لعدل هو الإنصاف والقسط وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إجحاف ولا ظلم ومن غير إفراط ولا تفريط. وضد العدل هو الظلم وتجاوز الحد. والعدل يحتل مرتبة هامة في أعلى هرم القيم والأخلاق التي دعا إليها الإسلام، ولا أدل على ذلك من أن الله تعالى تسمّى بالعدل ووصف به نفسه، "فالعدل" اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته العليا. ولأهمية العدل بالنسبة للأفراد والمجتمعات، فقد تكرر الأمر به في الكثير من المواطن في القرآن والسنة، نظرا لمقاصده وفوائده العدة. يقول الله تعال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل:90. وعن أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " (مسلم). فالعدل يوفر الحماية لجميع أفراد المجتمع ويضمن حقوقهم، وخاصة الفئات الهشة والمستضعفة منهم، لأن التخلق بالعدل من شأنه أن يمنع الأقوياء من ظلم الضعفاء وأخذ حقوقهم. وإذا ساد العدل في مجتمع وأطمأن كل أفراده على حقوقهم، انتشر الحب والمودة بينهم وحل السلام والأمن والاطمئنان. وقد حُكي أن أحد رسل الملوك جاء لمقابلة عمر بن الخطاب، فوجده نائمًا تحت شجرة، فتعجب؛ إذ كيف ينام حاكم المسلمين دون حَرَسٍ؟ وقال: “حكمتَ فعدلتَ فأمنت فنمتَ يا عمر”. فالعدل أساس ومصدر الأمن والأمان بالنسبة للأفراد والمجتمعات. وفي زمن عمر بن عبد العزيز، كتب بعض عمّاله يشكو إليه من خراب مدينته ويسأله مالاً يرمِّمُها به – فكتب إليه عمر بقوله: " قد فهمت كتابك فإذا قرأت كتابي هذا فحصّن مدينتك بالعدل، ونقِّ طرقها من الظلم فإنه يرمِمُها". إن القوة والقمع أو التخويف والإغراء وحتى السجون، لا تحقق الأمن أبدا. فبالإضافة إلى أن هذه الوسائل تنهك ميزانيات الدول، فإنها لا تعدو كونها مسكّنات قد تهدّئ الأوضاع مؤقتا، لتنفجر من جديد. الذي يحقق الأمن والراحة للحكام والمحكومين على حد سواء، هو العدل ولا شيء غيره. وللتأكيد على ما أقول، أضرب مثالا من الواقع المعيش: إنني أعيش في هولندا منذ حوالي عشرين سنة. هنا، لا توجد حواجز الشرطة والدرك في الطرقات بالكثافة التي نراها في بلداننا. وقد تقطع هولندا بسيارتك طولا وعرضا كل يوم، أشهرا عديدة وربما لسنوات، ولن تصادف حاجز شرطة في الطريق! ومع ذلك، يحس المواطنون بالأمن والأمان. أما عندنا، فمع أنك قد تصادف حواجز الشرطة كل يوم، وعند مدخل ومخرج كل مدينة، إلا أن الناس لا يحسون بالأمان! ومن الأقوال الخالدة للمؤرخ الكبير (العالم بخبايا الحضارات والشعوب) ابن خلدون: "العدل أساس الملك". إن ابن خلدون لم يقل هذه العبارة من فراغ، وإنما بناء على دراسته واستقرائه أحوال الشعوب والدول والمماليك ووقوفه على أسباب تمكينها وازدهارها وعلى أسباب هلاكها واندحارها. فمن زرع العدل حصد السيادة والتمكين ومن زرع الظلم زال سلطانه ولو بعد حين! وإذا كان العدل أساس الأمن والأمان، فإن الظلم وعدم الإنصاف، أساس كل الفتن والمشاكل التي تعصف بالمجتمعات. لأن الإنسان بطبعه يسعى وراء حقوقه، فإذا استطاع الحصول عليها بالرفق واللين، سلك طريق الرفق واللين. وإذا لم يُجد الرفقُ واللينُ، فقد يستعمل الإنسان القوة والعنف من أجل الحصول على ما يراه حقه. أما إذا كان ضعيفا ولم يستطع الوصول إلى حقه لا باللين ولا بالقوة، فإن إحساسه بالظلم قد يتحول إلى غضب وحقد، يظل يغلي بداخله ويتحين الوقت المناسب للانفجار. انفجار المظلوم، قد يدفعه إلى الصراخ والجهر بالسوء، وقد يُعذر في ذلك، بنص القرآن، قال الله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) النساء 148. قال ابن عباس في تفسير الآية: "لا يحب اللّه أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد رخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم)، وإن صبر فهو خير له". هذا المعنى، أكده النبي صلى الله عليه وسلم أيضا بقوله: "إن لصاحب الحق مقالا" (صحيح الجامع). ومع ما للصبر من فضل ومزية، إلا أن لطاقة الإنسان على التحمّل حدودا! فقد يصبر الإنسان في المرة الأولى ثم الثانية وربما الثالثة…لكن إذا استمر الظلم فسيأتي وقت يقول فيه هذا المظلوم :كفى! وإذا استطاع بعض المظلومين الاحتماء بالصبر، فلن يستطيعه كلهم. لأن طباع البشر وأخلاقهم تختلف كما هو معلوم. ومتى دعا المظلوم على الظالم، رُفع دعاؤه إلى الله دون حجاب واستُجيب له بالتأكيد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (متفق عليه). وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: " دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه" (النسائي). حتى وإن كان صاحب الحق فاجرا أو ربما كافرا، فإن الله سيستجيب دعاءه وسينصفه ممن ظلمه، إن في الدنيا أو في الآخرة. تبقى الإشارة إلى أن صاحب الحق وهو في طريق البحث عن حقه المشروع، عليه أيضا أن يلتزم بالعدل فلا يظلم غيره، لا بتهم باطلة ولا بسب أو شتم أو إتلاف ممتلكات، لأنه إن فعل ذلك سيصبح هو أيضا من الظالمين. إننا نتحسر ونتألم جميعا على حال الكثير من الدول العربية والإسلامية التي أنعم الله عليها بالكثير من الخيرات والموارد الطبيعية. وكان بإمكانها أن تكون في مصاف الدول الغنية والمتقدمة. لكن نظرا لعدم الاستقرار، انهارت هذه الدول وتشتتت بفعل الحروب والخصومات التي غالبا ما يكون وراءها الإحساس بالظلم وعدم الإنصاف. وإذا كان مفهوم العدل هو الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، فمعنى ذلك أنه كلما كثر من لهم الحق عليك، كلما عظمت مسؤوليتك وتوجّب العدل في حقك. وعليه، فإن ولاة الأمور والحكام والمسؤولين بشكل عام أول المطالَبين بالعدل لما أناط الله بأعناقهم من حقوق الناس. هذا الإحساس بالمسؤولية هو الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المدينة يقول :" لو أن بغلة في العراق تعثَّرت لخفت أن أسأل عنها لِمَ لَمْ أسوِّ لها الطريق ". فعمر لم يكن يحمل هم إنصاف البشر الذين يعيشون تحت ظل حكمه فقط، بل كان رضي الله عنه يحس بالمسؤولية حتى عن إنصاف الحيوان! من أجل هذا أمر الله من تولى الحكم أن يحكم بين الناس بالعدل والإنصاف، العدل في توزيع الثروات والعدل في تكافؤ الفرص والعدل في كافة الحقوق والواجبات. قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) النساء:58. في القضاء أيضا وفي الحكم بين المتخاصمين بشكل عام، لا يجوز للمسلم أن يحكم بغير العدل ولا يجوز له كذلك أن يشهد بغير العدل. بل حتى إذا كنا على خلاف مع شخص أو مجموعة وبلغ الخلاف حد العداوة، فلا يجوز الظلم أبدا، بل يجب التزام الحق والعدل. يقول الله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المائدة: 08. فالعداوة لا تجيز أبدا الظلم وهضم الحقوق. ومن الظلم الذي يقع فيه الكثيرون، نكران فضل خصومهم وربما نسبوا إليهم من السوء ما لا دليل عليه ولا برهان. وهذا لا يجوز أبدا في دين الإسلام. فإذا ذكرت خصمك بمساوئه فإن العدل يقتضي أن تذكر أيضا محاسنه. قال تعالى: ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) الأنعام:152. وكذلك إذا ذكرت قريبك وحبيبك فلا تنسب إليه من الفضل ما ليس فيه. ومن صور العدل أيضا، العدل في الميزان، فالمفروض في السملم أن يوفي الميزان والكيل ويزن بالعدل ولا ينقص الناس حقوقهم ولا يكون من الذين يأخذون أكثر من حقهم إذا اشتروا، وينقصون الميزان والمكيال إذا باعوا. قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) الرحمان:09. ومن صور العدل أيضا، العدل بين الأولاد. فعلى المسلم أن يسوي ويعدل بين أولاده في المشاعر والعطايا المادية وحتى حتى في القبل. لأن تفضيل بعض الأولاد على بعض قد يؤدي إلى أن يكره بعضهم بعضا ويحقد بعضهم على بعض. يقول النعمان بن بشير رضي الله عنه: أعطاني أبي عطيةً، فقالت عمرة بنت رواحة (أم النعمان): لا أرضي حتى تُشْهِدَ رسول الله ، فأتى رسول الله ، فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم : «أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ )» (البخاري). في الأخير أقول: كفى أهل العدل شرفا ورفعة أن الله يحب المقسطين. قال تعالى: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات:09 وكفى أهل الطلم مهانة ومذلة أن يبغض الظالمين. قال تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) آل عمران:140.