سطع نور نهار آيار ذهبياً مشرقاً من سراج شمس قوية ، ألمح تساقط الضوء الأشقر على بيوت محلتنا العتيقة ، سقوط أول أشعة شمس صبيحة الأول من آيار جعل لون الدور السكنية ذات الطابوق الجمهوري أصفرَ محاطاً بهالة من القدم ، وسط زقاقنا الضيق الزاهية حدائق منازله بأشجار السدر ومن على جانبيه تقف شامخة أشجار اليوكالبتوس ساكنة في هذا الصباح الساكن ، أجلس تحت ظلالها الباردة المنعشة ، تحف بي زقزقات العصافير تتداخل مع موسيقى عذبة تقترب نحوي من أول الزقاق ، وسط زقاقنا الضيق تسير فوق أسفلته الأسود اللامع عربة خشبية يجرها حمار أبيض اللون محملة بأسطوانات غاز قديمة متسخة بلون رصاصي قاتم ، تصدر عنها أصداء موسيقى بتهوفن تعلو كلما اقتربت من دارنا يقودها شاب يرتدي ملابس رياضية في نهاية العقد الثالث من عمره يجلس فوق أحدى الأسطوانات واضعاً حاسوبه الشخصي فوق ركبتيه ينادي بين فواصل موسيقى بتهوفن سبع مرات : – غاز . . . غاز . . . غاز . . . غاز . . . غاز . . . غاز . . . غاز . كانت الشمس ساخنة ، وبضع غيوم متفرقة تسود السماء الزرقاء ، سماء لم أر مثل صفائها أبداً ، بدت الشمس شقراء لا حد لجمالها تملأ سماء المدينة بشقرة مغرية ، أوراق الأشجار مبتلة بندى الصباح ، وأوراق سعف النخيل مشبعة ببخار الماء المتصاعد على أشعة شمس لا حد لجمالها ، لونها الأخضر الأثيري مذهل ، ما أثار استغرابي وتساؤلي عما يحدث بوصفه أمراً غريباً لم أعهد سماعه من قبل كوني اعتدت على نغمة محددة أصبحت بمثابة إعلان عن وصول بائع اسطوانات الغاز منذ زمن طويل ، قلت في دهشة : – موسيقى بتهوفن ؟!!! هدوء ناضج ترسله معزوفة بتهوفن ، ببطء ، ببرودة ، بقشعريرة ، بشكل متواتر ومتواز ، وما بينهما يصيح بصوت نشيط سبع مرات غاز ، وصل إلي ، بادرني بصوت له وقع محبب : – أتريد قنينة غاز ؟ أجبته بالنفي بحركة من رأسي ، سألته بحزم ومهابة : – أتحب موسيقى بتهوفن ؟ كأنه يقول لحبيبته معلناً عن حبه لها بكلمة : أحبك ، بكلمة واحدة أجاب بنبرة حالمة : – جداً . كان مزاجه رائقاً ، تلألأت ابتسامة عذبة على شفتيه المكتنزتين ليشرق وجهه بفرح طفولي قل نظيره ، علقت بصوت ناعم وعميق : – يلك من إنسان رائع ؟ كان الوقت ضحى ، شمس الضحى ساطعة ، هادئة أوراق أشجار السدرة واليوكالبتوس تحمل عصافير مزقزقة لاهية بنشاط ومرح عاليين ، وسعف النخيل يستريح فوق جذوعه ، روحي متعبة لا تهدأ ، شعرت بتعبها من نزول قطرات عرق قليلة راحت تقطر من جبيني ، هواء صباحي جاف ينذر بشمس صيف حار ، أبدى خجلاً وتردداً واضحين ، عبرت عنه عيناه الخجلتان ، قال بصوت ناعم فيه من الوحشة والشجن الشيء الكثير : – أنا إنسان حالم . عيناه الحالمتان الزاخرتان لهباً يمطرهما دموعاً ، أسأله بصوت خافت وعيناه في ذروة لهيبهما الحالم : – حلمك يشبهك ؟ مثل ناي حزين جاء صوته حزيناً : – حلمي يشبهني . الصباحات تزف نبوءة تفسير حلم الناي الحزين لمدينتي التي كانت جميلة ، زاهية خضرة أوراق أشجارها وسعف نخيلها ، وردها الجوري يضحك لنا بعطره الطيب ، نجد أنفسنا ومدينتنا مسورين بجدران أسمنتية قاسية ، وناياتنا الحزينات يبكين حياتنا الجميلة ، يوم كنا بعد صبية صغار ، علقت بمشقة : – لكن ما أسرع ما تنتهي الأحلام ! لون عينيه مثل لون النحاس المحترق يخفي تحته زلزال حزنه ، وزلزال حزنه يشعل الموسيقى في روحه والموسيقى تشعل النهار في ليل عينيه وعيناه بلون ليل بلاد الرافدين الحزين ، أرفع رأسي عصياً مثل رأس ثور قيثارة أور ، أخبره بعد أن توجه لي بنظرة بين اللوم والحنان وهو يسحب نفساً عميقاً ، ويتحسر بشدة ، وبدا لي صوته حزيناً : – الناجح هو الحالم الذي لا يستسلم في حياته أبداً . مرت لحظات سكون منحتنا الاستماع لهمس نظراتنا الطويلة المندهشة كأننا نعيش حالة غرق ، كانت عيناي عيني غريق ، وكانت عيناه حازمتين قال بحزم مثل قائد عسكري : – أنا تعس بدون الموسيقى . تلك اللحظة رأيته قوياً وحائراً وحزيناً معاً مثل كمان . لم يك يرغب بالتحدث ، ولم يك قادراً على الصمت ، من جديد غرقنا في لجة الصمت ، في تلك اللحظة قال وقد خرج صوته مغيظاً حانقاً : – تعاستي تكمن في أنني لا استطيع أن أعيش بدونها . سألته في محاولة مني لأعتذر منه ولتوضيح الأمر ، وأنا أبتسم له ابتسامة عريضة : – الموسيقى أخرجتك من قنوطك بعد أن طرقت جميع أبواب الحياة حتى وصلت بابك . استطردت : – أفتح الباب . قال : – فتحته ببيع الغاز . سألته : – ولم تبيع الغاز على موسيقى بتهوفن ؟ أتخذ وجهه سيماء جادة أقرب إلى الصرامة حين وجهت سؤالي إليه ليفسر لي لم يبيع قناني الغاز على أنغام موسيقى " لودفيغ فان بيتهوفن " ، رد عليَّ بكلمات تامات صادقات بعد أن رمقني بنظرة غريبة إلتمعت في عينية اللوزيتين المغمستين بضوء شمس قاسية ، قال بصوت مبحوح يشبه الهمس : – حبي للموسيقى يجري في عروقي . خضرة حديقتنا في هذا الصباح فياضة ، ناصعة ، ومتنوعة ، ابتسمت وتطلعت إليه بمكر جميل ، وبعد قليل سألته بلهجة حزينة : – هل درست الموسيقى ؟ أجاب بأسى فتهدج صوته : – أنا خريج أكاديمية الفنون الجميلة – قسم الموسيقى . استغربت من مفارقات حياتنا ، سألته بصوت هش مخنوق : – ألم تحصل على وظيفة ضمن تخصصك ؟ أستغرب من سؤالي ، خلال ثوان سألني بكلمات لم تقلها الدنيا كلها : – أين تعيش ؟ ألست تعيش في بلاد ما بين قهرين ؟!!! حزنت لأن بلدي ليس فيه فرق بين حياتنا وموتنا ، وصمتُّ كسيراً لأن كل شيء فيه يعني الموت ، أصبحت روحي مثل فراشة لائبة تحوم حول ضوء شمعة ، حين رفعت رأسي ، نظرت إليه ، كانت دمعة صغيرة بلون الماء الصافي تنزلق على وجنته اليمنى ، مسحها بسرعة ، ليمتد بيننا صمتٌ قصيرٌ يافعٌ موجعٌ ، لم يطل صمتنا خلالها كنت أرقب عينيه الطيبتين القلقتين ، وحالما التقت نظراتنا ، لم أجب ، نظرت إليه ، ابتسمت ابتسامة صغيرة ، تابع يقول : – لم أحصل على فرصة عمل ، مما دفعني إلى العمل في مهنة توارثتها أسرتي منذ سنين طويلة والمتمثلة في بيع اسطوانات الغاز . رفعت رأسي حزيناً ، كان يتحدث إلي بهمة وصدق ، أستطرد قائلاً بحيرة وهو يشير بيده اليسرى : – أن بيع اسطوانات الغاز مهنة غير معيبة !!! ابتسمت له بحزن ، وحين رأى ابتسامتي التي كانت أقرب إلى العطف منها إلى المجاملة ، تابع يحدثني بصدق : – حاولت تغيير أسلوب العمل في مهنة بيع الغاز اعتماداً على تغيير الرنة المتوارثة حيث اعتمدت على موسيقى بتهوفن وجعلتها عنواناً جديداً لبيع الغاز !! سرحت بعيداً وهو يحدثني عن موسيقاه : – الكثير من الناس تفاجأوا بالموسيقى ، وبعضهم الآخر حمل الأمر على محمل الجد . صباح صيفي من صباحات آيار ، شمسه تستدير في سماء غير بعيدة يلتمع ضوؤها فضياً حاداً صريحاً ، وأنا أراقب جلالها الواضح تعجبت من قوة هذا الإنسان وقدرته على التحمل ، ابتسمت بحزن ، كنت أحس في عينيه الدفء والحنان ، أردفته بسؤال آخر : – هل أحببت عملك ؟ رفع إلي عينين مكتضتين باللوم لا يمكن لأي كلمة في الكون أن تقوله أو أن تعبر عنه ، كانت نظرته نظرة انتصار ، وابتسامة النصر تفترش وجهه ، أجاب بصوت جاف لا يخلو من حنان وحزن ونصر : – أحببت عمل شيء اقتنع به . حاولت مقاطعته ، لكنه ، أشار بيده اليمنى : – الآن موسيقى بتهوفن باتت تجد لها صدى عند بعض الباعة رغم غرابة الأمر لدى الكثيرين . أكمل مبتسماً : – أحد زبائني رجل مسن لقبني ب ( بتهوفن ) !! أكمل فرحاً وهو يشير إلى نفسه بيده اليمنى : – بتهوفن يبيع اسطوانات الغاز !! أستطرد حاكياً : – متقاعد من سكنة الحي المجاور لحيكم اقر بأهمية اعتماد موسيقى جميلة من قبل باعة اسطوانات الغاز لتلافي الضجيج الحاصل أثناء وصول بائعي الغاز إلى الأحياء السكنية لبيع بضاعتهم للزبائن . طازجة ، يانعة ، حانية ، ورقيقة ثمار أشجار سدرة الجيران ، لها رائحة ومنظر شهي تروج له الشمس في عيني عنوة ، فاجأني حديثه الممزوج بالمتعة ، وقال ما لا يمكن أن يقوله أي شيء على هذه الأرض : – التغيير صعب في أي مهنة بسبب أن المواطنين اعتادوا على أطار معين سنين طويلة لذا فان الجهد والمثابرة ستغير الآراء وربما يأتي يوم يؤمنون فيه بأن موسيقى بتهوفن أو غيره باتت مقطوعات إعلانية لقدوم باعة اسطوانات الغاز . نظرت إليه نظرة خاطفة متسائلة ، أشرق معها وجهه ، جاءني صوته فرحاً : – اغلب باعة اسطوانات الغاز يثيرون الضجيج في تنبيه السكان بوصولهم بالطرق على اسطوانات الغاز بآلة حديدية . أكمل حديثه ثابتاً مستقراً ، عيناه شديدتا اللمعان ، وضوؤه يملأ روحي مسرة : – سمعت عن وجود باعة اسطوانات عمدوا إلى استخدام موسيقى بتهوفن كبديل عن الضجيج لبيع اسطوانات الغاز . عيناه تتكلمان ، حديثهما جذاب مشوق ، أقرأ فيهما حبه للموسيقى وحزنه وقلقه الكبيرين عليها ، وجدت فرحه بحبه للموسيقى متجسداً في حركات أصابع يديه الطويلتين الرفيعتين السمراوين ، سألته مبتسماً ، وأنا أحرص على رسم ابتسامة أجمل من ابتسامته : – هل اعتبرتها خطوة تغير جميل ؟ أجاب بفخر : – وضع موسيقى جميلة لبتهوفن ستدفع زبائني . . . شمس آيار ارتدت شالها الأصفر ، أنغام حفيف حرير ضوئها تسيل منسابة من أوتار خصلات شعرها الأشقر ، أنستني ابتسامتي على شفتي ، قاطعته مشاكساً : – للظن بأنك مجنون . ألتمع ضوء خيبة فضي حاد صريح في عينيه يكشف عن وجوده القاسي بقسوة ، فاجأته وأنا أحرك ساكناً بقولي له : – أو أنك فقدت عقلك . كان متعباً وغريباً ووحيداً كأنه قد سقطت على قدمه قنينة غاز ، شفتاه تواقتان لأن تردا علي إلا أنني لم أمنحه حق الرد ، وأنا أقابله بابتسامة مبتسرة مغمغماً : – ستعرضك موسيقاك لسخرية الأطفال في الأحياء الشعبية بسبب جهلهم بالموسيقى العالمية . أشقر جليل ضوء الشمس ، وأخضر هادئ لون ورق الأشجار ، وأرجواني نابض بالعنفوان والتحدي لون وجهه ، ورائحة ثمار النبق تشرق في الفم حلاوة لاذعة ، نظرت إليه نظرة تومض بالمحبة حيث استطردت قائلاً : – بتهوفن لا يمكنك بيع اسطوانة غاز واحدة لان الأهالي اعتادوا على ضجيج الباعة وصوت طرق الحديد بالحديد . سحب لجام حماره وحثه على التحرك ، ثمة غيمات باهتات يتراكضن في سماء بيضاء صافية ، سألته بحياد بارد : – لم تنادي سبع مرات ؟ أبتسم وكأنه أعتاد الحزن والجوع والفقر والحرمان ، وأجاب مسروراً مؤمناً بقوة بقدرهِ : – تعطيني إيحاءً بالخير الكثير ، وتوقع أقصى درجات الرهبة في نفوس السامعين . تركني بعد أن أطلق عنان حماره ، رفع صوت موسيقى بتهوفن ، دموعي تنهمر فضية ممزوجة بالحسرة والخوف ، بكيت ، تركني وحيداً ، صرت لا أعرف كيف أميز بين دموعي وموسيقى بتهوفن وهو ينادي بشجاعة وقوة : – غاز . . . غاز . . . غاز . . . غاز . . . غاز . . . غاز . . . غاز . علي السباعي الناصرية – ظهر يوم الخميس الموافق 18 تموز 2018 م