حاشا لله أن نرثيكم شعرا و شعركم أبلغ مرجع وأعظم منهل، ولوكان رثاؤكم شعرا نثرناه تواضعا وإجلالا لشاعر العرب الأول، فأنتم في الشعر بمنزلة البحر وبقية الشعراء في مقام الجدول، ويحرم علينا ندبكم بالدمع وحده فوق الجفن يسيل على الزرع كالوبل، وأنتم عندنا أحياء ترزقون عشاقا منذ مولد قصيدكم الى عهد الأزل، وكيف لعين أن تبكي عينا للشعر لا تنضب من الجود وتسقي كل محفل، وهل يعقل رثاء كوكب في سماء الأدب بين الكواكب ليس بآفل. تنام العيون بذل العيش راضية وعين النجم ساهرة لايغريها سواد الليل ولابياض المقل، تطلب العلا في لحدها وقد سقاها الموت شربة غدر فبادلته كأس شعر كان مزاجها من خلد الأجل. وتحن الشمس لظل الجواهري فتشرق على العراق بخد أحمر خجل، ويسدل القمر ضوء مقلتيه على بغداد متزينا بأوزان من كحل. دجلة والفرات نهرا العراق الأبي الخالد لايصبان في شط العرب إلا بمعية ثالثهما البطل، ونخيل بغدان يزدان حلاوة كلما ارتوى من أبيات رحيقها من عسل . هو من جعل دجلة تتمايل غنجا وتحييه عن بعد وتفيض من الدلل، والفرات يسكر بكلمات معتقة ويترنح على ضفتيه من شدة الثمل. ملك الشعر وسلطان الشعراء بين العرب وسائر العجم والدول، أتى بشعر لم تأت به أنثى ولم يخطر على بال جني ولا قريحة رجل. هو من يُرَقّص الحروف العربية بدفّ رويّ دفؤه من حنين وهجران وغزل، ويرفع الروح المرهفة من مهبط الدنى إلى مراتب أدناها في زحل، ويلهو بالنفس والنفس طامعة إذا أشعرها بين ميزان الجد والهزل. يصوغ جواهر دررها من حب متيم مولع بأرض العراق مسقط الرسل، ويجند القوافي موجا عاتيا على شاطئ المهانة تلفظ كل مستبد مبتذل، ويشحذ همم الشعوب العربية عزا ويملؤها نخوة تنأى بهما عن أسفل السفح إلى سنا الجبل . قضى عقودا بعيدا عن دار السلام كأم عزلت على الكراهة عن طفل، يحسبه العدى منفيا الى بلاد الغُرْبِ وعز العلا في طلب الترحال والنقل، وفوق الأرض للكريم وسع عن ضيق الأذى وتحتها يضيق ذرعا بأمثاله من الشعراء الفضل، خاب ظنهم إن عزل العراق عن العراق ليس من المحال بل لايعقل . أيا عراقا عاشقا للعراق إستنفد نصف عمره يرسل إليه بالورود والنصف الآخر بالقبل، أيامبدعا أجزل في البيان مفصحا عن كل ملموس وواصفا كل متخيل، أياطيبا طاب فوك عن كل شجرة طيبة أنبتتها في قلوب المنعمين وعن كل سنبل، جزاك الله عنا خيرا بماقدمت وعوضك عن دنيانا بالجنان وبكل ماهو أجمل.