مرّ زمن طويل على بناء ذلك البيت الشاهق الضاج بأفراد عائلة كبر أولادها وتزوجوا وأنجبوا ، وهم مازالوا في البيت ، إلاّ بعضهم قد وجد أن ليس بإمكانه تحمل ذلك الضجيج والزحام ، فشدّ رحاله وسكن في أمكنة أخرى . شهد أهل البيت ظروفا مختلفة بين شدة ورخاء ، وفقر وغنى ، وحزن وفرح ، وولادة وموت . لم تكن الحياة منصفة في ما تهبهم إياه ، فقد أوسعت في منحهم الأهوال والصعاب ، وشحت في رزقهم الأفراح العميقة الدائمة الثابتة . لكن في كل حال يستمر أحياؤهم في حياتهم سواء رضوا بأقدارهم او لم يرضوا . في ظروف الرخاء العابرة حرصوا على ترميم البيت او تجديد طلائه او آثاثه ، وفي ظروف الفقر المتكررة كانوا يأكلون المقسوم القليل ، وقد يبيعون بعض الأشياء من آثاث وملابس ليسدوا بها مايحتاجون . استمرت الفصول بالتعاقب على ذلك البيت وأهله يواصلون التذمر من الأمطار حينا ، وغثاثة الأصياف حينا آخر ، وكثيرا ماعصفت الرياح العاتية بهم حتى كادت تقلع أشجار حديقتهم ، وتختفي وقد خلفت وراءها بعض الأضرار . كانت العصافير تبني أعشاشها على أشجار حديقة البيت ، وكثيرا أيضا ماكانت القطط تتمكن من الانقضاض عليها حين تسهو العصافير عن الحذر . الفئران وحدها كانت ذكية قادرة على الهرب من مخالب القطط ، في أثناء جولاتها التفتيشية عما يؤكل في الحديقة ، حتى أوراق النبتات هجمت عليها الأسنان القارضة ، كما كان الدود والنمل يغزوها ويأخذ منها قوته ، ويجعلها مآواه حيث يحفر فيها بيوتا له . وسواء أكان المتطفل دودة أم فأراً ، فإنّ الورقة الخضراء تنتهي بثقوب متوزعة بعشوائية عليها او تبقى منها قطعة تسقط صفراء خجلى . برع النمل والفئران في حفر جدران البيت ، حتى إن أهله لم ينتبهوا ، او أهملوا ، ماتفعله تلك المخلوقات بأساس مسكنهم . حتى الأرضة رسمت خرائطها على الجدران حين انشغل أهل البيت ، كلّ في همه . فقد تغيرت ملامح أفراد العائلة ، وتصرفاتهم أيضا ، واشتدت خلافاتهم .. بعضهم طالب ببيع البيت ليستقل بحياته او يستثمر حصته في مشاريع تدرّ له الرزق . أحدهم نجح في أن يقتطع جزءاً من البيت ، ليستقل فيه وقد بنى جداراً فاصلا عن البيت الأم ، ووضع له بابا ، حالماً بالتنعم في جزئه . مع اشتداد الظروف الصعبة ، واختلاف الأبناء وميولهم وأطماعهم ونوازعهم ، أراد بعضهم الآخر أن يحصل على حصته ، واشتد الخلاف أيضا . حتى إذا ماهبت ريح عاصفة ، هزت أركان البيت المنخورة أسسه بأسنان القوارض ، وضغطت على الباب ، لتقلعه ، حاول بعضهم أن يسند الباب بيديه ، خشية أن يقلع . ظلت الريح تعوي على الباب ، وهو يهتز ، ويزداد وقع اهتزازه ، ومعه الأيادي وراءه ترتعش .