احتمالات عزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غير مستبعدة، لكنها ليست مؤكدة. إلى حد كبير تتوقف احتمالات العزل، أو الإفلات منه، على ما قد تسفر عنه انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل من نتائج. رغم التراجع الفادح في شعبية الرئيس الأمريكي، إلا أنه ما يزال يحظى بحماية حزبه الجمهوري صاحب الأغلبية النسبية في مجلسى الكونغرس "النواب" و"الشيوخ"، من أي إجراءات تتخذ ضده، على خلفية التحقيقات الجارية في التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية، التي صعدت به إلى البيت الأبيض. إذا ما تغيرت الموازين السياسية لصالح الحزب الديمقراطي فى الانتخابات التشريعية المقبلة، سيكون مرجحا البدء بإجراءات العزل وانقضاء ولاية ترامب، قبل أن تستكمل مدتها الأولى. بتلخيص ما تمثل انتخابات الخريف استفتاء غير مباشر على ترامب، ومستقبله يتوقف على ما تسفر عنها. بقوة ما توافر لدى المحقق الخاص روبرت مولر من معلومات وأدلة، واعترافات تدين الرئيس الأمريكي، من أقرب معاونيه، فإن موقفه يزداد سوءا يوما بعد آخر. ترامب يدرك ذلك، ويعمل على مواجهة أزمته المتفاقمة بتحصينات سياسية، أهمها أن يكسب حزبه الانتخابات التشريعية التي توشك أن تبدأ. هذا خط دفاع أول بالتحسب الانتخابي. وما بعده التخويف من مغبة عزله، فإما هو أو الفوضى، هو أو سقوط المجتمع الأمريكي في وهدة الفقر عندما يخسر رئيسا رائعا مثله- كأنها استعارات من قاموس حكام العالم الثالث. فى التخويف خطاب شعبوي يحاول أن يتجاوز الكونغرس والميديا والمجتمع الأكاديمي واعتراضات الديمقراطيين وخصومه داخل الحزب الجمهوري، وكل ما له علاقة بالمؤسسة الأمريكية إلى الشارع مباشرة، حيث جمهوره المتعصب ضد الأقليات السوداء واللاتينية والمسلمة، كأنه تلويح باحتراب أهلي. هذا خط دفاع ثان بالحشد الشعبوي لصناديق الاقتراع. إلى أى حد ينجح مثل هذا الحشد فى تقليل الأضرار المحتملة بصناديق الاقتراع، أو اجتراح معجزة ما تنقذه من العزل؟ هذا هو السؤال الذي ينتظر إجابته فى الخريف. ما يحدث فى أمريكا شأن يخص العالم كله. رغم ما ألم بها من تراجعات واهتزازات وما جرى في النظام الدولي من تحولات وتغيرات، فإنها مازالت حتى الآن القوة العسكرية والاقتصادية الأولى، وما تتبعه من سياسات ومواقف تؤثر فى عمق الأزمات الدولية وتفاقمها في كثير من الأحوال. من هنا للخريف -حين تتضح الصورة الجديدة للمؤسسة التشريعية الأمريكية- فإن ظلال أزمة ترامب ستخيم بصورة شبه كاملة على أزمات الإقليم المشتعلة بالنيران. بمعنى آخر، فإنه سيحاول توظيف تلك الأزمات لمقتضى مصالحه الانتخابية، أو أن يقول لجمهوره إنه ملتزم بكل ما تعهد به أثناء حملته الرئاسية. كان احتجاز القس الأمريكي أندرو برونسون، داعيا إلى تصعيد غير مسبوق مع الحليف التركي التقليدي للولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في مواجهة الدور السوفييتي. لا يمكن تلخيص الأزمة في تعارض المصالح والسياسات بالشأن الكردي فى سوريا، أو التذمر الإسرائيلي من بعض المواقف التركية بشأن القضية الفلسطينية. ولا يمكن تصويرها على أنها محض دفاع عن مواطن أمريكي محتجز، وهذه لها أهميتها التقليدية داخل الرأي العام هناك. وسط التعارضات والتذمرات حسابات إضافية لا يمكن تجاهلها، أفضت إلى فرض عقوبات اقتصادية على دولة عضو فى حلف "الناتو"، فالقس المحتجز ينتمى إلى الطائفة الإنجيلية، التي تمثل إحدى الركائز الانتخابية لترامب، وينتمى إليها نائبه المتشدد مايك بنس. لأسباب أخرى، من المتوقع التصعيد مع إيران، والمضي في تقويض القضية الفلسطينية. بحكم التوجه العام لقاعدته الانتخابية، فهي تؤيد إسرائيل على طول الخط. لا توجد ثوابت فى إدارة ترامب لسياسة بلاده الخارجية، باستثناء ما تطلبه إسرائيل، حروبه التجارية لا تفرق بين حليف وخصم، وتحرشاته بالاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو" لم تبق له صديقا يثق في وعوده. فى حملته الانتخابية، تعهد ترامب بالتنصل من اتفاق النووي الموقع مع إيران، وقد التزم تعهده، رغم مخالفته لأصول الاتفاقيات الدولية. وفي إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران محاولة لتفجيرها من الداخل، حتى تستجيب لما تطلبه إسرائيل من تقليص لأدوارها الإقليمية، والتوقف عن مشروعها الصاروخي الباليستي. رغم المصاعب الاقتصادية المترتبة عن العقوبات، فإن قدرة إيران على التحمل أكبر مما تطيقه تركيا، حيث يتمتع اقتصادها باستقلال لا يمكن إنكاره. الاختبار الحقيقي في الأيام المقبلة، ما قد يحدث في سوريا من صدامات إرادات وسلاح حول إدلب. ثمة إشارات روسية عن عمل إرهابي متوقع بالأسلحة الكيماوية في إدلب ينسب للنظام السوري، حتى يصبح ممكنا استدعاء ضربات عسكرية أمريكية مع حلفاء غربيين لمواقعه العسكرية. بصورة أو أخرى، ستعمل الضغوطات على تحصين مواقع المعارضة المسلحة في إدلب، وأقواها جبهة "النصرة" المصنفة دوليا كجماعة إرهابية، حتى يمكن التوصل إلى تسوية ما، تسمح للولايات المتحدة أن تكون طرفا رئيسا فى توازنات القوى المقبلة على الخريطة السورية. تحت وطأة أزمة ترامب، سيمضي هذا السيناريو، الذي يتبناه جنرالات "البنتاغون" والاستخبارات، رغم دعوته المعلنة لسحب قواته من سوريا. الجبهة الرئيسة التي ستشهد أعلى درجات المواجهة في الأسابيع القليلة المقبلة، الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. في سجله، فإنه الرئيس الأمريكي الذي نقل سفارة بلاده إلى القدسالمحتلة، وأعلن دون سند من قانون دولي، أنها عاصمة موحدة لإسرائيل. وفي سجله، أنه رفض حل الدولتين وفق أي مرجعيات دولية، فناهض فكرة الدولة الواحدة حتى لا يكون رئيس وزرائها في المستقبل اسمه "محمد"، بنص ما قال. من هنا إلى الخريف، ستتصاعد إجراءاته الميدانية والسياسية لإثبات التزامه بالرواية الصهيونية، في أشد صياغاتها تشددا وعنصرية، كالمضي فى خنق وكالة الأممالمتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين "أونرو"، ومحاولة عزل غزة عن الضفة الغربية، وإلغاء حقوق اللاجئين إلى الأبد، والضغط على الدول العربية الحليفة لتمرير صيغة جديدة محتملة من "صفقة القرن". ومن هنا للخريف، فإنه سيحاول بكل الطرق القفز فوق أي حقوق فلسطينية إلى تطبيع اقتصادي وعسكري واستراتيجي مع إسرائيل، بلا أدنى مقابل. لا ينتظر من رجل بمواصفات ترامب أي عناية بقضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان وطلب الإنصاف للضحايا، لا في فلسطين ولا غيرها. من المرجح، أن تكتفي إدارته بإدانة قتل المدنيين، خاصة الأطفال في اليمن بغارات جوية دون أي إجراءات تطلب التحقيق الشفاف على ما تطالب الأممالمتحدة، أو سعي لإنهاء المأساة، عبر العودة إلى العملية السياسية، وموائد التفاوض. غض الطرف مسألة انتخابية يقابلها ابتزاز مالي متوقع، حتى يمكنه أن يقول لقاعدته الانتخابية إنه أنعش الاقتصاد بأكثر مما فعل سلفه الديمقراطي "باراك أوباما"، وأن لكل حماية ثمنها، وهذا ينصرف إلى أوروبا نفسها، التي طالبها الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، أن تضمن أمنها بنفسها بعيدا عن الولاياتالمتحدة. أسوأ ما قد يحدث أن يستثمر ترامب في أوضاع الإقليم وأزماته، ليرضي قاعدته الانتخابية، قبل مواعيد الخريف، على حساب كل قيمة سياسية وأخلاقية مشروعة، وفق القوانين الدولية.