عادت أجنحة الأزمة للتحليق في سماء الأغلبية الحكومية من جديد، بين حزب التقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال، وبين الأخير وحزب العدالة والتنمية بدأت الشقوق بين صفوف الفريق الحكومي تأخذ، شيئا فشيئا، حجما قد ينذر بقدوم شبح التصدع. ولم تمض سوى عشرة أيام على اجتماع رئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران بقادة الأحزاب المشاركة في الحكومة لنزع فتيل التوتر. لم يتأخر حزب الاستقلال كثيرا في الرد على مبادرة وزير الصحة الحسين الوردي عن التقدم والاشتراكية بطلبه تدخل المجلس الأعلى للحسابات فيما وصفته مصادر من الوزارة ب « الاختلالات» الواقعة على عهد الوزيرة السابقة الاستقلالية ياسمينة بادو، موضحة أن طلب الوزير يستند على تقرير أنجزته المفتشية العامة للوزارة كشف فيه عن وجود تلاعبات وتقديم عمولات خارج القانون، فضلا عن عدم حاجة المغرب لنوع من الأدوية واللقاح يتم استيرادها من مختبرات أدوية عالمية. بالبنط العريض وعلى صفحتها الأولى ردت جريدة حزب الاستقلال:«العلم تكشف خبايا الإصلاح المفترى عليه بوزارة الصحة» متسائلة عما إذا كان الأمر «يتعلق بخطة مدروسة للوزير الجديد لتمهيد الطريق لاستقدام الموالين لحزبه ؟» في اتهام صريح للوزير الوردي بالخوض في عملية تصفية حسابات سياسية، خاصة الجريدة المذكورة وهي تدافع «عن المجهودات المبذولة من طرف المسؤولين عن التدبير بقسم التمويلات بالوزارة» لم تتردد في وصف مبادرة الوزير الجديد «بأنها حملة تخدم أجندة سياسية صرف» مشيرة إلى أن «جريدة حزب الوزير الوصي تتهم النقابات الأكثر تمثيلية بتلقي رشاوى ». أكثر من ذلك فإن الجريدة لمحت إلى خضوع الوزير الجديد لضعط لوبيات الصناعات الدوائية عندما أفادت بأنه عقد اجتماعا مع الشركات الأجنبية المعنية واستمع إلى أجوبتها ناقلة عن مصادر نقابية بأن « النقابات الأكثر تمثيلية في القطاع تتحدث عن عودة لوبي الفساد وخضوع الوزير له». ردود وصفها وزير الصحة الحسين الوردي ب« المبالغ فيها»، موضحا بأنه لا يستهدف شخصا بعينه ولا جهة سياسية معينة وخاصة حزب الاستقلال الذي « أكن احتراما كبيرا لأعضائه» ، « كل ما في الأمر أنني اخترت أن أضع تقرير المفتشية العامة أمام أصحاب الاختصاص أي قضاة المجلس الأعلى للحسابات ولهم أن يقيموا ما جاء فيه» يقول الوردي مستبعدا أن يكون قد « قصد الإساءة إلى أحد» وأنه لم يكن يرغب في « إطلاع وسائل الإعلام على أمر الإحالة على المجلس» مرجحا أن« تكون جهة ما تريد الإساءة إلى علاقته بحزب الاستقلال وراء تسريب الخبر». توتر قطاع الصحة سيتطلب لا محال تدخلا آخر لرئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران من أجل تجنب الأسوء، لكن قبل ذلك سيكون عليه، أولا، إطفاء نار الغضب التي بدأ يشتد لهيبها داخل حزبه بعد توالي حوادث النيران « الصديقة» المنطلقة بدورها من قلعة حزب عباس الفاسي الذي كثف أصدقاؤه من الطلقات المبخسة لعملية الكشف عن لائحة المستفيدين من « الكريمات»، قبل أن يرفع حميد شباط، أمين عام الاتحاد العام للشغالين الدرع النقابي لحزب الاستقلال المنسحب أخيرا من جلسات الحوار الاجتماعي، من أجواء التوتر داخل الأغلبية الحكومية وهو يدافع عن أصحاب «الكريمات» واصفا حكومة ابن كيران التي يشارك فيها حزبه ب« حكومة الجفاف». لا يرغب حلفاء حزب الاستقلال داخل الأغلبية الحكومية في «دفن الماضي» كما فعل القيادي الاستقلالي في روايته الشهيرة. واقع لم يزد أصدقاء عباس الفاسي إلا تشبتا بالدفاع على حصيلة وزرائه في القطاعات التي كانوا يديرون شؤونها في الحكومة السابقة ولو كلف الأمر مزيدا من التوتر بين أقطاب الحكومة الحالية . قبل ياسمينة بادو وزيرة الصحة السابقة وفريقها، دافعت « العلم » لسان حال حزب الاستقلال عن حصيلة كريم غلاب على رأس قطاع التجهيز والنقل، مقللة من إقدام الوزير الحالي على نشر لوائح المستفيدين من مؤذونيات النقل. الجريدة اعتبرت أن غلاب أنجز قسطا كبيرا من العمل في هذا الاتجاه وهي تنشر نهاية الأسبوع الماضي مضامين مشروع قانون تم إنجازه في عهده، يتعلق بالنقل عبر الطرق، ظل « يراوح مكانه منذ شهور في الأمانة العامة للحكومة» رغم أنه « تضمن تدابير وإجراءات لتنظيم القطاع الذي كان تاريخيا عرضة لاقتصاد الريع» حسب وصف الجريدة. وفضحت كلمتا عباس الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال، وحميد شباط، الكاتب العام للاتحاد العام للشغالين بالمغرب، خلافات كثيرة في الأغلبية الحكومية بقيادة عبد الإله بنكيران. وحول المسؤولان الاستقلاليان الذكرى 52 للنقابة العمالية، التي خلدتها النقابة بالبيضاء، إلى مناسبة لجلد من أسموهما «الشعبويين»، و«المتأسلمين» الذين ساعدهم الظرف الدولي، في إشارة إلى الربيع العربي، في تصدر نتائج الانتخابات الأخيرة، كما لم ينج حزب «التراكتور»، على حد وصف شباط، من انتقادات، قائلا إن «سبع أيام ديال الباكور» في الحياة السياسية لحزب الأصالة والمعاصرة «انتهت». وقال شباط بسخرية لاذعة إن الحكومة السابقة تمتعت بأربع سنوات ممطرة، في حين «هما ما صباتش ليهم الشتا، حيت العمال والولاة ورؤوس الأموال الكبيرة هم من أدى صلاة الاستسقاء، وهذا سبب كاف، يقول شباط في معرض سخريته، «باش إيجي الجفاف، الله يرحمنا». واختار عباس الفاسي أن تتمحور كلمته، في الذكرى الخاصة بالنقابة العمالية أو «القوات المسلحة» لحزب الاستقلال كما وصفها شباط، حول الحزب السياسي الذي يقوده، مؤكدا أن «التواضع جعلنا دائما نتجنب الحديث عن منجزاتنا في جميع المجالات أثناء قيادتنا الحكومة السابقة، لكن هناك أناسا يتبنونها على أنها لهم». مضيفا بفخر أن تشبث جميع النقابات في الحوار الأخير مع الحكومة باتفاق 24 أبريل، يؤكد أن «هذا الأخير تحول إلى ميثاق ومرجعية جميع النقابات، لأن مطالبها لم تكن تجد قبولا مثلما وجدته في الحكومة التي قادها حزبنا». وأجرى الأمين العام لحزب الاستقلال مقارنة بين منهجية عمل حكومته السابقة وعمل الحكومة الحالية، بمناسبة حديثه عن انسحاب ممثلي الاتحاد العام للشغالين بالمغرب من الحوار الاجتماعي، ملحا على «أنني لم أكن أوجه دعوة إلى أي نقابة بدون برنامج أو جدول الأعمال، لكن الغريب أن نقابيينا تلقوا دعوة لحضور الاجتماع دون جدول أعمال لكي يكونوا مستعدين لكل شيء، كما أنه في حكومتنا كان وزير المالية ملزما بتقديم عرض لمشروع القانون المالية أمام الفرقاء النقابيين وهذا ما لم يحصل الآن»، وخلص الفاسي في مقارناته إلى إنصاف شباط «عندو الحق يحتج وعندهم الحق ينسحبوا من الاجتماع». ووجه الفاسي سؤالا مباشرا إلى النقابيين والنقابيات الذين ملؤوا كل جوانب مسرح محمد السادس بالبيضاء، إن كانوا لمسوا تحسنا في المكتسبات أثناء قيادة الحزب للحكومة، «هل تتفقون معي أم لا»، لتصدح القاعة موافقة، ومن النقابيين من دعا «العدالة والتنمية» إلى الرحيل. مقالع الرمال ونظام المساعدة الطبية وصندوق التضامن وبرنامج تيسير والدعم المستمر للمواد الأساسية ورفع القدرة الشرائية وغيرها برامج تشرف الحكومة الحالية على تطبيقها، لكن عباس الفاسي ذكر بها على أنها مشاريع وبرامج خرجت من قلب الحكومة السابقة، في إشارة إلى أن وزراء في الحكومة الحالية ينسبونها إلى أنفسهم. من جانبه، جنح شباط إلى لغته الحماسية كالعادة، فكان التكبير لثلاث مرات بداية خطابه، قبل أن يقول إن الرتبة الأولى في الاستحقاقات المقبلة «ستكون لحزبنا»، «ونحن سيف حزب الاستقلال وسندافع عنه، وسنتعبأ لنحصل على الرتبة الأولى في كل الاستحقاقات المقبلة، لأننا مجاهدون، بدأنا من سنوات الدماء ثم سنوات الرصاص إلى المغرب الجديد». مضيفا أن المغرب لا يمكن أن يظل مستقرا بدون حزب الاستقلال ف «حزبنا هو حزب المهمات الصعبة وكل الأحزاب التي تأسست بعده كانت للقضاء عليه، وحزبنا حزب النحل وحزبهم حزب الذباب»، متمسكا عند حديثه عن أحزاب أخرى، خاصة حزبي الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية، بأنها كلها أحزاب تأسست بعد الاستقلال وللقضاء عليه، «لكننا بمثابة الشمعة التي تحترق لتضيء للآخرين». أما حزب التراكتور «فسبع أيام ديال الباكور سلات» وقوته تكمن في «الباشوات والعمال والولاة، ما بني على باطل فهو باطل»، بل إنه، يضيف شباط بحماسة، «فيروس ينخر الديمقراطية ببلادنا». وكانت انتقادات شباط في حزب العدالة والتنمية مركزة في معركة «الكريمات»، متحديا وزراءه في «إظهار لائحة الأشخاص الذين قالوا إنهم يملكون 500 كريمة، أما أبطالنا فهم يستحقون الكريمات والمقاومون كذلك، وهذه شعبوية لن ننساق وراءها، لأن هؤلاء يستحقون مائة كريمة وليس واحدة فقط». ورفع شباط تحديه إلى مطالبة من أسماهم ب «هؤلاء» بعرض لوائح مستفيدين لا يستحقون الاستفادة من الكريمات، خاصة أولئك «الذين قالوا قبل وصولهم إلى الحكم إنهم يملكون 500 كريمة». ونصح شباط الوزراء الجدد بالتمسك بالانتماء إلى الشعب المغربي، «هم وزراء جدد، كانوا يجلسون على كراس مهترئة، والآن يجلسون على كراس يساوي كل واحد منها خمسة ملايين، نقدر ظروفهم، لأنهم أيضا كانوا يقطنون في شقق صغيرة والآن انتقلوا إلى قصور، وكانوا يسوقون سيارات متواضعة وهم الآن يركبون سيارات فاخرة، لذلك ننصحهم بأن يكونوا «أولاد الشعب ومع مطالب الشعب». واعتبر الكاتب العام للاتحاد العام للشغالين بالمغرب أن نقابته تتعرض لهجمة شرسة منذ ثلاثة أشهر، «هناك تعليمات لاستهدافنا، وقمعنا ثم دعوتنا إلى الحوار، لن نقبل بذلك، يغلقون المقرات ويهجمون علينا ثم يدعوننا إلى الحوار». وانتقد شباط كذلك سياسة هدم المنازل العشوائية، مطالبا بتوفير السكن اللائق أولا قبل الهدم. كما انتقد الطريقة التي يعلن بها حزب العدالة والتنمية الحرب على الفساد، «قبل أيام وقع بنهيمة والداودي اتفاقية للاستفادة من 300 تذكرة طائرة، أليس هذا فسادا؟ لذلك فالحديث عن الفساد يجب أن يكون مرفوقا بأدلة يجب تقديمها إلى الشعب، فهذا الأخير ليس بحاجة إلى مجرد الكلام، بل الأدلة، وأكثر من ذلك هو يريد الخبز والسكن والصحة والعمل». بلال التليدي وتحت عنوان (وهم المراهنة على "التصدع" الحكومي) كتب " ما تنشره بعض وسائل الإعلام من حديث عن التصدع الحكومي جدير بأن يقرأ وتحلل أبعاده، خاصة وقد وقع اطراد في التناول، بل ولوحظ أن هناك اشتغالا إعلاميا على تضخيم الخلافات بين مكونات التحالف ورفعها إلى مستوى «تفجير» الحكومة. في البدء وقع التركيز على تصريحات أو وجهات نظر صدرت عن بعض الوزراء ليتم رصد ردود فعل وزراء آخرين من داخل التحالف الحكومي للتأشير على وجود خلافات حقيقية داخل الجسم الحكومي. ثم انتهى الأمر بهذا الاشتغال الإعلامي، بعد كلمة رئيس الحكومة الحاسمة في شأن التماسك الحكومي، إلى افتعال قراءات سياسية لا تستند إلى أي مؤشر ملموس، لإعادة طرح قضية التصدع الحكومي، سواء من خلال الدفع بديناميات الحراك في البيت الاستقلالي قبيل التحضير للمؤتمر، أو من خلال التوجيه السياسي للقاء جمع بين رئيس الحكومة وبين الأمين العام الجديد لحزب الأصالة والمعاصرة. أمام هذه القراءات السياسية التي تجتهد بعض وسائل الإعلام بشكل مطرد في تسويقها عن مكونات الأغلبية الحكومية، يطرح التساؤل عن حقيقة تماسك التحالف الحكومي ومستقبله، وهل يتعلق الأمر فعلا بوجود تصدع حكومي؟ أم بوجود خلافات عادية لا تنفك عنها جميع الأغلبيات الحكومية؟ أم إن هناك إرادة ما تسعى للاشتغال على تضخيم الخلافات داخل مكونات الأغلبية ونقلها من مستواها الطبيعي إلى مستويات غير متحكم فيها وذلك لصرف الرأي العام عن جهود الحكومة في محاربة الفساد والريع؟ عمليا، لا يمكن أن نستبعد وجود خلافات داخل مكونات الأغلبية، فالتحالف الحكومي مكون من أربعة أحزاب سياسية، يحتفظ كل حزب منها باختياراته الفكرية ومقارباته السياسية لتنزيل مقتضيات التصريح الحكومي. ومن ثمة، فوجود خلافات في هذا الاتجاه، يعتبر أمرا طبيعيا، بل قد يكون أداة إغناء للتجربة وإثرائها، كما يمكن أن يعتبر استمرار الحكومة دليلا على قدرتها على تأمين حق الاختلاف، ونجاعتها في تدبيره، مما يعني عدم صدقية الانتقادات التي كانت توجه إلى الإسلاميين خاصة وأنهم أثبتوا من خلال هذه التجربة انفتاحهم على الآخر، وقبولهم للاختلاف وتعايشهم مع مكونات لا يتقاسمون معها بعض الخلفيات الفكرية. أما خيار التصدع الحكومي، فهو وإن كان واردا نظريا، إلا أن تحققه في الواقع يتطلب الاستناد إلى مؤشرات كافية يمكن البناء عليها للانتهاء إلى هذه الخلاصة، وهو ما لم يتوفر لحد الساعة، بل هذا ما يدفع المعالجات الإعلامية التي تشتغل على تضخيم الخلاف بين مكونات الحكومية إلى العدول عن الاستدلال بالمعطيات والوقائع إلى افتعال قراءات سياسية محتملة يصعب ربطها بقضية تهيئ خيارات ما بعد التصدع الحكومي. يبقى أن نخضع هذه المعالجات الإعلامية نفسها إلى عملية التحليل لاسيما وأن المسافة بين الإعلام والسياسة تكاد اليوم تتقارب إلى درجة التماهي، كما أن تزامن التركيز على قضية التصدع الحكومي مع مبادرات حكومية انصبت في خانة محاربة الفساد والريع يطرح أكثر من علامة استفهام حول دواعي الاشتغال الإعلامي حول تضخيم الخلافات بين مكونات الأغلبية. إن رصد بدايات الاشتغال الإعلامي على تضخيم الخلافات بين مكونات الأغلبية، وملاحظة تزامن ذلك مع مبادرات لمحاربة الفساد والريع تم الإعلان عنها حكوميا، وتسجيل ارتفاع وتيرة الاشتغال على تضخيم الخلافات الحكومية كلما زادت جرعة محاربة الفساد، والتحول من الاستناد إلى المعطيات والمؤشرات الصغرى إلى افتعال قراءات سياسية بعيدة الاحتمال، كل ذلك يؤشر على وجود إرادة معينة تتجه نحو إنتاج حكاية اسمها « التصدع الحكومي» لشغل الرأي العام بها، ومنع حصول الالتحام الشعبي المدني حول الجهود الحكومية لمحاربة الفساد والريع".