تناولت عدة دراسات ظاهرة الإجرام من مختلف جوانبه، من حيث أسبابه وضبطه، وتمتد هذه الدراسات إلى ما يقارب قرناً من الزمن، منذ أن فتح العالم الإيطالي المعروف (لومبروزو) باب العلم لدراسة المجرم ودون الاقتصار على دراسة الجريمة فقط، فكثرت البحوث لتشخيص الأسباب المؤدية إلى الإجرام، ومنها ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية التي تتضمن العوامل الأسرية، سواء للبالغين من المجرمين أو الأحداث الجانحين. وتعرف الجريمة قانوناً. هي كل فعل يقرر له النظام القانوني عقوبة جنائية. وتعرف اجتماعياً: تلك الأفعال التي تمثل خطراً على المجتمع أو تجعل من المستحيل تحقيق التعايش والتعاون بين الأفراد والذين يكونونه. إن الاهتمام بالعوامل الأسرية وعلاقتها بالجريمة امتداد للأفكار التي نظرت إلى الجريمة كظاهرة اجتماعية، حيث يعد الوسط الاجتماعي الأسري من العوامل الاجتماعية المهمة التي تدفع الفرد لإرتكاب الجريمة، فليس هناك شك في أن وجود الأسرة في حد ذاته يعد عاملاً من العوامل المهمة للتنشئة الاجتماعية السوية. لأن وجود الأسرة هو الذي يسمح للفرد بالتدرب على الحياة الاجتماعية. حيث ما يضعه المجتمع من معايير وقواعد أخلاقية يتم نقلها إلى الأفراد عن طريق التنشئة الاجتماعية، فهذه القواعد تضبط بشكل فاعل السلوك الفردي لصالح المجتمع. إذ تبدأ علاقة الأسرة مع الأبناء منذ ميلادهم، وتؤكد الدراسات الاجتماعية والنفسية أن تجارب التعلم الأولى للأطفال في التنشئة المبكرة تؤسس أنماطا للسلوك والعادات والتصورات التي تتسم بالديمومة، والتأثير في استجابات الفرد عند النضج. وبهذا تكون الأسرة الوحدة الاجتماعية الأولى التي تحدد وتصقل شخصية الفرد طالما أنها تلعب دوراً هاماً وبارزاً ولعل هذا هو السبب الرئيس في أن نسبة كبيرة من البحوث ومدارس الفكر في علم الإجرام خلال القرن الماضي قد اهتمت بالعلاقة بين الحالة الأسرية والجريمة. إذ أنها أحياناً لا تعدو أن تكون إحدى الجماعات العديدة التي قد ترتبط بالسلوك المنحرف، سواء كان هذا الارتباط في ضوء المعايير أو في ضوء العلاقات الاجتماعية. ويتبين بوضوح دور الأسرة المؤثر والفعال بالجريمة في المجتمع المعاصر، إذ أن المتغيرات الجديدة كالتحضر، والتصنيع، والحراك الاجتماعي وشبكات الاتصال المعقدة، وانساق القيم المتغيرة، كان لها الشأن في الأثر على بناء الأسرة وأداء وظائفها، فحولت بعض الأسر إلى حالة التصدع. ففي دراسة لكل من (شلدون جلوك) و(اليانور جلوك) على (500) نزيل في إصلاحية (ماستثوسس) ظهر ان حوالي 60% من النزلاء جاءوا من أسر متصدعة، وفي دراسة أخرى لكل من (شو) و(ماكاي) حول الوضع الأسري لمجموعة من المنحرفين وجد أن 42.5% منهم جاءوا من أسر متصدعة بالمقارنة مع مجموعة ضابطة حيث أن 36.1% كانوا من الأسر غير المتصدعة. وفي ألمانيا توصل (بون هوبر) من دراسة (110) من المجرمين الخطيرين الذين حكم عليهم، أن 45% قد أحاطت بهم ظروف أسرية سيئة. وما يتعلق بالتعامل بين الوالدين والأبناء، فقد وجد (هيلي وبرونر) في دراستهما على (4000) حالة أن 40% منهم قد جاءوا من أسر ينعدم فيها التقويم وتسود التنشئة الخاطئة.وبالنسبة إلى الحرمان العاطفي، فقد وجد (هير تزول وستوريا) بفحصهما عدداً من الدراسات حول الموضوع، بأن هناك علاقة بين الجريمة والحرمان العاطفي للأبناء بسبب فقدان أحد الوالدين. تسهم الظروف الاقتصادية السيئة للاسرة في توفر الفرص لابنائها من الاقدام الى السلوك الاجرامي كالسرقة والانحرافات الجنسية .ومن جهة اخرى ان هذه الظروف قد تدفع بالوالدين للسلوك الاجرامي وثم تعد بمثابة مشاهد حيوية لكي يتعلم الابناء هذا السلوك ،وقد تضطر الاسرة الى العيش في مناطق متخلفة من المدينة أو السكن في دور مشتركة ،مما تتيح الفرصة وفقا لمبدا الاحتكاك والتقليد الاجتماعي لتعلم السلوك المنحرف بانواعه ،لان مثل هذه المناطق تكون قريبة الى وسط المدينة التي تكتظ بدور الملاهي الليلية وبؤر الدعارة والتواصل مع اصدقاء السوء. وبصورة عامة فان الاسر التي تعاني من قلة المدخول الشهري سيكون ابنائها اكثر عرضة للسلوك الاجرامي لعدم تمكن الوالدين من تلبية حاجات ابنائهم الاساسية وبالاخص لاولئك الذين تكون لهم دوافع التقليد للآخرين الذين يمتلكون مثل تلك الحاجات بيسر . ان ادمان احد الوالدين او كلاهما لتناول المسكرات والمخدرات يسهم في دفع الابناء الى الانحراف،وذلك لانهم يتحررون من توجيه ورقابة الوالدين مما يؤدي بهم الى تقليد والديهما او يلجاؤون الى اماكن تعوض حاجاتهم العاطفية وقد تكون تلك الاماكن نفسها بؤر للجريمة. ان انشغال الوالدين في العمل خارج البيت لساعات طويلة من العوامل التي توفر فرص لانحراف الابناء لضعف الرقابة اولا ،وثانيا لفقدانهم العطف والحنان الذي هم بامس الحاجة اليه دائما من كلا الوالدين ،وقد يتوهم بعض الاباء بان الابناء ليسوا بحاجة الى عطفهم مثلما هو عطف الامهات ،نعم انه تصور خاطئ لان الدراسات النفسية والاجتماعية تشير الى ان الابناء بحاجة الى الاب كما هم بحاجة الى الام .وقد تبرز هذه الحالة بوضوح عند الاسر المهاجرة التي تبدا من جديد لبناء حياتها الاقتصادية والاجتماعية فينشغل الوالدين بالعمل لساعات طويلة للتعويض عن ما خسرته العائلة في رحلتها نحو المهجر وبالاخص هؤلاء الذين يعملون باشغال شاقة ولساعات طويلة ، وكذلك الذين يمتلكون بعض الاعمال الصغيرة مثل البقاليات والمطاعم التي يتناوب الوالدين في ساعات العمل الطويلة للحفاظ على ادامة عملهم ،تنعكس هذه الحالة في منح حرية واسعة للابناء من الجنسين للاحتكاك مع اصدقاء السوء ،وعدم متابعة دراستهم وفقدان العطف كما اشرنا انفا . ان النزاعات المستمرة بين الوالدين،وقد تكون لاتفه الاسباب في البيت وامام انظار الابناء ،واتهامات بعضهما البعض لامور قد تكون منبهة او محفزة للابناء الى التفكير بها وتقليدها ،او بسب الصخب والصياح والاضطراب اليومي ينزعج الابناء، فيحاولون الهروب من الدار للتخلص من الوضع المزري الذي لا يطاق، وفي هذه الحالة ايضا سيلجاؤون الى اماكن لاشباع حاجاتهم العاطفية ،وقد يخفق بعضهم و وعليه سيكون مصيرهم الاجرام. تعد البنت امها مثلا اعلى لها وكذلك الابن بالنسبة لابيه ،فعندما تقوم الام ببعض الممارسات غير اللائقة تجاه الاخرين وتجاه نفسها من الكره والغش والتحايل والكذب والانفعال غير المبرر وعدم المبالات في التعليم والتزود بالمفاهيم الثقافية، ووفقا لمبدا التقمص النفسي اللاشعوري ستتقمص البنت شخصية الام وتكون النتيجة ان تلك المظاهر ستحملها شخصية البنت وقد تشجعها للسلوك الانحرافي طالما انها عادات سيئة بالمقاييس الاجتماعية، وتنطبق هذه الحالة في العلاقة بين الاب والابن ايضا . يعد الاعلام الذي دخلت وسائله الى كل بيت وبمتناول كل فرد من الاسرة احد عوامل المساعدة لاكتساب السلوك الاجرامي ،واهمها التلفزيون والكومبيوتر ،فاذا اساء الابناء استعمالها لغرض اشباع بعض الحاجات الطبيعية من خلال المواد الاعلامية التي تعرض، وبكل سهولة بامكان المراهق تدوير الجهاز الاعلامي حيثما ومتى ما يشاء فهي توفر فرص لرؤية المشاهد الخلاعية ومشاهد العنف وفنون الاجرام بانواعه ،فاذا كان الوالدين من الذين لايكترثون لخطورة الاعلام على ابنائهم من الجنسين او من الذين لا يمتلكون خبرة في استعمال الكومبيوتر وماهية المساوىء في استعماله، ستكون هناك حتما فرصة للابناء الذين لهم الاستعداد لاستغلال هذه الاجهزة للتروي عن حاجاتهم النفسية والجسدية وفرصة لتعلم السلوك الاجرامي مجانا. ومن جهة اخرى فان للكومبيوتر دور سلبي اذا اساء احد استعماله ،اي عندما تصل الحالة الى مسالة الادمان من قبل الابناء والوالدين ،حيث ان الادمان سيؤدي بهم الى قضاء اوقات طويلة لتصفح ملفات الكومبيوتر المتنوعة الاهداف والمواضيع ،فتضاعف هذه الحالة عدد الساعات التي لم يقضيها افراد الاسرة فيما بينهم ،مما تضعف من الالتقاء الوجداني وتبادل الحديث والاراء والالفة والافراح معا ،وقد تؤدي هذه الوضعية الى تكوين علاقات شكلية بين افراد الاسرة خالية من الشحنات الانفعالية العاطفية التي تقوي الصلات بينهم،لذا ستكون عملا غير مباشر للسلوك الاجرامي لان سوء العلاقة وضعفها وتباعد افراد الاسرة فيزيقيا وعاطفيا ستحرر الابناء من الضبط الاجتماعي الاسري . ومن اخطر الحالات التي تعرض الابناء الى السلوك الاجرامي هي مسألة التمييز من قبل الوالدين تجاه الابناء وقد تظهر هذه الحالة منذ الطفولة وتستمر في حياة الفرد،وقد يخلق هذا التمييز اثارا نفسية في حياتهم الاجتماعية تؤدي الى الاضطراب السلوكي للحرمان العاطفي الذي يفتقده الفرد جراء هذا التمييز وقد يبرر الوالدين انهما لايميزان بين اولادهم ابدا ولكن قد تصدر منهم بعض المواقف تجاه الابناء بصورة لا شعورية وثم يتلقاها الابناء بردود سلبية وشعور بانه لايصلح لشيء اولا جدوى من وجوده في الحياة والا لماذا يفضل والديه غيره .وقد تخلق مثل هذه الحالة التمرد عند الغير المفضل ويلجأ الى حيث اشباع حاجاته العاطفية بسلوكيات مرضية انحرافية لكي يجد نفسه واهمية ذاته في الحياة . لعل من ابرز العوامل الاخرى التي تساعد افراد الاسرة الى الانحراف هو وجود حالة الطلاق ،اذ بينت الدراسات الاجتماعية ان العديد من الاحداث الجانحين قد جاؤا من اسر متصدعة بسبب الطلاق ،وقد يتعرض الابناء وهم اطفال بالذات الى وضع غير طبيعي .فبعد ان كانوا يشعرون بالضمان والمحبة والهدوء وتلبية الحاجات كافة بين والديهم وفجأة يرون انفسهم موزعين بين الولاء للام او للاب،وهذا يخلق عدم الضمان العاطفي والنفسي وينتابهم الخوف من الضياع في المستقبل ،فتتكون عندهم عقد نفسية،اهمها الشعور بالنقص ،وقد يسبب ذلك فشلهم في الحياة الاجتماعية السوية وبالتالي يتعرضون الى نتائج وخيمة وقد تصل الى الانحراف . وخلاصة القول ان للاوضاع الاسرية الاقتصادية والنفسية والعلائقية لها دور مهم في دفع افرادها الى عالم الجريمة ,ولايشترط ان يندفع الفرد مباشرة الى السلوك الاجرامي عندما يتعرض لها ،بل قد تظهر تاثيراتها مستقبلا ،بالرغم من تحسن احواله الاقتصادية ،فما هي جرائم ذوي الياقات البيض عند الاغنياء واصحاب السلطة والقوة في المجتمع نتيجة لتعرض الفرد لمثل هذه التنشئة الاجتماعية في اسرته.واحيانا تظهر عند المتعلمين والمثقفين عندما تتوفر الفرصة بشكل من الاشكال ،وغالبا ما يعبر المثقف عن هذا السلوك في كتاباته وانشطته الثقافية بصورة لاشعورية موجها الروح العدوانية نحو الاخرين .وايضا تظهر انعكاسات هذه الاوضاع بعد الزواج فما حالة الخيانة الزوجية مثلا احدى نتائجها .وهكذا تبين ان الغالبية العظمى من المجرمين الكبار قد تعرضوا في حياتهم الاسرية الى مثل هذه المواقف . الدكتور عبدالله مرقس رابي استاذ وباحث اكاديمي