خلال عقود طويلة ظلت القضية الفلسطينية الشغل الشاغل لأذهان شعوب المنطقة العربية ومزاجها. كما كانت الموضوع الوحيد الذي أخذ فيه الإعلاميون والمحللون العرب راحتهم في ممارسة حريتهم والتعبير عن آرائهم. غير أن هذه الميزة زالت في الفترة الأخيرة، والسبب: التطبيع الحكومي مع إسرائيل. وسط الخنق السياسي والإعلامي، وفي غياب حرية مناقشة المشاكل الداخلية والفشل الحكومي وانعدام الحقوق والحريات، شكّلت القضية الفلسطينية متنفسا مناسبا ومفيدا لكثير من النخب العربية، أفرادا ومجموعات، وللحكومات أيضا. استغل كثيرون من أصحاب الرأي والقلم العرب حرية زائفة فقالوا ما شاؤوا في القضية الفلسطينية، ومتى ما شاؤوا، دون أن يمنعهم أحد. بالعكس، شجعتهم السلطات فكان بعضهم يلعب أحيانا، دون أن يشعر، دورا تريده أنظمة الحكم المستبدة التي لا هدف لها سوى إلهاء الشعب بعناوين طنانة، مثل القضية الفلسطينية، للبقاء في الحكم بلا إزعاج. كانت فلسطين الشمّاعة التي علّق عليها الطغاة والمفلسون ممارساتهم المشؤومة. وعلّق عليها أيضا مَن آثروا السلامة والمنطقة الآمنة في الحياة العامة اختياراتهم. لم يكن الأمر يكلف شيئا لمن أراد أن يرفع صوته. الكلام الجميل المشحون بالعواطف القومية مجاني ومحبَّب في كثير من الأحيان لرجل الشارع الذي يتعاطف صادقا مع الفلسطينيين ومستعد للتضحية من أجل حقهم في الوجود. يستطيع أيّ كان أن يقول ما يشاء دون أن يخشى متابعة قضائية أو مضايقات أمنية تُحوّل حياته جحيما، هذا إذا نجا من السجون والمعتقلات المجهولة. كان ذلك يخدم مصلحة الجميع: المحللون والإعلاميون يعتقدون أنهم يمارسون حريتهم وحقهم في التعبير، فيضمنون سلامتهم ويرتاحون من الحرج المترتب عن قلة شجاعة تناول المشاكل الداخلية. والسلطات تكسب من هذه الحرية الوهمية ثقة الرأي العام، وتعطي الانطباع بأن لديها قضية مقدَّسة تستحق التضحية بالحقوق والحريات السياسية من أجلها. غير أن التطبيع الأخير مع إسرائيل قضى على الورقة الأخيرة، والمساحة الأخيرة من الحرية، حتى ولو كانت مجروحة ووهمية في أحيان كثيرة. اليوم لا يستطيع أحد في الدول المطبِّعة، والمطبّعة حديثا على وجه الخصوص، انتقاد بصوت مرفوع ما ترتكبه إسرائيل في القدس والأراضي الفلسطينية، دون أن يعرّض نفسه لخطر ما. لا يستطع أحد أن يرفع صوته بالقول إن التطبيع مع حكومة بنيامين نتنياهو في الشهور الماضية شجعها على ارتكاب ما ترتكب اليوم من قتل وتخريب دون خوف من حساب أو مساءلة، ودون أدنى اعتبار لحلفائها الجدد، العرب، الذين بلا شك تحرجهم بغطرستها وتضعهم في مواقف غير مريحة. التطبيع تترتب عنه بالضرورة مسؤوليات والتزامات هي عبارة عن فواتير واجبة الدفع فورا. ومما تتضمنه هذه الفواتير أن تراعي السلطات المطبّعة مشاعر إسرائيل وتفرض احترامها ومراعاتها. من السهل أن تفسر أي سلطة عربية اليوم انتقاد إسرائيل على أنه يمس بالمصالح العليا للوطن وبعلاقاته مع الآخرين. هذا يكفي لتحريك دعوة قضائية مضنية ومكلفة (هذا إذا كانت السلطة المعنية تحترم خصمها وتقدّر شعبها). صحيح أن العرب لم يصلوا إلى ذلك المستوى بعد، لكنه ليس عنهم ببعيد أو صعب بعد كل التطورات التي عاشوها في السنوات الأخيرة. الأنظمة العربية اليوم، بلا استثناء، لا تستطيع العيش من دون حماية غربية مباشرة، أو غطاء استراتيجي توفره قوة غربية. مع استثناءات محدودة، في باقي الحالات، هذه القوة هي أمريكا. وأمريكا توفر الحماية بمقابل تشكل إسرائيل في الكثير من الحالات جزءا منه. إذًا، سعيُ الأنظمة العربية لكسب ودّ واشنطن وتل أبيب، يضطرها إلى الاجتهاد لإرضائهما. وضمن جهود الإرضاء هذه يندرج منع انتقاد جرائم إسرائيل ودعم الولاياتالمتحدة لها. هناك عامل نفسي أُضيف للمعادلة حديثا: لم يبقَ هناك شيء كثير يزعج الأنظمة العربية الآن. ليس لديها ما تخشاه أو تستحي به. فالتطبيع أصبح موضة والخوف ثقافة. وقد ارتاحت هذه الأنظمة عندما اكتشفت أن تبعات منع انتقاد إسرائيل أرحم من كلفة الانتقاد ذاته، وأن كلفة قمع الشعوب أهون على هذه الأنظمة من كلفة انتقاد إسرائيل أو عرقلة مخططاتها. ما يمكن تسميته الجبن الإعلامي الذي فرضه القمع في كثير من الحالات، هو الوجه الآخر من القطعة يكمّل الجبن السياسي. من الصعب أن يتعايش صمت متواطئ مع إسرائيل في دولة عربية اليوم مع حراك إعلامي ينتقدها (إسرائيل) بحرية وجرأة. ومن الصعب جدا ألا يترافق موقف سياسي تجاه إسرائيل ورافض لما ترتكبه مع حراك إعلامي واجتماعي تدعمه وتأخذ منه وتروّج له. هما وجهان لقطعة واحدة يكملان بعضا وأحدهما لا يعيش من دون الآخر. إذا أراد أحد التأكد، ستكفي نظرة على وسائل إعلام الدول المطبّعة حديثا (وقديما) وعلى نشاط وسائط الإعلام الاجتماعي فيها. أخبار حرب على غزة الحالية موجودة نعم، لكنها فاترة وتخلو من الموقف ولا تشذ عن المربع الرسمي الذي تتخذه السلطات الحاكمة من الحدث. وتشترك هذه الأخبار في كونها ترد دائما مسبوقة بأخبار توجيهات الرئيس أو الملك أو الوزير الأول لدعم سكان غزة وإرسال المساعدات الإنسانية والطبية (أغلبها لا يُرسل أو لا يصل) لهم. في الدول العربية المطبعة، الحرج الإعلامي والسياسي واحد مع اختلاف في الدرجات ووجود «رشة» ابتذال في الإمارات. لا غرابة بعد هذا أن الحرج في القاهرة وعمَّان أقل بكثير وأسهل على التعاطي معه. فهل بلوغ الحصانة والتغلب على الحرج مسألة وقت فقط؟ لسوء حظ القضية الفلسطينية أن كل مساوئ العرب وشرورهم تراكمت عليها عندما أصبحت في أمسّ الحاجة للدعم. لم يمر وقت على هذه المأساة وقت احتاجت فيه للآخرين مثلما هو الحال اليوم. وفي المقابل، لم يمر زمن تعرضت فيه للخذلان مثلما هو الحال اليوم مع شبه إجماع على «بيعها». العزاء أن المجتمعات الغربية لا زالت تنبض بالحياء والحياة. وقد عبّرت عن ذلك بمظاهرات السبت والأحد الماضيين في أغلب العواصم الغربية. لعلَّ هذا سيُغني يوما ما عن العرب.