الجكاني الحسين باحث / ... إذن الجدية و المسؤولية و الرغبة والإرادة الحقيقة في التغيير أهم ما ينقص هذه المناظرة مدخل : يعيش القطاع الصحي بالمغرب وضعا استثنائيا ، أقل و أخفُّ الأوصاف التي يمكن وصفه بها هو أنه وضع كارثي وخطير ، والمسؤولون بالقطاع على كل المستويات يدركون ذلك وأكثر . هناك شبه إجماع من كل الأطراف والأطياف ، على أن الأمور الصحية بالبلد ليست على ما يرام ، وهذا ما يؤكده المسؤولون أنفسهم وعلى رأسهم الوزير التقدمي السيد الحسين الوردي ومن ورائه الحكومة التي ينتمي إليها ، و المسكين منذ تقلده مفاتيح الوزارة وهو يشتكي من الإرث الثقيل للمشاكل و الإختلالات العميقة التي ورثها عن الاستقلالية ياسمينة بادو وعن من قبلها ، ولا زال يكتشف يوما بعد يوم المزيد ، و رغم الخرجات الإعلامية المحسوبة التي ظهر فيها الوزير والتي كانت في مجملها وعودا وتطمينات ومُسكّنات تخفي وراءها كمّا هائلا من الإشكالات الحقيقية التي استعصت عن الحلّ و باتت عبارة عن مؤشرات تؤكد حقيقة انهيار المنظومة الصحية ككل ، إلا أن الحقيقة المرّة هي أنه لا السيد الوردي رغم إخلاصه واجتهاده ولا حكومته رغم شعبيتها و شرعيتها ولا أيٍّ كان يمكنه إنقاذ الوضع دون التحلي بالجرأة اللازمة لتقييم علمي و موضوعي لكل الإختلالات التي تُكبّل وزارة الصحة ، و ضرورة التحلي أيضا بالإرادة والجرأة الكافية لإصلاحات جدرية و حقيقية دون الخوف من مواجهة أي كان مهما كانت درجته ومهما كانت كلفة هذا الإصلاح و التغيير .. وسيكون من العبث الاستمرار في إطالة عمر الأزمة بالترقيع عبر حلول لا تلبث تذروها الرياح و تتكشف الحقيقة أشدّ مرارة من ذي قبل . وأخطر التوجهات تلك التي ضيّعت علينا فرصا تاريخية للتقدم و التنمية قد تكون نتيجة الخطأ المتعمّد و المتكرر لمعظم السياسات في المغرب و التي تجعل في أولوياتها دائما تلميع الصورة امام الرأي العام الدولي و العالمي دون إعطاء اعتبار للداخل و للرأي الوطني و للمواطن المعني الأول و الأخير بسياساتها. أمام عمق الأزمة التي يكتوي بنارها ضعفاء هذا الشعب من مرضى و موظفين ، وأمام المستقبل المظلم للقطاع الصحي بالمغرب والشك في الرغبة الحقيقية للإصلاح والتغيير ، وأمام العجز الكامل والواضح للمشرفين على القطاع يتساءل كثير من المهتمين و العاملين حول دور المناظرة الوطنية الثانية للصحة التي ستعقد أيام 1 ،2 و 3 يوليوز 2013 بمراكش ، و مدى قدرتها على إفراز سياسة جديدة قادرة على إرجاع الثقة للمواطنين و للموظفين في منظومتهم الصحية ، و إخراج المغرب من أزماته الصحية التي غصت بها الصحف و وسائل الإعلام يوميا وصنّفته في مرتبة متأخرة عالميا ، السرعة ، الارتجالية و الإنفراد بالتحضير وتدبير المناظرة وعدم معرفة معظم موظفي الصحة بزمان و مكان وأهداف المناظرة وعدم فتح نقاشات سابقة للمناظرة على كافة المستويات وطنيا و جهويا و إقليميا من طرف كل الفاعلين بالشكل الصحيح ومقاطعة أغلب النقابات ، مؤشرات و معطيات كافية لإعتبار المناظرة مسرحية من المسرحيات التي يراد لها أن تبني الوهم وتوزّع المسكنات حتى تنتهي فترة مسؤولية الحكومة و الوزارة الحالية لتأتي حكومة أخرى و وزير آخر و رؤى أخرى و تصورات أخرى و مسكنات وهكذا يبقى مرضى الشعب المغربي و موظفيه ضحية حلقة تدور في فراغ و رهائن مزاج كل وافد حكومي حسب الظرفية و حسب التزاماته و الإملاءات المفروضة عليه من الفوق أو التوجيهات من الخارج . إذن الجدية و المسؤولية و الرغبة والإرادة الحقيقة في التغيير أهم ما ينقص هذه المناظرة ، و الدليل على ذلك أن البناء يكون من الأساس لا من الفوق وقد كان الأمر ناجحا لو كانت المناظرة هي آخر الترتيبات و هي الحفل النهائي للتوافق بين مكونات المجتمع المغربي القادرين على إنتاج ميثاق و سياسة صحية تراعي خصوصية البلد و المواطنين و تتويجا لسلسلة من نتائج الأبحاث و الدراسات لخبراء مغاربة من أساتذة جامعيين و أكاديميين و باحثين و مجتمع مدني و هيئات مختلفة لا تنقصهم الخبرة و الكفاءة لكن ينقصهم الإهتمام من طرف المسؤولين . مناظرة هذا حالها و السياق الذي أتت فيه ، تتحكم فيها ظرفية سياسية خاصة و إكراهات موضوعية لا يمكنها النجاح دون توفير الشروط الضرورية لذلك و الحسم في إعطاء قطاع الصحة المكانة التي تناسبه من خلال الأولويات الآتية : 1/ رفع الميزانية المخصصة للقطاع و إيجاد بدائل ومصادر لتمويل القطاع : من العار و من المخجل أن يبقى المغرب يُسيّر قطاعا اجتماعيا و حيويا و له انعكاسات سياسية خطيرة تمس استقرار البلد ب 5% فقط من ميزانية الدولة، بينما دول مجاورة تفوق هذه النسبة و تستجيب لمعايير منظمة الصحة العالمية التي توصي ب 10% على الأقل. وأي قرارات أو توصيات لا تأخذ بعين الإعتبار هذا المعطى المفصلي يمكن اعتبارها بعيدة كل البعد عن الإصلاح و التغيير المنشود ، بل يجب الذهاب أبعد من ذلك فحاجة قطاع الصحة (في هذه المرحلة بالذات) إلى ميزانية تتراوح ما بين 12 و 15% ضروري و مطلوب لإنقاذ الوضع و تشييد منظومة قوية و متكاملة بناءً على دراسات و أبحاث هادفة و إعادة هيكلة القطاع وبث روح إهتمام الدولة بصحة مواطنيها لأن التنمية يصنعها الأقوياء و الأصحاء وليس المرضى والمُنهكين ، وأي وزير جادّ و نزيه سيلقى صعوبة في تصحيح الوضع وفي قيادة سفينة الصحة إلى برّ النجاة دون وقود ودون ميزانية مناسبة . من جهة أخرى يجب إشراك الجماعات و المستثمرين في المساهمة في تمويل قسط ولو ضئيل من تكاليف الخدمات الصحية في إطار شراكات و اتفاقيات محلية و جهوية و وطنية لدعم النهوض بالقطاع ، و إيجاد بدائل تمويلية لمشاريع توسعة الشبكة العلاجية من المنظمات و الجمعيات التي تنشط في المجال الصحي و التي تستفيذ من منح مالية مهمة من الدولة ، دون إغفال المنظمات الدولية و الإنفتاح على المحيط الخارجي لدعم و مساندة البرامج الصحية خاصة فيما يتعلق بالأمن الصحي العالمي المشترك . 2/ معالجة الخصاص الكبير و الحاد في الموارد البشرية : أكبر تحدي لم تستطع لحد الآن الوزارة الوصية التجرؤ على وضع سياسة لتدبره هو النقص الحاد في الموارد البشرية خصوصا الممرضين و الأطباء ، وبقاء هذا الوضع على ما عليه لن يزيد هذه المناظرة إلا فضحا وتشويها وفشلا ، و الموظفون في ظل هذا النقص لا يمكنهم إنجاح أي مشروع مجتمعي سواءً أفرزته المناظرة أو اي شكل آخر والدليل على ذلك بوادر فشل مشروع RAMED الذي تفاقمت معه الأوضاع بشكل خطير و غير مسبوق وأصبح الموظف يتعرض لضغط من نوع آخر نتيجة القذف و السب و الشتم و الإعتداءات الشبه يومية الذي يتعرض لها بسبب عدم مواكبة هذا النظام بما يلزم من إمكانات بشرية و مادية و لوجيستيكية لازمة وكافية ومن تداعيات هذا المشكل أيضا تدمّر أغلب المسؤولين بالجهات و الأقاليم على كافة المستويات ومنهم من تخلى عن المسؤولية أو زهد فيها حسب ما تجرّه عليه من ويل المواطنين والسلطات وضغط الوزارة لإنجاح المشروع على حساب سمعته وموقعه الإداري و كرامة الموظفين و أصبح تسيير الإدارات والمؤسسات الصحية بكل المستويات عبئا وعقوبة ينفّر الطاقات المؤهلة و الكفاءات النزيهة من تحملها بسبب العجز عن ضبط الوضع وبالأخص في المستشفيات وبعض المراكز الصحية الحضرية و القروية التي أصبحت أسواقا شعبية بكل المعانى هذا الأمر أثقل كاهل الوزارة نفسها وسبب لها مشاكل جمّة دون القدرة على البوح بذلك ومثال على ذلك أكثر من 50 مستشفى بدون مدير و أكثر من 11 مندوبية بدون مناديب ناهيك عن المتصرفين وباقي المسؤولين وباقي المناصب . و للخروج من هذه الوضعية و ارتباطا بالمحور الأول أصبح لزاما تخصيص أي ميزانية مستقبلا للقطاع الصحي لتوفير المناصب المالية لتغطية الحد الأدنى من هذا النقص . الأمر الثاني ضرورة إعادة الإنتشار حسب الخصاص و ضبط خارطة توزيع الموظفين بعيدا عن المحسوبية و الزبونية و بعيدا عن الضغوطات والهواتف و التدخلات في توزيع عادل تستفيد منه جميع مناطق المغرب حسب المتطلبات والتخصصات اللازمة فليس من المقبول و المعقول أن تجد مركزا صحيا حضريا في قلب الرباط أو الدارالبيضاء يحتوي على أكثر من 20 طبيب مختص بينما جهات و أقاليم لا تتوفر على طبيب واحد ، وقد شكل هذا الإختلال جزءًا مهما من ضعف التسيير و تدبير الموارد البشرية ستظل أثاره قائمة ما لم تتحلى الوزارة بالقوة و الجرأة في تصحيح هذه الظاهرة سواءً بنظام تعاقدي قبل وبعد الدراسة مع موظفيها أو بأولوية فتح الطريق أمام طلبة المناطق الراغبين في خدمة مدنهم و قراهم المهمشة في دخول كليات الطب و معاهد التمريض و تسهيل اجتياز امتحانات التخصصات و توظيفهم مباشرة كامتياز لتغطية المناطق التي يهرب منها غالبية زملائهم لظروف مشروعة ما ، أو بحثا عن مصحات خاصة كمورد ثان للرزق ، ويمكن أيضا التفكير في إعطاء الصلاحية للمجالس الجهوية و الإقليمية في توظيف أطبائها وممرضيها ضمن الجهوية الموسعة التي طال انتظارها و تفويض الصلاحيات لها لحل هذا المشكل حقيقة أخرى كثيرا ما نتجاهلها نحن المغاربة ونغض الطرف عنها خوفا من الإتهام بعدم إنصاف المرأة وهي ارتفاع نسبة الموظفات (الطبيبات و الممرضات ) التي أصبحت تفرض مشكل تأنيث القطاع « le féminisme » الأمر الذي فاقم عدة مشاكل ارتباطا بخصوصية القطاع فالمرأة الموظفة تفرض على وزارة الصحة الإلتحاق بالزوج والأبناء و هذا حقها لكن من حق المستوصف أو المركز الصحي او الجماعة أو الإقليم أيضا الحصول على من يعوضها الشيء الذي لايتمّ غالبا مما يترك أعباءً للمسؤولين و المواطنين على حد سواء ، إذا أضفنا مشاكل الزواج و رخص الولادات المتكررة و رخص الرضاعة في فترة العطاء و أوج الشباب ثم الوصول إلى كبيرات السن (مع كل الإحترام للأخوات الموظفات جميعا) و و.. تجعل من الصعوبة بما كان توفير خدمات صحية مستمرة وقارة ببعض المناطق و بعض المصالح و الأقسام خاصة لتطبيق نظام الحراسة و الإلزامية . وهنا لا يمكن إغفال ضبط الحركة الإنتقالية التي لطالما بقيت مرتعا "للمنعشين" من داخل الوزارة و من خارجها يقتاتون من ورائه بانتقالات مشبوهة تجعل من باقي مناطق المغرب الغير نافع محطة عبور في شهور لا أقل و لا اكثر. وفي هذه النقطة يجب مساعدة ودعم وزارة الصحة من طرف الحكومة و الدولة و الجميع في توفير شروط الإستقرار و تشجيع الموظفين بحوافز مادية و معنوية للبقاء أطول مدة ممكنة بمكان عملهم. 3/ معالجة إرث ملفات الفساد داخل وزارة الصحة التخلص من الإرث الكارثي للمسؤولين السابقين عامل مُهمّ في إرجاع الثقة ولن ترجع هذه الثقة أبدا للشعب المغربي في منظومته الصحية دون محاسبة ودون النبش والتحقيق في ملفات الفساد الكبيرة التي لازال نزيفها يضرب القطاع في العمق ومثار جدل في وسائل الإعلام و عند الهيئات و الجمعيات الحقوقية و المدنية ... و سيكون من الخطأ التاريخي الفادح تجاوز أو طي ّ ملفات الفساد المالي و الإداري و التوظيفات و الانتقالات و التتعينات المشبوهة و الزبونية و المحسوبية و اللقاحات الفاسدة والتجهيزات البيوطبية الثقيلة و الخفيفة و مشاريع البناء و الصيانة والسكوت عن إحتلال السكن الوظيفي و الإستفادة من المنح و التكوين داخل و خارج الوطن و الإكراميات و ملفات عديدة و متشعبة يصعب حصرها .، ولي يقين كبير أن وحدها المحاسبة و المعاقبة ستمكن القطاع الصحي من استرجاع أموال كبيرة جدا سيستفيد منها لسنوات. لكن حضور الأبطال السابقين ودعوتهم للمناظرة أكبر دليل على "عفا الله عما سلف " و ان التصالح والتماهي مع الفساد لن يبني وطنا ولن يُطمئن شعبا و لن يُصلح قطاعا. ولهذا من أهمّ الإنتظارات الحقيقية إرجاع هيبة الدولة في نفوس العاملين و تخويف المستخفّين ومعاقبة المتورطين ، لذا وجب فتح تحقيقات قضائية نزيهة و مستقلة في جميع الملفات التي سبق طرحها في الصحافة الوطنية أو تمّ التبليغ عنها للوقوف على حجم النزيف الذي أحدثه الفساد ، و أي مناظرة لا تراعي هذا الجانب كإجراء أولي ورئيسي لتنظيف البيت الداخلي ، ستؤسس لا مَحالة لانتكاسة جديدة تضاف إلى انتكاسات و إحباطات أوصلت المنظومة الصحية إلى الهاوية وتفتح شهية من بقي من الفاسدين إلى الإطمئنان على مواصلة النهب و استغلال المال العام و المناصب وستصيب الشرفاء ممن تحمّلوا المسؤولية أو يتهيئون لها ، بخيبة أمل واليأس في ممارسة مهامهم بالشكل الإيجابي ، وحتى لو تمّ عقد مئات المناظرات ستبقى ناقصة وبعيدة كل البعد عن الإنتظارات الجوهرية التي من شأنها الارتقاء بالشأن الصحي في البلاد 4/ مراجعة جميع الأنظمة الأساسية لكل أطر وزارة الصحة: ضرورة مراجعة الأنظمة الأساسية لموظفي الوزارة و التخلص من الضبابية في وضعية بعض فئاتهم (الممرضون ،الدكاترة العلميون، والمتصرفون المساعدون الطبيون، التقنيون و الأعوان المهندسون ...) و تعزيز الترسانة القانونية التي تنظم شروط و ممارسة المهن الصحية في ظروف حسنة بما في ذلك التنزيل السليم لقانون الوظيفة مع مراعاة خصوصية القطاع. إن الملتقيات و الدورات هنا وهناك للقابلات أو للأطباء او لهذه الفئة أو تلك رغم أهميتها التكوينية و التواصلية خطوات غير كافية و لم ولن تكون بديلا عن مواجهة الحقيقة و ذلك بإخراج قانون القابلات لحمايتهن و تنظيم مجال عملهن و كذلك باقي الفئات ، فبماذا تفيد الندوات و الملتقيات والحالة كما هي ثمّ كم من الوقت ستظل الوزارة الوصية تتهرب من مسؤولياتها في إخراج الأنظمة الأساسية لأطرها ؟ إن استمرار الفراغ القانوني و الإداري المنظم للمهن الصحية سيطيل الصراع و المواجهة مع المعنيين و هذا الصراع له كلفة كبيرة أهمها ، التمرّد الداخلي و إفشال المشاريع و الإستراتيجيات و تضييع الوقت في الإستفادة من الأطر و حسن تدبيرها و استثمار الكفاءات و الطاقات. 5/ التطبيق السليم و الشفاف للقوانين و العقوبات : التعامل بجرأة و جدية وتجرّد مع الظواهر و الإشكالات التي يثيرها بعض الموظفين مهما بلغت درجاتهم حول الغياب و ممارسات لا إدارية و لا قانونية و لا أخلاقية بجرأة زائدة و لامبالاة و تعال على القانون و الإستقواء بالأحزاب والهيئات و الأشخاص ، و التجاوزات الخطيرة التي تؤثر سلبا على سمعة القطاع من قبيل ازدواجية في التعامل بين الموظفين مما يخلق الإحباط واليأس في النخبة الصادقة و المخلصة من الأساتذة و الأطباء و الممرضين و الإداريين وكل الفئات ، وهم يرون الكيل بمكيالين في المحاسبة و المعاقبة و الإنتقالات و الترقيات و المسؤوليات إلى آخره ، و يرون القانون يُطبق على موظف و يُغض الطرف عن آخر وهذا الأمر يُشجع على الإسترخاء في المسؤولية والتهاون في الواجبات والأخطر من ذلك التمرد الصامت و الواسع و الغليان الحالي الذي ينتظر اللحظة المواتية للإنفجار وحينها سيصعب ضبطه و التحكم فيه و الإنفلات القادم سينعكس سلبا على صحة المواطنين بدرجة كبيرة .. لهذا وجب وضع حوافز و جوائز وامتيازات تشجع على حسن المردودية و تثمين الكفاءات لإبتكار التنافسية بين الموظفين وخلق التمايز بين المُجدين وبين المتكاسلين والضرب بحديد على المتهاونين العابثين بالقوانين و الإلتزامات الذين يساهمون في تلويث سمعة القطاع ويعطون الأسباب المباشرة و الغير مباشرة لغالبية الإحتقانات الإجتماعية هنا و هناك. بعض الخلاصات و الاستنتاجات هذا جزء يسير من الأولويات الكبرى المرتبطة بالظرفية الحالية و التي لا يمكن الحديث عن حكامة حقيقية دون القفز عليها ولا يمكن الحديث عن الحق في الصحة و الإنصاف في ظل دستور جديد دون تطبيق أجزاء مهمة من نفس الدستور و تفعيله خصوصا القطع مع كل أساليب الفساد و الإستبداد الممارس من طرف المسؤولين و بعض الموظفين المحظوظين ، ولا يمكن الحديث عن الأمن الصحي واليقظة الصحية و الإنتقال الوبائي و الصحة العمومية الجديدة دون الحديث عن الأمن الروحي والجسدي للعاملين في القطاع باعتبارهم الفاعل الأساسي و الرئيسي الوحيد في تنزيل كل السياسات و الإستراتيجيات و التوصيات ، وحمايتهم من الإعتداءات بقوانين و أنظمة اساسية ملائمة و حديثة تنظم مهنتهم كل حسب اختصاصه ، وتوفر لهم الإطار الآمن للإشتغال وفق المعايير الدولية التي نطمح إليها .. فلا يمكن أن نضحك على أنفسنا برفع سقف المطالب بتسطير أهداف عامة و أهداف خاصة لهذه المناظرة بإجماع كل الفاعلين ، و الحلم بميثاق وطني للصحة ، وأنظمتنا الأساسية الصحية مهترئة و قديمة و متآكلة وتشبه في ذلك أغلب مستشفياتنا بتجهيزاته ، إن التشكيلة الرسمية للمدعوين مؤشر واضح على الإهتمام بالشكل و ليس بالكفاءات فهناك اكثر من شخص وهيئة و منظمة لا تظهر في الساحة الصحية إلا في مثل هذه المناسبات للإستمتاع بالكاميرات و الفنادق و الموائد، وحتى النقابات التي ستشارك او ستقاطع هاته المناظرة غالبيتها لا تقوم على ديمقراطية داخلية بل غالبية مكاتبها الوطنية تستفرد بالقرارات وتعيش وضعا معزولا يكشفه عزوف غالبية الموظفين على الإنخراط الجدي و الفعلي في أنشطتها ، وكذا تذمر القواعد النقابية من قياداتها التي تنتقد الاستفراد بتحضير المناظرة في مفارقة عجيبة و تنسى أنها استفردت بقرار المقاطعة أو المشاركة ولم تجتمع بهيئاتها الوطنية و الجهوية و المحلية لتوضيح أهداف المناظرة و اسباب المواقف المتخذة اللهم إسقاط بيانات يتيمة في هذا الشأن و في الوقت المستقطع الأخير تستعصي عن الفهم و الإدارك . والحديث عن الوضعية المتأزمة للنقابات الصحية و الإفلاس الذي تعانيه غاية في الأهمية لأنه يمثل نموذج من الأزمة داخل القطاع ككل ، البلقنة والتشتيت أضعف كثيرا موقع و قوة النقابة لدى الإدارة التي استفادت من التشرذم بل أكثر من ذلك استغلته لصالحها في كثير من المحطات وهناك من يعتبر أن الوضع الصحي الحالي كانت للنقابات مسؤولية كبيرة فيه تاريخيا ، وإن لم تتم محاسبتها بالشكل المطلوب حينها ، فإن العزوف عن الإنخراط في العمل النقابي من طرف شغيلة القطاع و ضعف التنظيم والهيكلة و تدهور التفاعل مع المحطات النضالية وظهور التنسيقيات المستقلة ..كل ذلك كان عنوانا واضحا للمحاسبة الضمنية التي لا يختلف عليها إثنان وما يروج اليوم في المواقع الإلكترونية و الصحافة حول الإنبطاح و " البرودة النضالية " إن صح هذا التعبير أكبر دليل خصوصا بعد الإقتطاعات من الأجور التي خرجت هاته النقابات تطبل و تهلل أنها ستقوم باشكال نضالية غير مسبوقة ، لكن سرعان ما ظهر زيف الوعيد والتهديد فلا أجور رُدّت و لا مطالب تحققت و لحد الان كل الوعود لازالت محكومة "بسوف" ومعلقة حتى إشعار آخر . إن فشل النقابات في إلزام وزارة الصحة بتنفيذ اتفاقات عديدة وفشلها في محاربة الفساد و التعايش معه ، و تقادم المطالب وفشلها في بلورة ملفات مطلبية جديدة تشمل كل الفئات وكل المشاكل وتساير المستجدات ، زاد الوضع الصحي في المغرب تدهورا و ساهم بشكل أو بآخر في فقد الثقة في آخر جبهة يمكنها تصحيح الوضع و الحفاظ على المكتسبات ، وبقي موظفو الصحة كاليتامى في العيد يتجرعون سوء الوضع و ضعف النقابات وخذلانها في بعض الحالات ،بل ذهب أحد المعلقين يوما ردّا على مقال في أحد المواقع الإليكترونية على أن هناك من يتمنى أن لا يُصحّح الوضع ولا تلبى المطالب ولا تنفّذ الاتفاقات كي يظل سبب وجوده النقابي حاضرا وقربه من المسؤولين مستمرا وقائما . وبهذا المعنى و حسب ما سبق أي تحول في المنظومة الصحية نحو الإصلاح و التغيير لابد أن يسبقه أو يواكبه تحول و تغيير جدري في تركيبة كل النقابات الحالية و إعادة بناءها من القاعدة لإفراز عدد قليل و معقول لهيئات قوية متماسكة بقيادات جديدة يكون لها وزن واعتبار خاص بطرق ديمقراطية و نزيهة ، تقطع مع الماضي بكل مساوئه ، و تشكل حاضرا يكون فيه التأطير و التكوين أهم حلقاته و تكون صياغة ملفات مطلبية شاملة صياغة توافقية و جماعية من القاعدة تستجيب لكل الفئات وكل الجهات وتكون الممارسة النقابية مبنية على خدمة المصلحة العامة ، لا على الإملاءات السياسية الموسمية . ختاما لا يمكن مصاحبة التحولات الكبرى السياسية و الإقتصادية العالمية بعقليات تحكمها الحزبية و المحسوبية و غياب روح الوطنية الصادقة و بقاء مسؤولين لا يفهمون من المسؤولية سوى الإسم ، تبدو بصماتهم في تحضير هذه المناظرة حاضرة بقوة من خلال الإقصاء المتعمّد و المعنوي لأكبر شريحة تمثل العمود الأساسي للمنظومة ككل و هو الموظف فعن أي توافق نتحدث و عن أية شراكة نطمح ؟؟
إن القرار الجريء العملي الوحيد و الواحد لهذه المناظرة إن أرادت تحقيق بعضا من أهدافها رغم اختلافنا مع ظروف عقدها و رفض الطريقة التي تمّ التحضير لها ورغم الشك في قدرتها على النجاح هو : هدم البناء و إعادته من أساسه ومن الصفر . نعم هدم كل الخراب و الأطلال للمنظومة الحالية التي كانت مرتعا للنهب والفساد و ضرعا حلوبا ارتوى منه وزراء و مدراء و مناديب و متصرفون و شخصيات كبيرة وصغيرة ونقابيون وموظفون و لوبيات كثيرة ... تاركين للشعب المغربي (مرضى و موظفين) وهما و سرابا سمّوه وزارة الصحة وسياسة صحية فاشلة لا تصلح أن تكون أرضية تبنى عليها سياسة جديدة أو ميثاق وطني صحي جديد . إن أخوف ما نخافه هو أن تأتي التوصيات و التقارير لهذه المناظرة قاصرة و بعيدة كل البعد عن الإنتظارات الحقيقية و الجوهرية أو تكون نوعا من الهروب إلى الأمام من أجل الإعداد لتمرير مشاريع تهدف إلى تملص الدولة من مهامها و تعبيد الطريق أمام خوصصة القطاع وتفويته من أجل الانتهاء من أعبائه لكن إن قدر الله وحصل ذلك فالكارثة ستكون أكبر... فهل سيتدارك منظرو الصحة الأمر خلال مناظرتهم ويحسنون الرأي و الاختيار أم سيفشلون و تصبح مقومات استقرار البلد في مرمى الإنهيار ؟؟؟
(*) ماستر في البيولوجيا و علوم الصحة يُحضّر رسالة دكتوراه : التشريع و التقنين في مجال الوقاية من الأشعة . موظف بوزارة الصحة أهم المقالات السابقة : أزمة العمل النقابي في القطاع الصحي بالمغرب وزارة الصحة في حكومة بنكيران