تدبير قطاعي الماء والكهرباء موضوع أصبح في صلب الخلافات بين سكان مدن وأقاليم الجهة الشرقية وهذه المؤسسات،ثم بين هذه الأخيرة وبين المجالس البلدية والقروية ما زالت تمر عبر المصالح الشخصية لبعض المنتخبين.وأضحت إعادة النظر في العقود المبرمة معها مطلبا أساسيا للسكان كما كان في عدد من مدن المغرب بسبب احتجاجات قام بها المواطنون منذ أكثر من عقد من الزمان وتطورت خلال العام الماضي بسبب الحراك الاجتماعي الذي عرفه المغرب والمنطقة العربية بشكل عام. ففي وجدة مثلا أصبح موضوع وكالة توزيع الماء والكهرباء "لاراديو" من الطابوهات داخل المجلس الجماعي (أغلبية ومعارضة)،ولم نسمع يوما أن أحد المنتخبين طالب بفتح تحقيق لماذا سعر الماء هو الأغلى وطنيا؟ وهل سيتم تعويض الساكنة عن كل تلك الأرباح التي جنتها الوكالة بفضل أسعارها الغالية جدا...وما قول المعارضة التي تعبر في جزء كبير منها عن هموم المواطنين.وإذا أخذنا وجدة كنموذج فإن الأمر ينطبق على عدد من مدن الجهة الشرقية التي فوت فيها قطاعا الماء والكهرباء لمن لا هم لهم إلا جني أكثر قدر ممكن من الربح في ظل الغفلة،سواء غفلة السكان أو غفلة المسؤولين الجماعيين أو تغافلهم.. وتأمل الساكنة في المجلس الجماعي القادم خيرا،وتنتظر محاسبته للوكالة وإلزامها باسترداد البلدية والمستهلكين للأرباح التي حققتها بفضل تسعيرتها الخيالية في مدينة تضررت كثيرا من الجفاف وإغلاق الحدود،ولم تسعفها غير الأوراش الكبرى التي دشنها جلالة الملك في مختلف زياراته لحاضرة الجهة الشرقية. إجمالا يمكن القول أن ملف التدبير المفوض لمجموعة من القطاعات،لعل أهمه قطاع الماء والكهرباء والتطهير بوجدة من خلال "لاراديو" أبان عن فشله الذريع،خصوصا أن هذه الوكالة لم تنجح سوى في استنزاف جيوب المواطنين بمجموعة من الفواتير الشهرية،والزيادات المتكررة،وتحسين الوضعية الاجتماعية للمستخدمين،والمساهمة الضعيفة في الأوراش التنموية.كما أن مركز النداء الخاص بالطوارئ نادرا ما يجيب خصوصا أثناء الفيضانات التي تضرب المنطقة حيث يتم تعطيل اشتغاله.كما تقوم بتهديدهم بقطع الماء دون إشعار المواطنين،والتقارب الزمني بين الفواتير التي تطالب بها،ومنح المستخدمين المكلفين بمراقبة العدادات عطلة صيفية حتى يتجاوز المواطنون نظام الأشطر مما يمكنها ذلك من تحقيق أرباح خيالية. فالتدبير المفوض للمرافق العامة،كما عرفه المشرع المغربي في القانون رقم: 54.05 هو عقد يفوض بموجبه شخص معنوي خاضع للقانون العام يسمى المفوض،لمدة محددة،تدبير مرفق عام يتولى مسؤوليته،إلى شخص معنوي خاضع للقانون العام أو الخاص يسمى المفوض إليه،يخول إليه حق تحصيل أجره من المترفقين،أو تحقيق أرباح من التدبير المذكور،أو هما معا.وبالتالي فإنه من الناحية القانونية عقد ذو طبيعة مزدوجة،عقد إداري وعقد خاص.فبخصوص عقد إداري،يتعلق بمقتضيات تنظيمية،وهي المقتضيات التي يمتد أثرها للمنتفعين بتنظيم المرفق العام وسيره وتحديد التعريفات التي يدفعها المنتفعين وشروط الخدمات التي يقدمها المرفق وكيفية مراقبة التفويض والجزاءات.أما بخصوص عقد خاص،ذلك لما يتضمن من معطيات تعاقدية وهي المقتضيات التي لا يمتد أثرها للمنتفعين بل تنظم العلاقة بين السلطة المفوضة والمفوض إليه،مثلا الإعفاء من فوائد القروض،وتجديد الامتيازات المالية،وضمان حد أدنى من الأرباح والإعفاءات الضريبية،هذا فضلا عن تحديده مدة العقد ومسألة تجديده،والسلطة المفوضة لا تملك حق تعديل الشروط التعاقدية،كما هو الشأن بالنسبة للمقتضيات التنظيمية لأن العقد شريعة المتعاقدين وكل نزاع بشأنها يتم الفصل فيه من قبل القضاء العادي.ويفرض القانون على المفوض إليه بأن يتأسس في شكل شركة خاضعة للقانون الوطني يكون غرضها منحصرا في تدبير المرفق العمومي،ويمكنها أن تستغل أنشطة تكميلية للمرفق،فضلا عن نص القانون على مبدأ الاحتفاظ بالمستخدمين وحقوقهم المكتسبة من طرف المفوض إليه،ونشر المعلومات المالية بهدف ضمان الشفافية للتدبير المفوض أمام السلطة المفوضة وأمام المرتفقين والجمهور بصفة عامة. ومنذ تفويض قطاع التطهير بما فيه الماء والكهرباء في مدن الدارالبيضاء،الرباط وطنجة وتطوان ووجدة ...لم تنقطع الاحتجاجات، البيانات،الوقفات،والمطالبات بضرورة محاسبة وطرد المفوض لهم ورفع دعاوي قضائية...لكنها تبقى دعوات مناسباتية،تتسم بالتشتت وبطابع رد فعلي وقتي وعفوي،لم تصل إلى نتاج موضوعي لعمل تنظيمي مؤطر ومسلح بإمكانيات مادية وايديولوجية معينة.لتبقى في غالبيتها، الدعوات،مرتبطة غالبا بابتزاز المفوض لهم أو توظيف سياسوي لملف التدبير المفوض خصوصا مع قرب كل استحقاق انتخابي.فيما تظل أغلب فعاليات المجتمع المدني الأخرى من جمعيات حماية المستهلك وجمعيات حقوقية وغيرها تفتقد إلى برامج فعلية مسطر ورؤية واضحة واقعية بعيدة عن الشعبوية ...وذلك لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية.بل من الطريف أن أغلب الحاملين للواء محاسبة المُفوض لهم لم يطلعوا على كناش التحملات...وهناك رؤساء مجالس جماعية أعضاء بلجن التتبع غير قادرين على فرض قراراتهم عليها.لكن يبقى تسطير برنامج واضح وإقامة تكتل جمعوي وتأطير حركة احتجاجية قادرين على إلزام المفوض لهم باحترام كناش التحملات،مع وضع في الأفق الضغط للحيلولة دون تجديد تلك الاتفاقيات. والتدبير المفوض،هو أحد أوجه تفويت القطاع العام لصالح القطاع الخاص،وأحد أكثر المجالات خصوبة في الاستغلال ونهب المال العام من طرف جهات أجنبية ومحلية أو هما معا، جاء نتيجة سياسات فساد ممنهج للمرفق العمومي على مدى عقود،ولا زال متواصلا لحد الآن من خلال ما تكشفه تقارير المجالس الأعلى للحسابات السنوية . حيث فسح المجال للمنتخبين بمباركة من سلطات الوصاية لإفراغ الميزانيات العمومية من محتوياتها.بل إن أغلبها حاليا أصبح عاجزا عن سداد المبالغ التي تطالبه بها الجهة المُفَوَّضُ لها مما جعل الجهات المفوضة تحت رحمتها.لتسارع الدولة فيما بعد إلى أجرأة أحد أهم الفصول التبعية للمؤسسات المالية ممثلة في خوصصة القطاعات المنهكة،أو المفلسة،لصالح الشركات المتعددة الجنسية أو الشركات المعروفة بعدم احترامها لأي تعهدات تعهدت به.وفي أحيان كثيرة فوتت قطاعات عمومية لم ترق إلى مستويات الإفلاس،أو الوضعية الحرجة بدعوى الفعالية والجودة،ليتمخض عن استفرادها بالاتفاق،كافة الآفات والنتائج المحبطة.شرع في تطبيق التدبير المفوض بالمغرب،في نهاية الثمانينيات،استجابة لمتطلبات الرأسمال العالمي،من خلال تطبيق ما اتفق عليه في جولة الأوروغواي (اتفاقيات الجات)،حيث نصت على ضرورة تحرر الدول من سوق الخدمات العمومية وتفويته لصالح القطاع الخاص.منذ سنة 1993 حرص المغرب على الخصخصة،ثم سنة 1997 عقب التوقيع على اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي،تسلم المغرب بموجبها دعما ماليا قيمته 51 مليون درهم،في إطار برنامج "ميدا "،الداعم لتسريع هيكلة القطاع العام وخصخصته،واضعا شبكة من الخبراء المتخصصين عالميا رهن إشارة المغرب. ومميزات وتطبيقات عقد التدبير المفوض التي يمكن تقسيمها إلى نوعين،وذلك حسب وجهة نظر قانونية.الأولى مقاربة قانونية،وتتمثل في أنه عقد يمتد بين 5 و 30 سنة،وأن استرداده أو إنهائه تحدها بنود الاتفاقية،حيث دفتر التحملات ودفتر الشروط العامة والخاصة والملاحق.وهو عقد يبرم بحرية،وقد يتم بقيود مرسوم 30 دجنبر 1998 الخاص بالصفقات العمومية للدولة بالمباراة أو بطلب العروض.كما أنه عقد يخضع من حيث شكل الرقابة للجنة الضبط ولآليات الافتحاص الخارجي والتدقيق بمبادرة من وزير الداخلية والوزير المكلف بالمالية،علما أنه يخضع سلفا لرقابة المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية،وذلك بمقتضى ظهير 14 أبريل 1960.أما المقاربة الثانية فهي واقعية،تنم عن تساؤلات كبرى تمس مثلا موقع الرأسمال الوطني الخاص أمام تحدي الشركات الأجنبية الأوروبية في ميادين حساسة كتوزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل والنقل الحضري وجمع النفايات...وكذا قدرة السلطات المسؤولة على مراقبة المُفوض لهم بالزامهم على احترام بنود العقود التي وقعتها معهم خصوصا في قطاعات لها علاقة مباشرة بالمواطنين...فالسلطات تبني تصورها أنها من خلال تشجيع وتحفيز هذا النوع من التدبير إلى تحسين الخدمات وتيسيرها بالنسبة للمواطنين وتقليص التكلفة بالنسبة لميزانية الدولة،وترشيد النفقات ودعم مجالات تتطلب تعبئة رؤوس أموال مهمة.فيما يستطيع المفوض لهم توظيف الكفاءات والطاقات اللازمة لإنجاح المشروع وجني الأرباح من وراءه،كما ترمي السلطات العمومية من وراءه كذلك تشجيع وخلق التنافسية داخل نسيج الاقتصاد الوطني وجلب الاستثمار الأجنبي.لكن كل تجارب التدبير المفوض بالمغرب،خصوصا تلك المرتبطة بقطاعات تمس شريحة كبيرة من المواطنين بشكل مباشر كتوزيع الماء والكهرباء والنظافة،أبانت عن فشلها نظرا لغياب الرقابة،وجشع المُفَوَّض لهم،وتهميش الكفاءات الوطنية أو المحلية،ورداءة الخدمات،وقوة اللوبي الذي يدعمها مما يجعلها خارج أي مراقبة للمجالس المفوضة أو السلطات المعنية... محاولة الدفاع عن المفوض لهم بعدم تحميلهم كامل المسؤولية هو محاولة لتبرير عجزهم على مراقبتهم والزامهم بما اتفق عليها بكناش التحملات،خصوصا في حجم الاستثمارات التي يجب عليهم توظيفها في البنيات التحتية خلال مدة التفويت.وعموما،يبقى ملف التدبير المفوض في حقيقة الأمر،تحت وصاية مباشرة لوزارة الداخلية،يتداخل فيه ما هو سياسي واقتصادي. (أنظر : "الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بوجدة في تقرير المجلس الجهوي للحسابات بوجدة" http://www.oujdia.info/news/news_view_9827.html