لم يكن لأحمد أن يختار يوما بين عيشة ميت وموت حي..لكن الوضع فرض عليه فرضا، يوم فتح عينيه الكبيرتين وجد نفسه بين أربعة جدران متماسكة تتوسطها ثغور تشبه عند النظر إليها بقايا الرصاص ..الثغور الضيقة الكثيرة تشعر أحمد بحرية المكان، وهبة ريح السكينة التي تخترق الجدران لتستقر بالبيت الصغير دون مغادرته. بيت أحمد نسخة طبق الأصل لعدد كبير من البيوت هناك، وتصاميم أخرى يمكنك مشاهدتها أيضا كموديل البيت دون سقف أو موديل البيت الخرب تماما إلى غيرها من التصاميم المنزلية المدهشة.. يبدو أن واضعها معماري ذكي يستفيد من كل آلاته وتقنياته المشروعة وغير المشروعة في عمله، إنه موديل 2010م…حيث طيلة السنوات المنصرمة لم يسبق لنا أن شاهدنا وإن على شاشات التلفزة “بيوتا ” من هذا النوع تضم عائلات كبيرة: أجداد وآباء وأولاد وأحفاد يبقى نصفهم الأكبر خارج إطار “البيت” لضيق مكانه وبين الفينة والأخرى تمطر سمائهم السخية بعلب هدايا يشبه لك أنها قنابل جو أرض أو يقوم المعماري الذكي بوضع استعراضات مدوية بالدخان الأبيض – رمز السلام- يبدو أنه مادة الفسفور الأبيض كما تؤكد منظمة الصحة العالمية بتقرير أصدرته سنة 2009م…لقد نصحونا بعدم كثرة السؤال لأنها أوراق الكبار! غير أن أحمد كبير كبر قلبه تماما ..قلبه ذاك يحمل كل مشاهد الحزن والفرح ويصنع من أحمد طفلا كبيرا. أحمد وكغيره من أطفال القطاع يحلم بأن يصبح كذاك المعماري، حيث بإمكانه أن يحلق في السماء متى يشاء أن يستعرض ما لديه من ألوان تشبه الرصاص وريشة تشبه البندقية ..أن يصمم بيوتا من دخان أسود لمن صمم لهم بيوتا من دم أحمر نازف.. لكن حلم أحمد لن يتجاوز أربعة جدران فخلفهما صور عزلة، صور حصار.. يحجب عنه الرؤيا، يمنع حتى أشعة الشمس من الوصول إليه، لقد لمح أحمد أصدقاء طفولته عند الصور ماذا يفعلون يا ترى؟ يبدو أنهم أعداء للشمس أو لعلهم وجدوا مقاما طيبا عند صاحبنا الرجل المعماري…؟ !لقد أخطئوا كثيرا.. كان اتفاق أحمد مع أصدقائه أن يمرروا له الطعام والشراب ومواد البناء بين الأنفاق وأن يتعاونوا معه ليبعدوا ذاك المعماري المحتل عن أرضهم لقد كان حلمهم أن يعيدوا للأرض المغتصبة كل رجالها ونسائها وأطفالها المهجرين غصبا ..أن يلتحموا كخلية نمل ويسترجعوا كل شبر ضائع مسروق منهوب من أراضيهم لقد كان حلم أحمد أن يعقد إخوانه على الأقل قمة عربية تشرف الغيورين على بلدهم تطالب برفع الحصار عنه وتكرم صبره الطويل على كل الآلام والجروح. لقد كان حلم أحمد أن يقف إخوانه ضد المعماري الخائن وكل من يطبع أو يتفاوض معه وأن يقاتلوا معه لا ضده. أحمد لم يكن له أن يختار يوما بين صديق وفي وصديق خائن، لكنه وإن فرض عليه وضع المأساة فرضا، فخياراته ومبادئه تسمو فوق رؤوس الجبناء. هو لن يموت جوعا فلطالما حاصروه وأثبت عزمه وصبره ..أحمد لن يموت بكاء ورثاء على سنوات الحب والخير التي عاشها قديما تحت شجر الزيتون، أحمد مصمم على رفع لواء النصر فحلمه يتجاوز أن يكون مجرد فك العزلة ..أحمد لن يرضى بفك الحصار، ألم يكن معماريا مصمما لبيوت من موديل “النصر آت” ..موديل لن نتوقعه وإن تخيلناه.