قد يظن المرء أن المنحرفين لا مكان في قلوبهم للون الأبيض، نظرا لانزياحهم عن الجادة وارتمائهم تارة في أحضان الإدمان ما بين سيجارة، وجوان، وسربيسة، وقحلة وغيرها من مبيدات حيوية الشباب ونشاطهم في زماننا هذا، و ارتمائهم تارة أخرى في صدر الإجرام ما بين سرقة أو نصب أو غيرهما، لكن ما إن تجلس مع هذه الفئة وتتبادل معها أطراف الحديث تسقط آخر حصون ظنك الهشة، لتخلص إلى أن ثمة قطعا من البياض تغلف قلوب هذه الفئة التي لم تجد من يمسك بيدها وينتشلها من براثن الانحراف… سيد “سين” نموذج حي لأحد الشباب المنحرفين، هو في أواسط العقد الثاني من عمره، نحيل القامة رغم أنه يأكل حتى من دون ما يجوع، يدخن السجائر، والجوان، وكذلك السبسي بنهم، ويتعاطى أيضا بعض الحبوب المهلوسة، إلى جانب معاقرته الخمر، لايخجل من أنه مدمن على الخمر وعلى مختلف أنواع السجائر، وعلى الحبوب المهلوسة، غير أنه يعي جيدا أنه يخطو في الطريق غير الصحيح. سيد سين هذا، لاينفك يتحدث عن كرة القدم، فهو من عشاق نادي ريال مدريد، كما أنه لا يمكن أن يقضي سحابة يومه من غير السخرية من نحافة جسمه من جهة، ومن جهة ثانية من هشاشة المغرب نفسه، خصوصا مسؤوليه ابتداء من المقدم، مرورا بخطيب صلاة الجمعة بمسجد الحي وصولا إلى الوزير الأول… “سين” يتمنى من أعماق قلبه في لحظة تمن خالصة، لو كان وزيرا أولا، يقول إنه إن أصبح وزيرا أولا سيغير جميع الوزراء، ويعين مكانهم وزراء آخرين، متعهدا أنه سيحارب المفسدين حتى إن استدعى الأمر موته هو، ضاربا مثل استبساله بأرنستو تشي غيفارا، على الرغم من أنه لا يعرف جيفارا جيدا، وقد لا يكون سمع عنه إلا من أحد الأشخاص أو ربما قد لا يكون رآه إلا على شاشة تلفاز أو على قميص من تلك الأقمصة العديدة التي تحمل صورة ابن مدينة روساريو الأرجنتينية… لكن ما يشدك إلى الإصغاء إلى كلام سيد سين هو إيمانه القاطع بمبدأ الإصلاح. أما سيد جيم الملقب بلقب “عمي”، يصل الحي مع غروب الشمس بعد يوم شاق من الجولان واضعا على كتفه حقيبة أسراره وبعضا من أنفس أمتعته، يدخل الحي ثملا، وقد انبعثت منه رائحة الخمر، يدخل الحي بقامته القصيرة وقد برزت من ظهره حدبة، وقد غطت شعر رأسه المجعد، قبعة يبدو أنها لا تحتمل الافتراق عن رأسه منذ بداية العام، وقد غطت أيضا كومة من الملابس مزركشة الألوان جسمه الصغير، وذلك احتماء منه من نسيم الليل البارد، مادام أنه لا يملك من هذه الدنيا سوى كوخ صغير تضيء أرجاءه الضيقة الشموع. سيد جيم يجيد التواصل مع مختلف ساكنة الحي صغارا، شبابا، كهولا، شيوخا، إذ إنه يحيي كل من صادف وجهه وجهه، يتحدث عن القناعة، و عن القلب الأبيض، و يعرج مرات عديدة على الحديث عن السياسة من دون أن يفارق عود السبسي يده، جيم متأثر أيما تأثر بجيفارا، يعرف عمر البشير، وتشافيز، وأوباما وغيرهم من أبرز القادة العالم،كما أنه يحب الاستفراد بالحديث، ويكره أشد الكره من يعارضه في أي أمر كان. يتحدث عن نفسه حديثا يشبه قصص الفرسان، يتحدث عن علاقاته الجيدة ببعض رجال الأمن، وعن احترام بعض منهم له، إلى جانب سرده قصص نزالاته الخيالية مع خصومه الذين يسقطون أمامه مثنى، وثلاث، ورباع، فما بالك إن كانوا فرادى، بالإضافة إلى تكلمه بكبرياء و اعتزاز عن سقوط المعجبات في حبه، هو الذي يظن نفسه وسيما، بما أنه استطاع التعرف في يوم واحد على ثلاث فتيات قد تستطيع بيسر قياس جمالهن إن وجد طريقا إليهن، انطلاقا من هيئته هو، ولعل ما يزيد من مصداقية كلامه ربما زيه وحذاؤه العسكريان، بيد أن مصداقية حديثه تنقص إلى أن تسقط تماما، بعدما تمعن النظر في جسمه الضعيف الذي لا يرتفع عن الأرض إلا قليلا، وبعد أن توقن حتما عندما تراه، أن هبة ريح كفيلة بطيرانه إلى سبع سماوات، إلا أن أجمل ما يمكن أن تسمعه من سيد جيم، هو إيمانه بأن الله هو موزع الأرزاق، وأن الرجال ليسوا رجالا بالأموال، وإنما بما يصنعونه من الأعمال… هكذا هي يوميات سين وجيم وغيرهما، لا ينقضي يوم منها، إلا وتنكشف معه بقع مضيئة من قلوبهم، ليبقى السؤال المطروح إلى متى يستمر غض الطرف عن احتضان المنحرفين ومحاولة إدماجهم في المجتمع؟، لأن فيهم طاقات لم تنفجر، وانفجارها لايكون إلا بالاهتمام والرعاية.