في زمن الصراع تحتدم المفارقات والتقابلات، تتعالى الأصوات وتتناثر الكلمات لتعلو الواحدة على الأخرى بغية التربع على قمة التفوق. تتصارع الثيران أرضا فتعلو سحابة الغبار سماء وجوا، فلا يعرف أيهم سببها. نشأت منذ الفطنة البشرية علاقة توافقية لمسألة التضاد والتقابل، فليس كل تقابل هو سلبي في طرحه أو ينفي الذي أمامه، فما كان منه إلا أن يبني احدهما على الآخر إما بالارتكاز عليه أو بتطوير وتجديد هياكله. يسري هذا الأمر أيضا على ما أوجده الله تعالى في مخلوقاته من ليل ونهار وذكر وأنثى وسعادة وألم... إلى ما يوجد من المسميات، كما يجعلنا لا نجزم بأنها تقابلات معرفية محضة تبني حتميتها بالتراتبية الانطولوجية. ودون الخوض في دوامة "المستهلَكات الإغريقية والديالكتيكية" عن معرفة الأشياء وصراع أضدادها نقف، ونحن في عصر توليد المصطلحات، عند إعادة صناعة الأشياء من رفاثها، أي صنع شيء من ذلك الغبار ومن تلك الأصوات لنصوغ بها بعد ذلك قالبا يجابه رياح التغيير المنشود... لكن، هل ما نصنعه اليوم من مسميات (أشخاص مسؤولين، أجهزة، مجالس تأسيسية، قرارات دستورية، حكام...) أو ما نعيد اصطلاحه (الاستبداد، الظلم، الصمت، السلطة، المثقف، الإعلام، ... ) يتمظهر حقيقة في علائقيته الزمنية الراهنة في مدى تطابقها الواقعي؟ ما تعيشه الأمة العربية تجلى ويتجلى في فتح مجالات أوسع مكنت القطر العربي أن ينفرد بتجربته نحو إعادة صياغة المسميات. فما كانت تتقوقع داخله من مفاهيم ومبادئ انسلخت وانزاحت اليوم لتقترب، رغم نفورها سلفا، من روح مقابلاتها في المعنى النظري متخلية عن جدارياتها وركائز الأمس. فأضحت تبيح لنفسها التريث مرحلة و انتقالا من اللامشروط إلى المشروط. مثل هذه التجارب وغيرها يمكن تسميتها ب" تجربة التحرر "، والتحرر هنا لا يعني بالضرورة الانسلاخ من الشيٍء ، لكن على الأقل من قيوده وتكبيلاته. هناك بعض تجارب التحرر انطلاقا من مسميات ومصطلحات لا تفتأ تقارع لها الطبول ترتهن نتائجها إلى سياقاتها الداخلية، ويمكن اعتبار ذلك تراتبية وسط هذا الاحتدام والصراع. هذا التحرر ليس مفاهيميا بقدر ما هو إطلالة على بعض المتغيرات. الإعلام والجاذبية الواقعية في ظل توسع رقعة التقنية ومدى ارتباطها بتكوين المجتمعات (شبكات الاتصال، أقمار اصطناعية،... ) تتمحور الحقيقة، ليست كإشكالية أو عائق يلازم مصوغات الأحداث، بقدر ما هي مرتكزات لتلك التقنية الإعلامية. هذه الأخيرة لا تفرض نفسها في ما تقترحه أو في ما تتضمنه، فهَمُّ الإنسان العصري، كما أشار إليها العالم الرياضي وايتهد، لم يعد في ما يعرفه بل انصب في كيفية ماذا يعرف، وهي اليوم واقعية وتطبيقية حتى في ابسط تحركاته (ثورة الفايسبوك مثلا)، لهذا يوظف الإنسان ذاته كأداة للتواصل اعتمادا على آلياته الداخلية، في حين يتم إجباره، وبحكم انتماءه لمجتمع التقنية، على الحفاظ على وسائله والدفاع عنها تقنيا، أي بما يتعامل معه كحقيقة. فتم بعد ذلك بشكل غير قصدي تبسيط هذه التقنية وانبعاثها من الافتراضية وتحريرها من فكر الإنسان بعد أن كانت فئوية في استعمالها. وسط هذا الحراك الإعلامي الذي حركه الحراك السياسي، وبعد أن أصبح أكثر واقعية لا بد من حصول تداخلات لمفهوم الإعلام، فقد ارتبط هذا الأخير بعدة مصطلحات كالاتصال والوسائط، والعولمة وكذلك الثقافة واليوم أصبح أكثر اتساقا بالثورة والحرية... أفضى ذلك إلى تجرده من جوهره وصفته التي تتقابل عندها الأشياء لتكمل بناءه ولا تحرمه استقلاليته. في جل البلدان العربية يطالب الشعب بعدة مطالب من بينها تحرير الإعلام. لم تصل هذه الأصوات إلى هذا الحد عبثا، فما عرفه الإعلام العمومي في وقت سابق من انفراد وتبعية تسلطية جعل من مستقبله موضع قلق، كما حصل مع السينما السوفياتية بواقعيتها الاشتراكية والراديو حين خدم الرايخ هتلر، إضافة إلى الإعلام الصيني الذي لا يزال تحت الوصاية الشيوعية، الشيء الذي يبرر الصوت المتعالي في وجه وزارات الاتصال لدى الدول العربية. هذا الصوت صرخ مناديا بتحرير الإنسان، ليطال معنى ومقصد تحرير الإعلام الذي هو تحرير الذات الإنسانية وانعتاق وسائل الاتصال باستعادة وظائفها بشكل يتجاوب وحاجيات التواصل البشري. وإذا كان الإعلام في المجتمع الديمقراطي يحمل رسالة إيقاظ الفضول لقضايا عامة وحدها الحرية تمكن من فهم أدوارها الحقيقية، فان مسؤولية تحريره تستوجب إعادة سبر غور العملية الإعلامية من داخل التجربة الواقعية.