حُصر هذا البحث في معالجة مفهوم الأخلاق في التصور الإسلامي، وهي معالجة تأخذ بعين الاعتبار الربط بين المفاهيم التي تتقارب وتتشابه في الدلالة على بعض المعاني ذات الصلة بالتصور الإسلامي حتى إذا خلصنا إلى تأصيل المفهوم قمنا بعرض مفهوم الأخلاق في التصورات الأخرى، وهذا كله لمقاصد نحددها في خمسة: الأولى: للفهم والمعرفة، فللأخلاق قيمة محمودة مطلقة يطمح البشر كله إلى العمل بها والسعي إلى ممارستها، لكن العمل يسبقه العلم، والممارسة تسبقها المعرفة، فقبل العمل بالأخلاق يجب فهم معناها، والوقوف عند مغزاها؛ إذ لا يمكن العمل بشيء تجهل حدوده. الثانية: لمصدرية المعرفة، فلأجل الفهم السليم، ولغرض إدراك المعرفة الصحيحة لابد من الرجوع إلى المصادر التي تؤصل لمصطلح الأخلاق بغية إدراك المفاهيم لتسهل المقارنة وتتيسر الموازنة. الثالثة: لأجل الموازنة والمقارنة، ذلك أن الغاية من الكلام عن مفهوم الأخلاق في التصور الإسلامي والتصورات الأخرى هو لتثبيت التمايزات التي تتجلى في الفروق والاختلافات الكامنة في الخصوصيات، ذلك أن الكلام عن الأخلاق في التصور الإسلامي بحمولة مفاهيمية غربية يشوش على الحقيقة العلمية سواء في هذا المجال أوفي غيره. الرابعة: مسلكي، فهو في تأكيد الرغبة على عدم الانسياق مع المفاهيم المبلبلة للآخر، والاحتراس من الانسياب في مسلكيات مفهومية تورث "التناقض الأخلاقي" السائد في الفكر والممارسة، أو على الأقل تضع حدودا بين مسلك خلقي وآخر. الخامسة: دعوي، فالتأكيد على سيادة روح الأخلاق الإسلامية في جسم الأمة أصبح مطلبا ملحا، فالمراهنة على خروج "الروح الأخلاقية الاستعمارية" من جسد الأمة لا يكون إلا بحضور "الروح الأخلاقية الإسلامية"؛ لأن الأخلاق يتصارع فيها السائد والمضاد، والصالح والطالح. "الأخلاق" مصطلح معبر به في الخطاب، يراد له أن يدل على مفهوم معين، والمفهوم المراد هو لغوي واصطلاحي نحددهما من كتب اللغة المعتبرة، ومن آراء الدارسين للموضوع، اخترنا من كتب اللغة لسان العرب والقاموس المحيط، ومن آراء العلماء قول جامع للإمام أبي حامد الغزالي، مع تعليق خفيف. جاء في لسان العرب: "الخُلْق هو الدينِ والطْبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها، ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصور الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصور الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع 1". وفي القاموس نحو ما في اللسان، يقول: "والخُلُق، بالضم وبضمتين، السجية والطبع والمروءة والدين"، وزاد: "والمرأة خلاقة: حسن خلقها2′′، فظهر من هذا أن مفهوم الخلق يتحدد في سلوك الإنسان الحياتي المنبثق من قناعته الباطنية والمتمثل في الدين والطبع والسجية والمروءة، وهذه العناصر لا تعني الحصر؛ إذ يمكن للمرء أن يضيف إليها غيرها من مثل: الورع والتقوى والاستقامة والفضيلة والزهد... فكل عنصر منها هو خُلُق بحد ذاته، والجمع: أخلاق لا يكسر على غير ذلك3، وقد يطلق الخلق ويراد به مجموعه كقوله تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ (القلم: 4)، ومن مقتضى المحددات اللغوية السابقة يعرف الإمام أبو حامد الغزالي (450ه- 505ه) الخلق بتعريف جامع مبني على التحديدات اللغوية السابقة، يقول: "الخُلُق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا سميت تلك الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا4". الأخلاق، إذن، هي عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة، وليس هي فعل الجميل أو القبيح ولا القدرة على الجميل أو القبيح، ولا التمييز بين الجميل والقبيح، إنما هي الهيئة التي بها تستعد النفس لأن يصدر عنها الإمساك والبذل. مثلما أن للخُلُق صلة بالخَلْق من جهة المبنى (الاشتقاق) فللأول صلة بالثاني من جهة المعنى (المفهوم)، ذلك أن القطع بينها يوقع في مهاوي فكرية غير محمودة، يِؤكد الراغب الأصفهاني هذه الصلة فيقول: "والخلق، بالفتح، يقال في معنى المخلوق، والخلق بفتح الخاء، والخلق بالضم في الأصل واحد؛ كالشرب والشرب، والصرم والصرم، لكن خص الخلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق بالضم، بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾5′′، فظهر من هذا أن الخَلْق هو ابتداع العالم على غير مثال سابق، وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه: ﴿ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين﴾ ( الاَعراف: 53). والخالق والخلاق من صفات الله تعالى، ولا تجوز هذه الصفة، بالألف واللام، لغير الله تعالى، ولما أوجد الله الأشياء جميعها بعد أن لم تكن موجودة قدرها في استقامة وانسجام، وأصل الخلق: التقدير أيضا، ولما كان التقدير مرتبطا بالخَلْق كان الخُلُق أو الخُلْق داخلا فيه، فدل الخَلْقُ على الحسيات والماديات المدركة بالبصر، ودل الخُلُقُ على المعنويات والسجايا المدركة بالبصيرة، ومرجعهما جميعا إلى الاستقامة والتقويم. يرتبط مفهوم الخلق بمفهوم الفطرة ارتباطا قويا، فالفطرة خاصية مميزة للإسلام عن غيره من الديانات والفلسفات، ذلك أن من مفاهيم مصطلح الفطرة: الخلق والإسلام وما يؤول إليهما، واقترن وجوده في القرآن الكريم بنعت الإسلام في آيات كثيرة، وجاءت على لسان جل الرسل، وأصل معناها الخَلق والابتداع، يقول الحافظ ابن كثير في بيان معنى قوله تعالى: ﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والاَرض حنيفا وما أنا من المشركين﴾ ( الاَنعام: 80): "وفطر: خلق وابتدع على غير مثال سابق أو صورة سابقة6." وأما المعنى المتفرع من هذا الأصل فهو (الإسلام)، وفي الحديث الصحيح ما يشهد لذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جذعاء7′′، وفي رواية أخرى عند مسلم: "حتى تكونوا أنتم تجذعونها8′′، ثم يضيف أبو هريرة وهو راوي الحديث: "اقرؤوا إن شئتم: ﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها﴾9." توقفنا عند هذا الحديث؛ لأنه يعتبر أساس كل كلام عن التربية والأخلاق في التصور الإسلامي، فكل من تكلم فيهما من القدماء والمحدثين بنا تصوره على هذا الحديث، والسبب، كما أفصح به غير واحد، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سبق به كبرى النظريات السائدة في فلسفتي التربية والأخلاق، فجون كوكسي (1632-1704م) وجان جاك روسو (1712- 1778م) وغيرهما من أصحاب نظرية النمو الخلقي للإنسان اعتقدوا أن الوليد مثل الصفحة البيضاء التي يدون عليها كل شيء في سياق الحياة بالعلم والتجربة، وفي نفس هذا الاتجاه أكد كلود هلفتيوس، معاصر لروسو، أن الإنسان من الوجهة الأخلاقية ليس إلا نتاج تربيته، أما شارل فورييه فقد بلغ به الاندفاع في هذا الاتجاه حين صرح بقوله: "إن الجامعات تستطيع ساعة تشاء إنتاج أقوام مثل شكسبير ونيوتن10′′، وذهب طوماس هاكسلي في نفس الاتجاه، يقول دوبو: "وقبل قرن من الزمان أكد طوماس هاكسلي (1825-1895م) بعزمه المبهج أن الوليد لا يحمل عند ولادته "يافطة" تشير إلى أن هذا "زبال" وهذا "صاحب دكان" وذاك "قسيس" وآخر "أمبير- دوق"، فالوليد يشبه كتلة من العجينة الحمراء، وبتربيته فقط نستطيع اكتشاف مواهبه وإمكانياته11." هذه الحقيقة التي نطق بها هاكسلي هي التي جعلت الدكتور نبيل صبحي الطويل12 يقول على الفور: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فأنت قبل اثني عشر قرنا من ذلك، حملت للعالم فلسفة الإسلام التي ألهمكها الله، ثم ذكر حديث الفطرة13." إذا كان الطفل في التصور الغربي يولد كصفحة بيضاء، وأن الجامعات والمعاهد التربوية هي التي تتولى إنتاج النوع المرغوب فيه من الأطفال وذلك بنقش الصفحة البيضاء وفق المخطط والغاية المرسومة سلفا، فإن الطفل في الإسلام يولد باستعدادات جبلية وبخاصيات طبعية هي موجودة فيه بالفطرة، اللهم إلا إذا صرف عنها بالقهر والغلبة ليتهود أو يتنصر أو يتمجس، وقد ذكر الحديث اليهودية والنصرانية والمجوسية؛ لأنها، من المنظور الإسلامي، هي سمات الانحراف عن جادة الفطرة، وأن هذه الأطراف الثلاثة هي المكون الأساسي للأخلاق المتداولة بين البشر قديما وحديثا، وقد ذكرها الحديث ليوازي بينها وبين مفهوم الأخلاق في الإسلام، أما ذِكر الأبوين فإن فيه إشارة إلى المهمة التربوية والأخلاقية التي توجد على عاتقهما؛ لأن الطفل حين يولد يولد كاملا، ومن علامات اكتماله الاستعدادات المجبول عليها، قال الراغب الأصفهاني في تعليقه على لفظة (خلاق): "والخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه، قال تعالى: ﴿وما له في الاَخرة من خلاق﴾ (البقرة: 199)14′′، ويضيف: "وفلان خليق بكذا؛ أي كأنه مخلوق فيه ذلك، كقولك: مجبول على كذا أو مدعو إليه من جهة الخلق بالفتح15." والطفل، الذي هو إشارة إلى الإنسان جملة، يولد من بطن أمه مجبولا على الاستقامة بفطرته، لا يجد أمامه في البداية جامعة ولا معهدا ولا مدرسة، بل يجد أبويه فقط، فإن أحسنا تربيته ونميا فيه مدارك الفطرة كان على الخُلق المراد، وإن لم يحسنا ذلك ووجهاه توجيها منحرفا فقد لطخا فطرته وأفسدا خُلُقه، ﴿بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون﴾ (المطففين: 14)، فلا خلق، إذن، إلا بالتربية؛ لأن الأصل في التربية لغة هو اهتزاز الشيء ونموه وفق المراقبة الدقيقة ليصل إلى اكتماله، وهذه هي مهمة المربي، فالمربي هو الذي يسهر على تنشئة مرباه حتى ينمو وفق المعطيات التربوية التي يلقنها إياه ويمارسها عليه، تماما كالساهر على تنمية بذرة معينة فإنه يراقبها بالسقي والأدوية وإزالة الحشائش الطفيلية حتى تنمو سالمة لتعطي الثمرة المرجوة منها، لذلك جاء المفهوم اللغوي للتربية من ربا يربو16، وكل مرب ساهر هو (رب)، و(الرب)، بالألف واللام، اسم من أسماء الله الحسنى، ودلالته أنه الساهر على خلق الكون ومراقبته والعناية به من كل ما قد يطرأ عليه من الفساد، لا تأخذه عنه سنة ولا نوم، ولما كان الأصل في الخُلق الاستقامة والهداية لغاية العبودية كان السعي إلى المشي على سنن الفطرة هو المطلوب، لذلك وكلت للعقل مهمة اكتشاف قوانين الطبيعة وسنن الفطرة لمن أراد الوصول إلى غاية ما، ولما كانت الاستقامة هي الأصل، والفساد والانحراف ظواهر طارئة بينت الشريعة الضوابط والمعايير التي تتم بمقتضاها التربية الصالحة لغاية تحقيق الخُلق المحمود، وهي كلها تستمد من الكتاب العزيز، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ما كان لبشر أن يوتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون﴾ (ءال عمران: 78)، والكتاب هنا هو القرآن الكريم، والدراسة هي ما دار في فلكه من معارف وعلوم، والربانيون هم المعلمون لسنن الأنبياء ومناهجهم وأخلاقهم الفاضلة وما جاءوا به من وحي للبشرية، وإليهم جاءت الإشارة في محكم التنزيل: ﴿وكأين من نبيء قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين﴾ (ءال عمران: 146). إن التربية الصالحة هي الوسيلة الوحيدة التي تنمي مدارك الإنسان وفطرته نحو الخُلق المحمود، بالتربية الصالحة تترسخ مبادئ الأخلاق في النشء ليربو عليها فلا يتزعزع عنها أبدا، لذلك أدرك أعداء الأخلاق السوية والاستقامة المحمودة، وهم أعداء الفطرة من منظورنا، هذا المبدأ فقاوموا المربين والمعلمين والدعاة والمرشدين وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل ومن تبعهم وسار على نهجهم. التربية والتعليم شرطان لازمان لتأديب الإنسان وهدايته، وقد خضع الأنبياء والرسل لعملية التأديب والهداية، فلولا التوجيه الإلهي والهداية الربانية لزل أكثرهم، وقد حاول الإمام الغزالي أن يرى عكس هذا الأمر حين جزم بفكرة مفادها أن من الناس من ولد حسن الخلق بفطرته بحيث لا يحتاج إلى تعليم ولا إلى تأديب، ومثل لذلك بعيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام، وكذلك بسائر الأنبياء والرسل، كما لا يبعد، فيما يرى، أن يكون في الطبع والفطرة ما قد ينال بالاكتساب، فرب صبي خُلِق صادق اللهجة، سخيا، جريئا17. إن الرأي الذي ذهب إليه الغزالي من جهة أن الأنبياء والمرسلين ليسوا في حاجة إلى تعليم ولا إلى تأديب لم يحض بالقبول لسبب واحد هو أن الموضوع الذي تكلم فيه مرتبط بعصمة الأنبياء، وعصمة الأنبياء في غير تبليغ الوحي هي مما اختلف فيه العلماء18، وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة على طلب الأنبياء الهداية والمغفرة من الله، وفيها أن الله، عز وجل، ابتلاهم بذنوبهم فاستجاب لهم وغفر لهم. وجه الإمام الغزالي اهتمامه للنفس أكثر من أي شيء آخر، ذلك أن الطريق إلى تربية الخلق فيما يرى هو: التخلق، والتخلق هو حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب، فمن أراد أن يجعل في نفسه خُلُقَ حب الآخرين فعليه أن يجهد النفس على فعل الحب المتمثل في حسن التعامل والبشاشة وقضاء الأغراض والصبر على الأذى حتى يصير ذلك طبعا له، ومن أراد أن يحصل لنفسه خلق الجود فعليه أن يتكلف فعل الجود، وهو بذل المال حتى يصير ذلك طبعا له وهكذا. إن تركيز الغزالي على النفس هنا ينبع من مدى اهتمامه برياضة النفس، وهو هنا يدفع بالمرء إلى تزكية النفس وتهذيبها لتحصيل ما يرغب فيه من مكارم الأخلاق، وكسب الخلق بسبب التخلق إنما ينبع من العلاقة الجدلية القائمة بين القلب والجوارح، يقول رحمه الله: "كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب، ويعرف ذلك بمثال: هو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة صفة نفسية له حتى يصير كاتبا بالطبع، فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد على ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن، فيتشبه بالكاتب تكلفا، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه، فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعا، كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفا، فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسنا، ولكن الأول بتكلف إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب، ثم انخفض من القلب إلى الجارحة، فصار يكتب الخط الحسن بالطبع، وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس، فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء، وهو التكرار للفقه،حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه، فيصير فقيه النفس19." قد يظن البعض أن قوله تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والاَبصار والاَفئدة لعلكم تشكرون﴾ (النحل: 78)، يتعارض مع حديث: "كل مولود يولد على الفطرة..."، والحاصل أن بين الآية والحديث تكاملا وانسجاما تامين، فالمولود حين يولد من بطن أمه ويعبر إلى هذا العالم لا يحمل معه شيئا من المعلومات ولكنه يولد بأدوات تحصيل المعرفة، ومن النظريات التربوية السائدة في ميدان المعرفة والأخلاق في الغرب ما حاولت أن تدرس الإنسان بيولوجيا وجغرافيا لتصدر عليه أحكاما جاهزة هي أقرب إلى العنصرية والعرقية منها إلى البحث العلمي النزيه، فالأخلاق ليست لها صلة بالمسألة البيولوجية من جهة ضخامة الجسد و نحافته، ومن جهة طوله وقصره، ومن جهة بشرته ولونه، كما أن الأخلاق هي بعيدة عن مجرد استصدار أحكام على الناس بمقتضى الطقس والمناخ والموقع المكاني. آية سورة النحل تبين أن الإنسان يولد وتولد معه أدوات الحس والإدراك لكنه لا يعلم شيئا من أمور الدنيا، ولم يثبت قط أن طفلا ولد من بطن أمه يتقن التجارة والحدادة أو الخياطة والخرازة، أو وُلد عالما بفضائل الأخلاق ومكارم القيم، فهذا هو المقصود من قوله تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا﴾؛ أي لا تعلمون شيئا من هذه الأمور، ولكن الله ﴿جعل لكم السمع والاَبصار والاَفئدة﴾، وهي مختلف الحواس والقدرات والجوارح والملكات التي بها يتعلم الإنسان، وبها يقرأ الواقع المحيط به قراءة جديدة، قراءة تغذي فطرته، وتنمي مداركه، ولما كانت (الأفئدة) حواس داخلية وقدرات باطنية دلت هي الأخرى على أشياء مهمة من خلق الإنسان. لأن الخلق هو القوى المدركة للخير وللشر، وللحسن والقبح، وهي أمور يعقلها العقل، والعقل أداة ميز الله بها الإنسان على الحيوان، وإلى العقل وُكلت مهمة التمييز بين الصالح والطالح، وما ينفع وما لا ينفع، وبمقتضى الفطرة تميل النفس إلى الحسن عوض القبيح، وإلى الخير عوض الشر: ﴿قد اَفلح من زكاها، وقد خاب من دساها﴾ (الشمس: 9-10)، وبما أن هذه الوسائل= الجوارح اجتمعت كلها في خَلْق الإنسان كان كل ما يحصله الإنسان بمحض إرادته هو اكتساب، والاكتساب هو حرية الإرادة في فعل الشيء مقرونا بالتخيير فيما يعلم وبالتسيير فيما لا يعلم، وفي محكم التنزيل: ﴿أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا﴾ (العنكبوت: 3)، وقوله تعالى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس﴾ (الروم: 40)، وقوله تعالى: ﴿بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة: 80)، وقوله تعالى: ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون﴾ (المطففين: 14)، والران هو الغشاوة، أو كالصدإ على الشيء الصقيل، وفي الحديث: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه، فإذا هو نزع واستغفر صقلت، فإن هو عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي ذكر الله تعالى: ﴿كلا بل ران على قلوبهم﴾20." إذا نظرنا في مجمل التعاريف التي أعطيت للإسلام21 نجد مدارها على عبادة الله، عز وجل، ومعلوم أن عبادة الله لا تكون إلا بمجمل الواجبات والأحكام المنصوص عليها، وهذا يوقفنا على مسألة مهمة وهي أن الإسلام وعاء للفضائل المحمودة، وللخصال الكريمة، وللصفات النبيلة، وإذا أردنا الاختصار قلنا: إن الإسلام والأخلاق متساويان من جهة المفهوم، ذلك أن الطاعة والامتثال، إنما يتحققان بالأخلاق المطلوبة شرعا، ومن سعى إلى العبادة بغير الأخلاق التي حددها الشارع فقد أخطأ القصد، وفي كلام الله تعالى لموسى وأخيه: ﴿قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون﴾ (يونس: 89)، فأمر بالاستقامة ونهى عن اتباع ضدها، وهما شرطان ضروريان في الطاعة والامتثال، والشارع الحكيم هيأ أسباب عبادته بمسألتين: الأولى: أن الله تعالى جعل الأخلاق جزءا من الميثاق، ذلك أنه خلق الإنسان بسجايا وملكات ونوازع تمكنه من تحصيل الخلق السوي والاستقامة المطلوبة، كما أودع فيه ميولات واستعدادات تمكنه من منافرة مساوئ الأخلاق ومشاين الشيم: "الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس22′′، وهذا يدل على أن الاستقامة هي الأصل، والانحراف عن الصراط من الطوارئ، يدلنا على ذلك الحديث القدسي الذي رواه عياض بن حمار وأخرجه الإمام مسلم وفيه: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا23". الثانية: إن الأخلاق المطلوبة من الشارع هي الاستقامة، والاستقامة ليست موكولة لكل أحد أن يستقيم كما يحب، لأن هذا يكون ذريعة لتعدد الاستقامات حسب الأهواء، وهو أمر غير مقبول في الشريعة الإسلامية، شواهد ذلك من قوله تعالى: ﴿فلذلك فادع، واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم﴾ (الشورى: 13)، وقوله: ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك﴾ (هود: 142)، وتقدمت معنا آية سورة يونس في خطاب الله لموسى وأخيه، وهي كلها تدل على أن الأخلاق مطلوبة من الشارع طلب وجوب؛ لأنها مقدرة فينا بالتوقيف، ولما كان القانون الأخلاقي المطبوع فينا غير كاف بفعل الأمور المزاحمة للفطرة، وبفعل الطوارئ الملطخة لها "بعث الله في الناس من حين لآخر نفوسا متميزة ملهمة بالوحي الرباني، وتستطيع على مدى التاريخ الإنساني أن تضطلع برسالة إيقاظ الضمائر، وإزالة الغشاوة على النور الفطري الذي أودعه الله فينا، وهذه النفوس المصطفاة بتعاليمها الدقيقة التي تلقنها للناس تعمل على حصر الاختلافات بينهم في أضيق نطاق ممكن، وخاصة بالنسبة لتقدير الحكم الأخلاقي، وهكذا يجد النور الفطري ما يكمله ويقويه من وحي النور الإلهي "نور على نور"24." للأخلاق، إذن، تاريخ ومسيرة، لم يكن موقف دعوة محمد عليه الصلاة والسلام سوى الإتمام والإكمال، وفي الحديث: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق25′′، ونقل الزرقاني في تعليقه على الحديث من قول الحافظ ابن عبد البر: "ويدخل فيه الصلاح والخير كله، والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل، فبذلك بعث ليتممه26." بناءً على ما تقدم يمكن التأكيد من دون تردد أن القرآن والسنة مصدران للأخلاق الإسلامية، فالقرآن الكريم حافل بآيات كثيرة كل آية تدل على أخلاق عديدة أو خلق معين هي من المكارم، بل تجد سورا كاملة في الأخلاق مثل سورة الحجرات مثلا، وفي القرآن آيات تقدم القرآن كله على أنه دستور للأخلاق، من ذلك قوله تعالى: ﴿إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم﴾ (التكوير: 27-28). أما في السنة النبوية فيبدأ الكلام عن الأخلاق من ذات النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم تثبت السنة أن الأخلاق النبوية هي من أخلاق القرآن الكريم، وقد أكد القرآن الكريم ذلك، أخرج الإمام أحمد في المسند والبيهقي في السنن الكبرى بسندهما إلى سعيد بن هشام بن عامر أنه قال: "أتيت عائشة فقلت: يا أم المِؤمنين أخبريني بخُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن قول الله عز وجل: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ (القلم: 4) قلت: فإني أريد أن أتبتل، قالت: لا تفعل، أما تقرأ: ﴿لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة﴾ (الاَحزاب: 21)، فقد تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد ولد له27". يؤكد الحديث ما يلي: 1. أن القرآن الكريم مصدر للأخلاق الإسلامية. 2. أن القرآن الكريم شهد للنبي، صلى الله عليه وسلم، بسمو أخلاقه وعظمها. 3. أن أخلاق النبي، صلى الله عليه وسلم، هي من أخلاق القرآن. 4. أن الأخلاق في الإسلام هي سنة تؤخذ من أخلاق النبي. ويجب التفريق هنا بين "الأخلاق النبوية" و"الأخلاق السنية"، فالأخلاق النبوية هي أخلاقه، صلى الله عليه وسلم، وهي تجسيد حي للأخلاق التي جاءت في القرآن، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، المجسد الأول لهذه الأخلاق والساهر والمحافظ عليها، وقد تأتى له ذلك بصفة الرسالة والنبوة، ولذلك لم يرق أحد لأخلاقه، جاء في حديث أنس: "كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحسن الناس خلقا28′′، أما "الأخلاق السنية" أو "الأخلاق في السنة" فهي الأخلاق التي دعا إليها وحث المؤمنين على التحلي بها، فمثلما كان، صلى الله عليه وسلم، ساهرا على أخلاق القرآن الكريم ومحافظا عليها فإنه كان داعيا إليها، وفي السنة أحاديث كثيرة تحث على الأخلاق وتدعو إليها لكن في غير انفصال عن السنة النبوية. لم تعرف المكتبة الإسلامية غير نوعين من التعاليم الأخلاقية: فهي إما نصائح علمية، هدفها تقويم أخلاق الناس وإقناعهم بالقيمة العليا للأخلاق المحمودة مثلما فعل الدكتور عبد الله دراز في مؤلفه الحافل "دستور الأخلاق في القرآن29′′، وإما وصف لطبيعة النفس وملكاتها مع تعريف الفضيلة وتقسيماتها مرتب في غالب الأمر بحسب النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، وخير كتاب بني على هذا النظام هو كتاب أبي علي أحمد بن محمد بن مسكويه (توفي421ه) المسمى ب"تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق30′′، وفي بعض الأحيان يتعاقب هذان المنهجان في مؤلف واحد كما نلاحظ عند أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني في "الذريعة إلى مكارم الشريعة31′′، وفي صورة أكثر وضوحا عند الإمام أبي حامد الغزالي في كثير من كتبه، ومنها كتابه (جواهر القرآن) الذي رد فيه جوهر القرآن إلى عنصرين: الأول: يتصل ب "المعرفة" وحصر عدد نصوصه في ستمائة وثلاث وستين آية، والثاني: يتصل ب "السلوك"، وحصر عدد نصوصه في سبعمائة وإحدى وأربعين آية، ثم كتابه الحافل (إحياء علوم الدين) الذي يعتبر موسوعة شاملة في الموضوع، تكلم فيه عن الأخلاق على طريقة أهل التصوف، جاء خطابه في القضايا الخلقية متأثرا بأبي عبد الله بن أسد المحاسبي (توفي243ه)، وبالجنيد السالك (توفي 298ه) وغيرهما من أصحاب الأحوال، فهو تارة يسمي الأخلاق ب "علم طريقة الآخرة"، وتارة يطلق عليها "علم صفات القلب"، وتارة ينعتها ب "أسرار معاملات الدين " وتارة أخرى يصفها ب "أخلاق الأبرار" وهو اسم لبعض مؤلفاته. ثم هناك بعض الكتابات في القديم عالجت بعض الخصال الخلقية تحت كلمة (أدب) لعلمهم أن الأدب لا يطلق إلا على المحمود من الخصال، ومهما يكن فإن كتابات مفكري الإسلام في موضوع الأخلاق لم تخرج عن نهج الكتاب والسنة، ذلك أن الإشارة إليهما تبقى حاضرة مهما اختلفت الرؤية إلى الموضوع، غير أن طريق عرض المعلومات تختلف بحسب اختلاف منهج البحث، وبحسب مؤثرات عصر المؤلف السياسية والثقافية والاجتماعية مما يضفي على هذه المؤلفات تنوعا أصبح هو الآخر قابلا للبحث والدرس، والذي يمكن الجزم به في هذا السياق أن التصور الفلسفي الحديث نأى في بحث موضوع الأخلاق والقيم عن التحديد الذي رسمته الشريعة، فجاءت المخالفة واضحة والتباين صارخا، وهذا ما سنحاول توضيحه في الفقرات الموالية. إذا نظرنا فيما أنتجه التصور الفلسفي من أبحاث في هذا الموضوع وجدناه يتحدد في زاوية ما اصطلحوا La morale على تسميته ب "علم الأخلاق"، ويسمى علم لأخلاق أيضا ب "علم السلوك" أو "تهذيب الأخلاق" أو "فلسفة الأخلاق" أو "الحكمة العملية" أو "الحكمة الخلقية"، والمقصود به معرفة الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكو بها النفس، ومعرفة الرذائل لتتنزه عنها32، وهذا كله لتحصيل غاية واحدة هي (السعادة)، ولتحصيل السعادة تكلم الفلاسفة في طبيعة الوجدان والضمير، وطبيعة الخير والعدل، والواجب والمحبة، وبنوا جميع المفاهيم الخلقية التي تصوروها على الأسس المستمدة من مبادئهم الفلسفية العامة33، التي ترتكز في بنائها على عناصر يونانية ورومانية وفارسية وهندية، ويطلق لفظ "الأخلاق" اليوم على المعاني الآتية: الأخلاق النسبية: وهي مجموع قواعد السلوك المقررة في زمان معين لمجتمع معين كما قرر ذلك دوركهايم في كتابه "تجزئة الأعمال الاجتماعية 1/962". الأخلاق المطلقة: وهي مجموع القواعد الثابتة التي تصلح لكل زمان ومكان، ويسمى العلم الذي يبحث هذا الموضوع ب "فلسفة الأخلاق". أخلاق المواقف: Morale de situatio وهي الأخلاق المبنية على تحديد المعطيات المعقدة الخاصة بكل حالة من حالات الحياة لا الأخلاق المستنبطة من القوانين العامة. الأخلاق الساكنة: Morale statiqueفي مقابل الأخلاق الحركية Morale dynamique أو المنفتحة moral ouverte ينظر في هذا الموضوع كتاب هنري برغسون les deux sources p: 268. ثم تكلموا في الأخلاق النهائية والأخلاق المؤقتة ، والأخلاقي واللاأخلاقي، وفرقوا بين الأمر الأخلاقي والأمر الذي هو بمعزل عن الأخلاق amorale كسلوك الحيوان35 مثلا. ومما تجب الإشارة إليه هنا أن لفظة (أخلاق) كثيرا ما تتم نسبتها إلى مذاهب معينة، فإذا نسبت على هذا النحو دلت على قواعد السلوك الخاصة بالمذهبية التي نسبت إليها مثل قولهم: الأخلاق المسيحية36، والأخلاق الرواقية والأخلاق البوذية والأخلاق القومية والأخلاق العلمانية والأخلاق الشيوعية... ولتعدد هذه المركبات بتعدد المذهبيات والنظريات سنبحث بعض الأنواع من الأخلاق المذهبية. كانت الكنيسة الكاثوليكية تفرض سيطرة مطلقة على الواقع الأوروبي، وكانت هي المدير الأوحد للشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والأخلاقية.. أسرفت الكنيسة حياتها في الملذات حيث كانت الأموال الكثيرة تجبى إليها وفق العادة القديمة من الجهات القريبة والبعيدة، وكانت هذه الأموال تصرف في زخرفة الكنائس وتزيين أديرة الرهبان، أما المعلمون المسيحيون فقد أثاروا قضايا جدالية فارغة، وأصبحت لهم ثروات هائلة، وتزايد عدد القساوسة الذين ينقصهم الورع والتخلق، ومنذ سنة 1055م دخلت الكنيسة الكاثوليكية " الغربية " في حرب مع نظيرتها "الشرقية"، وهي الكنيسة القيصرية الروسية التي تسمت ب "الأورثذكسية"، وجرت اتهامات أخلاقية بين الكنيستين، واستمر ذلك إلى غاية القرن الخامس عشر الهجري حيث في هذا الجو الساخن ظهر مارثن لوثر (1483- 1546) الذي شن حملة على بابا روما موجها إليه اتهامات أخلاقية موجعة منها التلاعب بالكتاب المقدس، وتحريفه والاتجار به، والخروج على تعاليمه بالإضافة إلى سرقة أموال الناس والتلاعب بعواطفهم وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وباختصار فقد اعتبر مارتن لوثر طقوس البابا أقرب إلى الوثنية منها إلى المسيحية الحقة، يقول: "لأن روما هي أخطر لص وأعظم سارق ظهر على سطح الأرض في الماضي أو في المستقبل، آه لبؤسنا نحن الألمان، لقد خدعنا، ولدنا لنكون سادة ولكن ما أجبرنا على أن نحني رقابنا تحت نير طغاتنا... لقد حان الوقت لكي يكف الشعب التيتوني المجيد عن أن يكون دمية في يد بابا روما37." انتشرت دعوة لوثر في أوروبا حيث تسمت ب (الحركة البروتستانتية)، ومعناها: (الحركة المحتجة)، وساندتها دعوة جون كالفن في فرنسا (1509-1564)38، هذا الذي انتقل إلى سويسرا حيث بشر من هناك بالمذهب الجديد، ونشأت على إثر هذه الموجة حركة عداء مستمرة بين الكاثوليك والبروتستانت وصلت إلى مواجهات دموية بينهما طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين مازالت آثار تلك العداوة تخيم بظلالها على العلاقة بين الكنيستين إلى اليوم، أما الحركة البروتستانتية فهي بدورها لم تكن بديلا أخلاقيا وعقديا بالنسبة للأوروبيين، ذلك أن هذه الحركة لم تصمد هي الأخرى كوحدة منسجمة أمام تقلبات الأحداث في أوروبا، بل انقسمت إلى كنائس عدة، كل واحدة لها طقوسها وأعرافها ومسلكياتها الخلقية39، كان من نتيجة هذا الصراع ظهور اتجاه عقلاني جديد في أوربا لا يؤمن بالمسيحية ولا بهرطقاتها، بل لا يؤمن بالغيب مطلقا، وهذا الاتجاه هو الذي سنشير إليه في النزعة القومية. النزعة القومية في الغرب هي نزعة عقلانية ملحدة40، استندت إلى القوة في تكوين الدولة الحديثة، هذه الدولة هي الدولة الوطنية الثائرة على الكنيسة وعلى هيمنها، كان نيكولو ميكيافيلي Niccollo machiavelli يدعوها في سخرية ب (الإماراتالجديدة)، وهي إمارات علمانية في بنائها السياسي، تكاثرت مع مطلع عصر النهضة، أقدمها إمارة أنشأها فريدريك الثاني في جنوبإيطاليا قبل ثلاثمائة سنة من كتابة ميكيافيلي لكتابه (الأمير)؛ أي قبل سنة 1513م، و(الأمير) كتبه ميكيافيلي وأهداه للرونزودي مديشتي حاكم فلورنسا الجديد، أهمية هذا الكتاب تكمن في كون ميكيافيلي لمح فيه إلى الأخلاقيات التي تحتاجها الدولة الحديثة، كما حاول أن يوفق فيه بين (الدولة السياسية العلمانية) و(الأخلاق المسيحية) مؤكدا على تحالفهما والتوفيق بينهما، وقد يعين على فهم هذه الحالة الرجوع إلى اثنين من أشهر المتحدثين في هذا الموضوع، عاشا في انجلترا في القرن السابع عشر الميلادي، وهما: طوماس هوبز (1588-1679) في كتابه (التنين)، وجون لوك (1632- 1704) في كتابه "رسالة ثانية في الحكم41". لفظة "أخلاق" هي من أكثر الألفاظ تداولا في الخطاب الاشتراكي الشيوعي، وغالبا ما تتركب إلى ألفاظ أخرى من مثل: التربية، النشء، والشبيبة، والطفل، والفرد، والمجتمع، والروح... وهي كلها ألفاظ منبثقة من الأيديولوجية الشيوعية ومرتبطة بأهدافها، وتختلف جذريا عن مدلولها في التصور الإسلامي، ومن مظاهر هذا الاختلاف ما يلي: أ. تشير اللفظة إلى مدى ارتباط الفرد بالأيديولوجية الماركسية، ومدى محافظته على الاشتراكية الشيوعية ومدى تفانيه في خدمتها. ب. تدل على كل ما يمتلكه الفرد من خبرات وتجارب في مجال العلم بهذه الأيديولوجية، وفي مجال تعليمها وتلقينها. ج. تستقى المادة الأخلاقية –بالإضافة إلى الاعتماد على التجارب الحية- من مصادر محددة لا تخرج عن كراسات ماركس وإنجلز ولينين والقادة الشيوعيين الذين تعاقبوا على الحكم منذ ثورة 1917م. د. الأخلاق الشيوعية الحقة هي الأخلاق التي تنبني على الإلحاد، أو لنقل بعبارة ميشيل فيريه "الأخلاق الملحدة42′′؛ لأن المتخلق الشيوعي هو الذي لا يؤمن بالغيب، ولا يعتقد في أية ديانة، لأن الإيمان بذلك، حسب زعمهم، يزرع في القلب التواكل والكسل، ولا يجعل هم المواطن ينصرف إلى جهة الواقع ليشيد فيه بناء ماديا، وينتج في وسطه عملا جيدا. ه. الأخلاق التي تعود إلى الأديان هي أخلاق آلية وليست مرنة، ويتصورون أن "نجاح المثل الإنسانية ليس آليا بالتأكيد43′′، والأخلاق بالمعنى الحقيقي ليست لها قيمة كبيرة، إن أهميتها وفائدتها للمجتمع الشيوعي هي (قضية معرفة وتنظيم أكثر منها إرادة طيبة ووعي سيئ)، ويعتقد الماركسيون أن الأخلاق بغير مدلولها الشيوعي هي تبرير لقضايا الواقع، وما دامت القضية كذلك فضد الأخلاق هو "علم النفس التربوي" "إن الأخلاق تنظم الحياة، ولكن الحياة تنتظم فيها أيضا44′′، هذا هو الشعار الذي يسوغ للشيوعيين أن يضعوا مكان الأخلاق: "العلوم الطبيعية والاجتماعية والنفسية"، العلوم التي توجه لغاية تحقيق الشيوعية أو الاشتراكية العلمية. مما مضى نستنتج ما يلي: 1. لا نستغرب إذا وجدنا لفظة (أخلاق) هي لفظة مشتركة بين جميع المذاهب والتصورات، السبب في ذلك أن للمبادئ الأخلاقية عند جميع الأمم قيمة مطلوبة، فلذلك كانت هي الأصل الذي ترجع إليه جميع القيم الإنسانية. 2. تستمد الأخلاق في التصور الإسلامي من القرآن ومما صح من السنة النبوية، فالأخلاق في القرآن، ما لم يعمل بها، هي (أخلاق نظرية)، والأخلاق في السنة (أخلاق عملية)، فهي مرتبطة بالأولى لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، (كان خلقه القرآن)، وأخلاق الناس في المجتمع هي (أخلاق واقعية) يراد لها في التصور الإسلامي أن تكون (أخلاقا تطبيقية)، فإذا كانت الأخلاق الواردة في السنة مبنية على الأخلاق التي أتى بها القرآن فإن أخلاق الناس يجب أن تُبنى على هذين الأصلين لتكون أخلاقا تطبيقية بالفعل. 3. في القرآن كليات خلقية عامة وخصال محمودة وفضائل منثورة في الكتاب العزيز، تارة تأتي على الإجمال كما نرى في آيات متفرقة من القرآن، وتارة أخرى تأتي على التفصيل في جهة واحدة كما نرى في سورة "الحجرات" التي هي سورة للأخلاق بامتياز، أما السنة فهي مجال لتفعيل الأخلاق، ولذلك اعتبرت ذات النبي، صلى الله عليه وسلم، محورا للأخلاق الإسلامية: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ الآية. 4. يقوم التصور الفلسفي على معالجة القضايا الخلقية في إطار "علم الأخلاق" وهو علم أريد له أن يكون مستقلا عن الغيب أو عن "ما وراء الطبيعة"، وتُعالج لغاية واحدة هي تحقيق "السعادة". 5. (الأخلاق) في الإسلام هي الإسلام كله، يدلنا على ذلك أن الخلق هو أصل مرتبط بخلق الإنسان وبفطرته، فهو بصيرته المتفتحة على اكتساب الفضيلة والاستقامة، ومن المنظور الإسلامي فالأخلاق تُعالج لمقصد واحد هو تحقيق "العبادة". 6. يدرك الإنسان المعاصر بفطرته أن أكبر خسارة تعاني منها الحضارة اليوم، مهما بلغت من الرقي، هي الخسارة الأخلاقية، ولن ندخل في الكلام عن حجم الخسائر الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة، فإنها تعد بالألوف في كل لحظة، لهذا السبب انصب اهتمامه عليها، ووجه سهام أبحاثه عليها، لكن خلاصة تلك الأبحاث لم تحصل صوابا، ولم توصل إلى نتائج مفيدة، ومرجع ذلك إلى سبب واحد هو أن الأخلاق، كما أرادها الخالق للبشر، من العسير أن تجد لها مكانا في عقول مفصولة عن المنهاج الأخلاقي السوي، عقول تؤمن بضد الأخلاق أنه من الأخلاق، وتبحث نقيض الأخلاق ضمن "علم الأخلاق"، وما له صلة بالمنهاج الأخلاقي السوي هو مطرود من قاموس علم الأخلاق، وفي ظل هذا كله يمكن أن نترقب المزيد من الكوارث في ظل حضارة القرن. المصدر: موقع الإحياء 1. ابن منظور، لسان العرب، مادة (خلق)، 1/889. 2. القاموس المحيط، ص: 1137. 3. لسان العرب، م، س، 1/889. 4. زكي مبارك، الأخلاق عند الغزالي، بيروت: دار الجيل، 1988م، ص152. 5. معجم مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق نديم عشلي، طبعة دار الفكر، د. ت، ص159. 6. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 2/151. 7. صحيح البخاري –كتاب الجنائز– إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ في فتح الباري 3/219 رقم الحديث: 1358. 8. صحيح مسلم –كتاب القدر– 4/ 2047-2048- برقم 2658. 9. صحيح البخاري ومسلم بالمعطيات السابقة، والآية: 29 من سورة الروم. 10. رونيه دوبو، إنسانية الإنسان، ص: 131. 11. المرجع السابق. 12. هو معرب كتاب إنسانية الإنسان لرونيه دوبو. 13. المرجع السابق ص: 131. 14. معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم ص: 159. 15. المرجع السابق. 16. ابن منظور لسان العرب ا– مادة (ربا) – 3/1574. 17. الغزالي، الأخلاق، ص: 154. 18. راجع شرح الكوكب المنير 2/167-169، والفصل لابن حزم 3/2-3، والإحكام للآمدي 2/128، والتبصير في الدين 171-172، وإرشاد الفحول للشوكاني ص: 126. 19. الأخلاق عند الغزالي، م، س، ص154-155. 20. أورده الحافظ ابن حجر في الفتح –كتاب التفسير– 8/696- والحافظ ابن كثير في تفسيره للآية من سورة المطففين – وعلق الترمذي فقال: (حسن صحيح)، أنظر سنن الترمذي برقم 3334. 21. خذ على سبيل المثال التعريف الجامع لابن تيمية الحراني وهو تعريف مشهور، في كتاب النبوات ص: 87/88. 22. طرف من حديث أخرجه مسلم من رواية النواس بن سمعان الأنصاري في صحيحه –كتاب البر والصلة والآداب– باب تفسير البر والإثم 4/ 1980 برقم 2553. 23. طرف من حديث طويل أخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب الجنة– باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار 4/2197 رقم 2865. 24. من مقدمة الدكتور محمد بدوي لكتاب دستور الأخلاق في القرآن ص: ( ي ج ). 25. أخرجه الإمام مالك في الموطأ، انظر الموطأ بشرح الزرقاني 4/ 256 رقم الحديث 1742. 26. المصدر السابق، وفيه قال الحافظ ابن عبد البر: (وهو حديث مدني صحيح، متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة). 27. مسند الإمام احمد 6/105 رقم الحديث 24592، والبيهقي في السنن الكبرى – باب في قيام الليل 2/ 499- 500. وأخرجه أحمد بلفظ ( كان خلقه القرآن) من طريق آخر إلى سعيد بن هشام بن عامر عن عائشة أم المؤمنين، أنظر 6/ 185- 186 رقم 25289 وهو في المسند أيضا بهذا اللفظ من حديث الحسن عن عائشة 6/245 برقم 25802. 28. أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الفضائل– باب كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا، 4/ 1805 رقم 2310. 29. الكتاب عربه عن الفرنسية وحققه وعلق عليه الدكتور عبد الصبور شاهين، وراجعه وقدم له الدكتور السيد محمد بدوي، وصدر عن مؤسسة الرسالة في طبعته الرابعة المؤرخة بسنة 1982م. 30. الكتاب نشرته الجامعة الأمريكيةببيروت عام 1966م بتحقيق الدكتور قسنطين زريق. 31. صدر عن دار الكتب العلمية بلبنان في طبعته الأولى لسنة 1980م، بعناية عبد الهادي موسى البولاقي. 32. أنظر جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ص 50 وهو مستفاد من "تهذيب الأخلاق" لابن مسكويه. 33. المرجع نفسه. 34. ديكارت في كتابه "مقالة الطريق" أنظر المرجع السابق ص 50. 35. المصدر السابق ص 51. 36. أنظر على سبيل المثال كتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" لماكس فيبر بترجمة محمد علي مقلد، طبعة مركز الإنماء القومي. 37. تشكيل العقل الحديث لكرين برينتن، سلسلة عالم المعرفة ص 78. 38. voir encyclopedia universalis 3/803- paris 2e edition -1977( gean calvin). 39. أنظر تشكيل العقل الحديث ( 78- 93). 40. المرجع السابق ص 327. 41. كافين رايلي، الغرب والعالم- تاريخ الحضارة من خلال موضوعات، القسم الثاني، الفصل الثالث عشر، سلسة عالم المعرفة. 42. مشيل فيريه، الماركسيون والدين، ترجمة خضر خضر، فصل بعنوان: (أخلاق ملحدة). 43. المرجع نفسه، ص 136. 44. المرجع نفسه، وانظر بعض خطب ليونيد برجنيف عن الأخلاق الشيوعية في كتاب (برجنيف على النهج اللينيني) ص 438-440. محمد خروبات