كشف باحث إسرائيلي خفايا اتفاقية كامب ديفيد، التي مضى عليها أربعون عاما، وكيف قام رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين بتمرير ما يريد وتهميش القضية الفلسطينية من المفاوضات، وتأجيلها لاتفاقية أخرى، وتحديد المفاوضات مع مصر ورئيسها في حينه أنور السادات، الذي لم يعترض، كما يقول سيث أنزسكا، الذي ألف كتاب “منع فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو” الصادر حديثا. ويقول أنزسكا في مقال له في صحيفة “نيويورك تايمز” إن إسرائيل أجهضت جهود أمريكيا وأوقفت حلم الدولة الفلسطينية، معلقا في البداية على احتفال الإسرائيليين والمصريين بمرور أربعين عاما على توقيع اتفاقية كامب ديفيد، التي قادت إلى أول معاهدة سلام بين دولة عربية وإسرائيل. ويشير الكاتب في مقاله، إلى أن مصر استعادت من خلال اتفاقية السلام مدينة سيناء، التي خسرتها في حرب عام 1967، وحيدت إسرائيل تهديدها العسكري القادم من الجنوب الغربي، وحصلت أيضا على اعتراف مهم بوجودها في الشرق الأوسط. ويقول أنزسكا إن “الأمريكيين سيشعرون بالاعتزاز بمرور هذه المناسبة، وسيتذكرون الدور الذي قاموا به في توقيع المعاهدة، التي تعد حتى الآن أهم إنجاز لرئاسة جيمي كارتر، إلا أن هذه المناسبة تظل بالنسبة للفلسطينيين تذكيرا مؤلما عن الخيبة السياسية، مع أن المعاهدة كانت عبارة عن جهود حقيقية لمعالجة مصيرهم قادتها إدارة كارتر، لكن الرئيس الأمريكي قطع أوتار الطموحات الفلسطينية بالدولة، وتركهم تحت احتلال إسرائيل في الضفة الغربيةوغزة، محرومين من حقوقهم الرئيسية وحرية الحركة”. ويلفت الكاتب إلى أن اكتشافاته الأخيرة في الأرشيفات في القدس ولندن وفي أماكن أخرى من الولاياتالمتحدة، تظهر أن الجهود التي قام بها مناحيم بيغن والرئيس المصري أنور السادات جاءت على حساب حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. ويعلق أنزسكا قائلا إن “كامب ديفيد كانت فرصة ضائعة أدت إلى ما نراه اليوم من انسداد الأفق في الشرق الأوسط، ولم يكن هدف جيمي كارتر هو توقيع اتفاق بين إسرائيل ومصر، بل كان أول رئيس أمريكي يدعو وبشكل علني إلى (وطن) فلسطيني، وبدأ في المراحل الأولى من إدارته في تطوير الملامح الأولى لخطة سلام شاملة بين إسرائيل وجيرانها، تقوم على انسحاب إسرائيلي من الأراضي التي احتلت في عام 1967، والفصل في موضوع القدس، ومعالجة حق العودة الفلسطيني للذين شردوا من بيوتهم عام 1948، وكانت هذه الملامح الأولى لما أصبح يطلق عليه (حل الدولتين)”. ويفيد الكاتب بأنه “في الوقت الذي كان فيه المحتوى الفلسطيني يقتصر على (وطن) للفلسطينيين مرتبط بالأردن على أكثر احتمال، إلا أن رؤية كارتر كانت أبعد، حيث دعت لدولة ذات سيادة على الضفة الغربيةوغزة، وبناء على هذا عارض كارتر التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في المناطق التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية، ودعم محادثات مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تتحول من المقاومة المسلحة للمحادثات الدبلوماسية، وأثار موقف كارتر غضب إسرائيل وعدد من الداعمين المتحمسين لها في الولاياتالمتحدة، ولقي نهجه دعما من القادة العرب، خاصة أنور السادات، الذي كان مدافعا قويا بالنيابة عن الفلسطينيين، وكان يريد استعادة أراضيه التي خسرت في حرب عام 1967، والتحول عن التحالف مع الاتحاد السوفييتي إلى الولاياتالمتحدة”. ويجد الباحث أنه “في الوقت الذي كان فيه السادات راغبا في دعم خطة كارتر، الهادفة لإحياء مؤتمر سلام إقليمي، إلا أن نفاد صبره من الخلافات العربية وأساليب إسرائيل التفاوضية، دفعه إلى زيارة القدس عام 1977 في محاولة لإنعاش المحادثات، وبهذه الطريقة فإنه انفصل عن بقية العالم العربي وفتح المجال، ودون قصد، لاتفاق سلام ثنائي”. وينوه أنزسكا إلى أنه “في الوقت الذي كانت فيه هناك فرصة لتحقيق تسوية إقليمية، تنهي ثلاثة عقود من الحروب، وتضع حدا لمشكلة اللاجئين، فإنه كانت لدى رئيس الوزراء المتطرف مناحيم بيغن خطة أخرى، وقام الزعيمان بالتوازي بعرقلة تقدم في السلام، بناء على معالم الخطة الأمريكية”. ويبين الكاتب أن “مواقف بيغن المعارضة لقيام الدولة الفلسطينية كانت معروفة، وكذلك آراؤه بشأن مركزية (يهودا والسامرة)، وهو الاسم التوراتي للضفة الغربية، للشعب اليهودي، فبعد انتخابه في ماي 1977، ليصبح أول رئيس من الحزب اليميني المتطرف (الليكود)، أعلن أنه سيشجع عمليات الاستيطان (المدنية والريفية على أراضي الوطن)”. ويقول أنزسكا إن “سيناء كانت موضوعا آخر، فرغم أنها احتلت في عام 1967، وكانت مهمة من الناحية الاستراتيجية، بصفتها حاجزا، إلا أنها لم تحمل الأهمية الدينية كتلك التي حملتها الضفة الغربية، وأعرب بيغن عن استعداده لسحب القوات الإسرائيلية من سيناء، لكنه أكد أن الانسحاب من الضفة الغربيةوغزة لم يكن جزءا من المفاوضات، لكن إدارة كارتر كانت واضحة عندما زار بيغن واشنطن، حيث قدمت له (مبادئ السلام)، التي قالت فيها: (فيما يتعلق بيهودا والسامرة وغزة فإن موقفنا هو عدم بقائهما تحت حكم أو سيادة أجنبية)، بحسب الوثائق التي تم الكشف عنها”. ويجد الباحث أن “الحكومة الأمريكية كانت تعتقد أنها قادرة على الجمع بين هذه الآراء المتضاربة، من موقف الحكومة الإسرائيلية المعلن، وما سينتج عن المفاوضات مع السادات في نهاية عام 1977 و 1978، لكنها لم تعول على الزعيم المصري ليؤثر على المطالب الفلسطينية”. ويقول أنزسكا إن “بيغن تقدم بأفكاره لمعالجة هذا التباين في وجهات النظر، التي جسدتها ورقته المكثفة (حكم محلي للعرب الفلسطينيين سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة)، فبدلا من حق تقرير جماعي فإن إسرائيل ستظل تسيطر على المناطق التي احتلتها عام 1967، لكنها وعدت بسلطة محلية للمسؤولين العرب المنتخبين، واتخاذ قرارات تتعلق بالتعليم والتجارة والصحة والنقل، وقدم بيغن عرضه للحكم الذاتي من خلال لغة تفضل، لكنه قام على فكرة رفض حق تقرير المصير للفلسطينيين”. ويستدرك الباحث بأن “المحادثات التي أدارها كارتر مع كل من السادات وبيغن، واستمرت 13 يوما، انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17شتنبر 1978، ورغم اشتمال الاتفاق على رغبة الأمريكيين بانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية والقطاع، ومذكرة حول البناء الاستيطاني، إلا أن كامب ديفيد انتهت بحسب ما أراد بيغن، وهو تحقيق سلام مع مصر فقط”. ويقول أنزسكا إن “الوثائق التي كشف عنها حديثا تظهر الكيفية التي فصل فيها بيغن بحنكة سياسية الموضوع الفلسطيني عن كل العملية، دون أي معارضة جوهرية من السادات، وبفهم ضمني من كارتر، وبنتيجة متناقضة، فنشر الوفد الإسرائيلي لغة قانونية غامضة بشأن الموضوع الفلسطيني والمدى المحدود الذي سيتم من خلال تجميد الاستيطان، وتم حذف أي إشارة لحق تقرير المصير للفلسطينيين، كما ورد في قرار 242، الذي دعا لانسحاب كامل من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، واعتبروا أن هذا القرار لا ينطبق على (جبهات النزاع كلها)، ولم يتم التراجع عن سيادة إسرائيل على القدس”. ويبين الكاتب أن “البصمة الإسرائيلية كانت واضحة في البيان الختامي، حيث تم تأجيل القضايا المتعلقة بالفلسطينيين كلها لاتفاقية منفصلة (إطار للسلام في الشرق الأوسط)، يقوم على خطة حكم ذاتي وترتيبات انتقالية للحكم الذاتي في الضفة وغزة، لكنها كانت غامضة بشأن السيطرة على المناطق أو الحكم السياسي، وهناك اتفاقية ثانية، وهي (إطار لاستكمال معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل)، وفتحت المجال أمام توقيع معاهدة سلام مصرية إسرائيلية بعد ستة أشهر، وأصبح البحث عن السلام مع مصر طريقة لتجنب أي سلام مع الفلسطينيين”. ويفيد أنزسكا بأن “الكثيرين اعتبروا في حينه أن اتفاقية كامب ديفيد ستؤدي إلى تقوية سيطرة إسرائيل على الضفة الغربيةوغزة، وتحدثوا بقوة عن التنازلات التي قدمها السادات، فقاطع وزير الخارجية المصري محمد كامل حفلة التوقيع، واستقال من منصبه بعد ذلك، وأعلنت منظمة التحرير عن رفضها الكامل للمعاهدة بعد توقيعها، واعتبرتها (مؤامرة صريحة) على الحقوق الفلسطينية، ووصف ياسر عرفات أفكار الحكم الذاتي بأنها (ليست إلا إدارة المصارف الصحية)”. ويوضح الباحث أنه “بعد المصادقة على المعاهدة في عام 1979، بدأت (محادثات الحكم الذاتي) بين مصر وإسرائيل والولاياتالمتحدة، وتوقفت المحادثات مع حرب لبنان عام 1982، لكنها ظلت أساسا لحكم ذاتي محدود، وكان هذا واضحا مع ظهور السلطة الوطنية بعد اتفاقيات أوسلو عام 1993، فمن خلال شرط وجود السلطة الوطنية، بناء على وظيفة محدودة، ودون سيادة مناطقية، إلى جانب استمرار الاستيطان، فإنه تم القضاء على فكرة ولادة دولة فلسطينية ذات سيادة”. ويشير أنزسكا إلى شعور كارتر بالخيبة والمرارة، بعدما ضحى في الكثير من رأسماله السياسي في الشرق الأوسط، وفشل جهوده على الجبهة الفلسطينية، لافتا إلى قوله في لقائه الأخير مع السفير الإسرائيلي في واشنطن: “لا أستطيع رؤية كيف سيواصلون العمل باعتبارهم قوة احتلال، ويحرمون الفلسطينيين من أبسط حقوقهم، ولا أستطيع رؤية كيف سيستوعبون 3 ملايين عربي في إسرائيل، دون أن يتحول اليهود إلى أقلية في بلدهم.. أظهر بيغن شجاعة في التخلي عن سيناء، لكنه فعل هذا ليحافظ على الضفة الغربية”. ويعلق الكاتب قائلا إنه “بعد أربعة عقود، فإن كلمات كارتر تعبر عن بصيرة، فحلم تقرير المصير الفلسطيني لم يتم بعد، فبتعبيد الطريق أمام السلطة الوطنية قامت كامب ديفيد بمساعدة إسرائيل على الانتصار، وتقوية رؤيتها حول سلطة وطنية ذات سيادة منقوصة تساعدها على إدارة الاحتلال”. ويقول أنزسكا: “دون دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزةوالقدس الشرقية يواجه الفلسطينيون جهودا جديدة من القادة الإسرائيليين لتقويض فرصة سيادة حقيقية لهم، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث عن (دولة ناقصة)، وتحدث وزير التعليم المؤثر نفتالي بينت عن (حكم ذاتي يعتمد على المهدئ)، ويحدد الحكم الذاتي بالإشراف على (المياه والمجاري والكهرباء والبنى التحتية وغير ذلك)”. ويختم الباحث مقاله بالقول إن “صدى بيغن واضح، لكن في هذه المرة بدعم أمريكي واضح، وبدلا من الاحتفال بالاتفاق المهم بين مصر وإسرائيل، فربما نفكر في ميراث كامب ديفيد المثير للقلق: خطوة مهمة لتأبيد حرمان الفلسطينيين من الدولة”.