لقد كان الغرض من حصار العاهل المغربي السلطان مولاي يزيد لسبتة هو مضايقة إسبانيا حتى تخضع لضغط مجهادي الجزائر... وكيف نفسر تهافت عرب الجزائر أيضا على ساحات القتال إلى جانب إخوانهم المغاربة لتخليص البلاد من نير الاحتلال الأجنبي؟ ثم كيف نفسر التصريح الملكي الذي وزعه الدبلوماسي المغربي السد محمد القادري على أعضاء السلك الأجنبي بتاريخ 5 رمضان 1192= 7 شتنبر 1778 والذي يعطي، حسب الفصل الخامس منه، الحماية الكافية للمراكب الجهادية الجزائرية التي ترسو بالساحل المغربي والذي يزودها بكل ما يدفع عنها غيلة المطاردين والمتتبعين من الإسبان أو من غيرهم، إنما وثائق تحمل أسماء معروفة وتواريخ محددة... ويتأكد من ناحية أخرى أن التقارب بين المغرب والجزائر كان محل تتبع واهتمام زائدين من الباب العالي لأنه كان يرى في تلك الوحدة نذيرا على وجوده بالشمال الإفريقي! وأظن أنه من المفيد لتصوير الموضوع أن نستعرض هنا تقريرا سريا رفعه السفير التركي إسماعيل أفندي سنة 1199=1785 بعد مهمة له لدى الملك محمد الثالث، حيث ورد يشكر العاهل على المساعدة القيمة التي قدمها للإمبراطورية العثمانية في أعقاب صلحها مع إسبانيا وطلبها من واليها بالجزائر أن يجعل حدا لحربه مع إسبانيا على ما أسلفناه حسبما وقفت عليه في أرشيف رئاسة الحكومة في إسطانبول، هذه الأفكار التي نلخصها فيما يلي : قد حضرت مع العاهل المغربي صلاة الجمعة بمسجد السنة حيث دعا في الخطبة لسلطان عبد الحميد، وتعليقا على موضوع خطبة الجمعة ذكر الخطيب بما يتم من ظلم ضد العرب من قبل العثمانيين، وبعد حوار بين العاهل والسفير خلع عليه الملك رداءه... تقرير طويل يخلص فيه إلى القول : بأن الذي يظهر لي أنه، أي ملك المغرب، يكن للدولة العلية الحي وإنه مستعد لتقديم جميع ما في خزائنه من مال للقضية الإسلامية... إلا أني فهمت من المولى محمد أنه عاتب على الباب العالي ضعفه أمام الظلم الذي يقع على العرب والفقهاء والعلماء والأشراف من ولاته بالجزائر مما قد سيؤدي إلى انهيار مملكة السلطان عبد الحميد على حد التقرير الدبلوماسي... وإن على السلطان أن يسمح بتنصيب ولاة في الجزائر من أصل جزائري يختارهم الشعب الجزائري دون تدخل العسكر العثماني على نحو ما في تونسوطرابلس... وفي أثناء إقامتي – يقول السفير إسماعيل أفندي – ورد وفد على المغرب من أعراب الجزائر يحكون ما يلقونه من عنت ومظالم يمجها العقل ويرفضها الشرع... وهكذا فإلى جانب التقارير التي تتحدث عن خميرة الوحدة وجدنا التقارير التركية بدورها لم تخف شعورها بما يسود من آراء إزاء هذه الوحدة... ولنترك أوربا وآسيا ولننتقل إلى أمريكا الشمالية، إلى الولاياتالمتحدة بالذات التي نراها وقد تأزم فيما بينها وبين إيالة طرابلس وإيالة تونس- تقدم بعد مصادقة الكونكريس على الاتفاقية المغربية الأمريكية – تقدم على إرسال خطاب باسم الرئيس جورج واشنطن إلى الملك محمد الثالث بتاريخ 15 ذي القعدة 1202=17 غشت 1788 تطلب إليه أن يقوم بمساعيه الحميدة لدى الإيالتين من أجل بناء علاقات أفضل بين أمريكا وتونسوطرابلس. إن هذه الرسالة بما تبعها من أجوبة ملكية مغربية تعبر عن كثير من الحقائق التاريخية... فهي من ناحية تعكس الروح الطيبة السائدة بين بقية أقطار المغرب العربي كما تدل على أن فكرة الوحدة في طريقها إلى التحقيق، وهي الحقيقة التي تؤكدها المبادرة الأمريكية التي بعثت لإيالة الجزائر بالمستر جوهن لامب (John Lamb)... وإن في أبرز ما يجسد هذه الحقيقة تعاون العاهل المغربي مع حاكم طرابلسوتونس على الحد من تحرك الأسطول الروسي في المنطقة الذي كان في الواقع نتيجة للاتفاقية التركية الروسية عام 1774 السالفة الذكر... وخاصة منع الأسطول من الاقتراب من بوغاز جبل طارق في محاولة للتخفيف عن الباب العالي من ضربات الروس... وهذا يكون أيضا عنصرا واضحا من باب بناء المغرب العربي. بل هناك بادرة تدل في مضمونها على الحاجة التي أخذت تشعر بها الإيالة الجزائرية، ويتعلق الأمر بطلب تقدم به داي الجزائر إلى السلطان المولى سليمان أن يبعث بوفادة مغربية لإصلاح ذات البين بين داي الجزائر وبين طائفة دينية، لقد كان النزاع في الواقع بين عرب تلمسان وبين تركيا على نحو ما نراه اليوم في قبرص بين الأتراك واليونان..! وقد ظهرت في الأفق سحابة خطيرة في سماء العلاقات المغربية الأمريكية كادت تؤدي – إن لم تكن قد أدت فعلا – إلى إشهار الحرب من طرف المغرب على الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1218=1803، وقد يظهر أنه من باب المبالغة والتهويل القول بأن السلطان المولى سليمان يعلن الحرب على الرئيس الأمريكي طوماس جيفرسن! ولكن الواقع هو ذاك على ما نقرأه في المصادر المغربية والليبية والوثائق الأمريكية على السواء... وليس المهم هذا ولكن المهم أن نعرف عن أسباب هذا التوتر الذي لم يكن غير استجابة المغرب لطلب الوفد الليبي الذي ورد يطلب إمداد طرابلس بما تحتاج إليه من مواد، ولم يكن غير مساعدة طرابلس وهي تحاصر السفينة الأمريكية فيلادلفيا ! اعتبر الجانب الأمريكي ذلك خرقا للبند السادس من الاتفاقية الثنائية وهو ينص على عدم تقديم المساعدة من جانب أحد الطرفين لعدو الطرف الآخر... ولم تتصور أمريكا كيف يستطيع مركب مغربي يحمل سم (مبروكة) بقيادة الرائس إبراهيم لوباريس أن يحجز مركبا أمريكيا يحمل اسم (Celia)!. وكما وجدنا المغرب لا يعجز عن تقديم التفسير عندما احتجت النمسا بالأمس على مساعدة تركيا، كذلك وجدناه اليوم يعتمد على تفسير الفصل السادس من المعاهدة المغربية الأمريكية بأن مفهوم المور Maures بالنسبة إلى المغرب شامل لجميع الأسرة الإسلامية سواء كانت في المغرب أو المشرق!! وهكذا وبعد مفاوضات صعبة بين وزير الخارجية المغربية محمد السلاوي وبين المبعوث الأمريكي سيمبسون توصل الطرفان إلى تسوية بالإفراج عن السفن المحتجزة لكل من المغرب وأمريكا... ومما نسجله على هامش استيلاء الأسطول المغربي على قطعة من الأسطول الأمريكي... أن وفدا من تونس برئاسة الشيخ إبراهيم الرياحي كان يوجد في حضرة العاهل أثناء وصول البشريات بحجز المركب الأمريكي فأنشده قصيدة ميمية طويلة يهنئ العاهل فيها، وكان مما ورد في قوله : دلائل فضل الله فينا تترجم وإن غفلت عنها طوائف نوم ومن أكرم النعما ولاية من له علينا وفينا حكمة وتحكم ! وهكذا وجدنا أن هذه الفترة عرفت يقظة جماعية... في سائر الإيالات بضرورة التئام الصف، وكان مما عكس هذا الشعور إرسال وفادة من المغرب إلى الجزائر كانت برئاسة الأمير مولاي إبراهيم لتقديم المواساة والإسعافات في أعقاب مداهمة الأسطول الإنجليزي للساحل الجزائري التي تحدثت عنها مخطوطة الابتسام عن دولة ابن هشام... وبالرغم من الأمر العثماني الذي صدر لولاية الجزائر في تاريخ 15 ربيع الأول 1245=14 شتنبر 1829 بعدم مساندة المغرب الذي وقف ضد بحرية النمسا، بحجة أن هذه الأخيرة في حالة سلم مع تركيا، فإن المغرب مع ذلك أعلن الحداد الشامل عندما تمكنت فرنسا من انتزاع الحكم من الأتراك في الجزائر، الأمر الذي أعقبته الكوارث والأهوال بالنسب للمغرب الذي أصيب في أسطوله بعد أن كان أسطورة البحار... للمغرب الذي اصطدم مع فرنسا في حرب إيسلي التي قصمت ظهر المغرب وكانت فاتحة الشرور التي توالت على البلاد من حدب وصوب على ما نعلم... تلكم ومضات حول فكرة وحدة المغرب الكبير من خلال الوثائق الدبلوماسية وعن معوقاتها الحقيقية التي كانت – كما رأينا – تحمل هويات أجنبية عن الساحة المغربية فمرة باباوية ومرة إسبانية ومرة ثانية فرنسية ومرة ثالثة من جهة أخرى أمريكية ومرة أخرى تركية... كانت جميعها تستهدف كما رأينا أن تبقى بلاد المغرب مفتتة مجزأة منهوكة القوى في حين كانت فيه هذه الإيالات تسعى جاهدة للتواصل فيما بينها بشتى الطرق والوسائل على ما رأينا – سلفا – من تنقل الوفود عبر بلاد المغرب لإحياء آصرة الود والأخوة فيما بينها... وسأقف عند هذا الحد تاركا الفرصة لاجترار تلك الأحداث ربما كان في ذلك ما يساعدنا على أن نكون أكثر وعيا وأكثر استفادة من التاريخ! إنما علينا أن نقتنع بالحقيقة التالية التي ظهرت وتظهر من خلال كل مراحل التاريخ المشترك. تلك أن قادة المغاربة، ما فارقهم أبدا الأمل في الوصول إلى الوحدة، وإذا ما اختلفوا فإنما كان اختلافهم ناتجا عن فشلهم في الوصول إلى صيغة مكنهم من الاتحاد في الوقت الذي يحتفظون فيه بكيانهم. وهكذا فإنهم لم يستفيدوا في معظم الأحيان من المعوقات التي كانت تقف دون تحقيق ذلك الأمل المنشود سواء أكانت تلك المعوقات من صنع داخلي أو عمل أجنبي على ما يكون الحال عليه في غالب الحالات. لقد مرت فكرة المغرب الكبير بفترات تعثر لم تكن الإيالات مسؤولة عنها بحال، ومن حسن الحظ أن نسجل أن نسبة فترات اللقاء كانت أوفر وأكثر... أن شعور المسؤولين بوحدة مصيرهم كان يهمن على كل شعور، وهكذا فقد ظلت هذه البلاد جميعها تنشد اليوم الذي تصبح فيه وحدة متراصة ضد الأطماع الخارجية ولصالح ازدهار المنطقة... (1) الموجز ص 84. (2) المجلد 2 ص 61 عبد الهادي التازي مجلة دعوة الحق 278 العدد