إن وراء كل مجموعة غنائية رائدة وناجحة، كلمات شعرية هادفة وملتزمة. فالمتتبع لأغلب المجموعات الغنائية المشهورة والمحبوبة من طرف الجماهير، يجدها، من دون شك، تتبنى الشعر المتقن والخاضع لقواعد الشعر وضوابطه لدى المجتمع الذي يحتضنها. فالكلمة الصادقة تتغلغل الى الأعماق في انسيابية تامة تزيدها الموسيقى حلاوة وروحا دائمة. إن لكل فرد من أمازيغ الجنوب، مهما كانت منزلته ومرتبته وطبقته، حظ من الشعر. فاما أن يكون شاعرا مبرزا أو راوية حفاظة، وإن لم يكن كذلك، ففد يكون ذواقا له، مغرما بسماعه، متمثلا بروائعه. ومهما قل أو كثر ذلك الحظ عندهم، فانهم “نقاد” بالسليقة كما أن عنصر الصدق هو الشرط الأساسي المطلوب عندهم في الشعر، وقد ذهب بهم هذا الى حد يشبه الاجماع على الكلمة النقدية التي ينتقدون بها الشعر والشاعر معا، وتلك الكلمة هي “ءيغزان” أي “صدق”. ولا يعترف لشخص ما بالشاعرية الا اذا بز الجميع، وهذا لا يتفق الا للأفذاذ. لذلك نجد أن القبائل تعتز بأنها أنجبت أو احتضنت شاعرا أو شاعرة يكون كل منهما لسان قومه، ولا يسلم بذلك الا لمن فرض نفسه بتمكنه من تاريخ أمجاد تلك القبيلة، وأبطالها وعلمائها، وحلفائها وأعدائها واوليائها، بل حتى تضاريسها ومناخها وتقاليد أهلها. ميالا بطبعه لخوض المعارك الشعرية من أجل قبيلته متى دعته الضرورة لتمثيلها في موسم ما أو في الحفلات المتبادلة بين القبائل الأخرى(1). ومن دون شك أن الفرق الأمازيغية الحديثة قد أخدت هذا المعطى بعين الاعتبار، فسارت على درب الروايس في اختيارهم للكلمة المغناة بعناية تامة، فحفظتها الذاكرة، وتناقلها الأفواه من قبيلة لقبيلة، ومن مكان لمكان، ومن جيل لآخر. فرغم وفات أغلبهم، الا ان أشعارهم بقيت حية، ما تزال تفعل في مشاعرنا الأفاعيل. وكأنها قيلت لأول مرة، وليس قبل عقود من الآن. من أمثال أغاني الحاج بلعيد، جانطي، الحاج محمد الدمسيري، تحيحيت مقورن، تالبنسيرت، واهروش، أيسار، أشتوك وآخرون. متخدين من شعر سيدي حمو الطالب، باب نومارك، مرجعا ونبراسا لهم في وضعهم للشعر. فرغم مرور قرون على وفات أب الشعر الأمازيغي، الا أن شعره مايزال موضع تقدير من طرف جميع أمازيغ الجنوب، تغنى به الروايس في حفلاتهم، ومن بعدهم المجموعات الغنائية كمجموعة أرشاش. لقد تفطن الشعراء الأمازيغ الى أهمية الكلمة ودورها في استردادا الحقوق، والدفاع عن المظلوم ضد الظالم، نصرة للقضايا العادلة أينما وجدت. فكما دافعوا بالشعر عن حرية بلادهم انطلاقا من مجموعة من القصائد المغناة، كقصيدة سوس للحاج بلعيد، وقصيدة “أرباعية” لبوبكر أزعري، وقصيدة “الضابيط” لعمر واهروش. فقد حزنوا لما يصيب اخوانهم في أي مكان من العالم، ولم يبخلوا بالعون والمعونة لمن يحتاج إليها ما استطاعوا لذلك سبيلا، فحتى في أحلك الظروف والأوقات وهم تحت القصف الفرنسي في أبشع صوره2 ظلت أعناقهم مشدودة الى اخوانهم في تونسوالجزائر وليبيا، وحاولوا العبور إليها، لكن فطنة المستعمر حالت دون ذلك، لقد حمل الشاعر “مولاي علي”، المزداد بسوس سنة 1900م، آلته الموسيقية سنة 1929 واخترق شرق المغرب تجاه الجزائر حيث وجد المهاجرين المغاربة في انتظاره بحماس منقطع النظير، فأسمع المغرب الأوسط روائع ونضالات المغرب الأقصى. وفي سنة 1937م تخطى الحدود الجزائرية إلى تونس ذاتها، فلما علم المستعمر خطورة هذا الرجل منعه من تخطي الحدود المغربية مرة أخرى، فلازم مع فرقته مراكش مضطرا سنة 1946م. فما استكانوا ولا يئسوا بل استعملوا سلاح الشعر في شتى المحافل والملتقيات الخاصة، وفي الساحات العمومية “كجامع الفنا” الذي جعله الرايس “مولاي علي” بعد منعه من السفر الى الجزائر نقطة استراتيجية لتلاميذه ورفاقه تمكنهم من قصف الاستعمار بوابل من أشعارهم الحماسية. وبعد تهديدات باعتقاله وفرقته أرسل هذه الأخيرة3 إلى إنزكان – قرب مدينة أكادير- من أجل قضية الشعوب المستضعفة التي تنضوي قضيتهم ضمنيا داخلها مما جعلهم عرضة للمضايقات والاعتقالات والنفي. بعد حصول المغرب على استقلاله، لم تكتمل سعادة المغاربة عموما، والسوسيين خصوصا، لكون مجموعة من الأقطار الاسلامية والدولية ما تزال تحت الاحتلال والقيد، فكيف ينسون معاناة الشعوب المستعمۤرة وقد تجرعوا مرارة الاستعمار وويلاته وآهاته، فحاول الشعراء السوسيون مسايرة الأحداث الدولية فتحدثوا عن الحرب العالمية، وحرب الهند الصينية والمقاومة الجزائرية، كما أبدعوا وبرعوا في تمجيد الثورة الفلسطينية حتى لنجد الشاعر المستاوي محمد4 يصدح بحنجرته أمام الملأ في قبيلة “ءيداءوزدوت” صيف 1967 بأبيات شعرية منها: ءافيتنام ءيرزا ماريكان غ ءوفوس ءاوا دا ءيوالان ءوداين ءيراسول ءيكمض التعريب: كسر الفيتنامي يد الولاياتالمتحدةالأمريكية، أما اليد التي تحمي الصهيونية فقد حان وقت إحراقها. كما تحدثوا عن العدوان الثلاثي على مصر: “قنال السويس” ءالاه ءيخلف عليكوم تحركم كولو لبابور ءي رومين التعريب: هنيئا لأهل قناة السويس بتدميرهم بوارج الغزاة هذا إضافة إلى مجموعة من الأبيات الشعرية التي تحكي معاناة الشعب الفلسطيني والعراقي والأفغاني والشيشاني والكشميري ...، منها ما هو موثق تغنت به مجموعات غنائية مشهورة بالمنطقة، ومنها ما ظل حبيس الصدور تتلقفه الألسن ضمن التراث الشفهي. وكان أول شريط غنائي للشاعر السوسي “عثمان أزوليض”5 سنة 1988 يحمل اسم “الله أكبر” ويعالج مسألة “البوسنة والهيرسك” والتي كانت قضية المسلمين آنذاك. كما أن مجموعة “ازنزارن” بقيادة عبد الهادي، خصصت لنفسها أغنية تعالج فيها معاناة الشعب الفلسطيني، جاء في بدايتها: “صهيون يوسي توزالت ءوكان ءاريقرسي” وتعريبها: بني صهيون حملوا السيوف والسكاكين وهم يذبحون الشعب الفلسطيني. وهي أغنية كلها معاني راقية يضيق الحال عن التوسع فيها. وآخر ما وصل إلى مسامعنا هو ما تغنت به مجموعة “ءيمازالن”، وهي أغنية تحمل اسم “ءافرا ءيغازا” أي “السلام لغزة” والتي جاءت على اثر العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة6 في بداية سنة 2009، والأغنية كلها رسائل شعرية مساندة للشعب الفلسطيني في محنته. وقد جاء في أحد مقاطعها ما يلي: “تامازيرت ن سوس توزند يا واوال منطقة سوس ترسل إليكم نداءها: ءيماسن ءايافكّان ءاراديرار ءاكال التحرك والأخذ بالأسباب هو ما سيعيد الأرض تامونت ءايركّازن سرجاتاك ءيسان اتحدوا أيها الرجال وسرجوا الخيول ءاناوس ءومغناس نكشم ديس ءاشبار” لنساعد المقاوم وندخل معه إلى ساحة الوغى هذه الأبيات تعتبر إشارة واضحة بكون منطقة سوس منشغلة بهموم إخوانها في أرض فلسطين، وفي أي مكان آخر ما يزال يمارس فيه الظلم بشتى أنواعه. وللإشارة فان هذه الأغنية تم إعدادها في زمن قياسي، وأطلقت على شبكة الأنترنت بالمجان والعدوان الإسرائيلي ما يزال جاريا. هذا فيما يخص بعض المجموعات الغنائية التي تقوم بتسجيل إصداراتها الفنية، أما فيما يتعلق بالفرق التقليدية كأحواش وأجماك التي تعتبر الكلمة الموزونة أهم ركائزها، فانه عادة ما يتم توثيق حواراتها الشعرية بشكل شخصي، سواء في الحفلات العامة التي تحييها القبائل والقرى، أو في المناسبات العائلية الشخصية التي تدعى إليها القبيلة. ويبقى الجزء الأهم منها دون توثيق. وسأسرد هنا بعض الأبيات الشعرية التي تغنى بها شعراء “أجماك” في إحدى حفلات الزواج بجبال الأطلس الصغير بمنطقة أيت وادريم صيف 2004: والأمر هنا عبارة عن جدال شعري بين طرفين، طرف مؤيد لسياسة صدام حسين وبن لادن، وطرف يحمل الرجلين ما وصلت إليه أوضاع المسلمين اليوم. ءيموسلم ءوراد كيدين ءاشكو طاسن المسلمون لن تتحسن أوضاعهم لأنهم نيام ءازوند تيهراي ءيكسا كيسنت كا ءوشن فهم مثل قطيع نعاج يرعى فيهم الذئب كما يشاء الله ءوكبار ءاكرزان ءيكشم سلت الله أكبر لقد دخل الأسد إلى القفص – الأسد كناية عن صدام حسين- ءاكاناس ءوكان تاغاموت ح ءيمينس لقد وضعوا له اللجام في فمه ءوراسول ءيسيويدن ءوخسان نس ولم تعد أنيابه تخيف أحدا ................................... ........................ ءاميريكان ءايبيدن س لقوام نس لقد تجهزت أمريكا مدافعة عن مصالحها ءيساكا ءيخلو تيكما ءيموسلمن وهي تدمر مساكن المسلمين بلا هوادة ءوكان ءيكشم بلادن تيفراتين هذا وبن لادن مختبئ في جحره ءايان ءيسكارن لعيب ءات ءيتخلاصن كل من يرتكب جرما إلا وسيدفع ثمنه ءاليح ءيكشم لعيراق س لكويت فكما اكتسح العراق الكويت ءيكا لكويت ءيزرين كيس ءوسان نس و قضى فيها أيامه ها غاصاد هاتي ءيحركاك مناصانص فهاهو اليوم قد احترق نصف أرضه ءاليصانص ءولا لمازوط ءيويناست وقد نهبوا نفطه وبنزينه ءاماناك راتوت تاكات ءيرومين فمتى ستأتي الدائرة على النصارى لتضربهم اللعنة ................................. .......................... إن المتمعن في هذه الأبيات يحس بمدى الوعي السياسي الذي يتحلى به هذا الشعب، فالأمر أشبه بتحليل سياسي للأوضاع الراهنة، بوجهات نظر مختلفة، مع احترام للآخر وتذكية لروح الاختلاف، ومن جهة أخرى فالأبيات السالفة الذكر والمقتطفة من حوار شعري طويل في رقصة “أجماك” قد تم في حفلة عرس، فبدلا أن يتم الحديث عن الحب والعشق كما هو معهود في مثل هذه المناسبات، تم تفضيل الحديث عن أوضاع المسلمين وأحوال الأمة،7 هذا مع العلم أن أغلبية ساكنة المنطقة أمازيغ لا يفقهون اللغة العربية، ولم يجعلهم هذا يحسون بكونهم في انعزال تام عما يقع في الأقطار الإسلامية، أو أن الأمر لا يعنيهم في شيء البتة. بل انشغلوا واهتموا بكل صغيرة وكبيرة تقع ضمن حدود الأمة الكبيرة. ومايزال النضال الشعري مستمرا بسوس، دفاعا عن حرية الشعوب وحقوقها، ولعل أهمها نصرة القضية الأمازيغية والدفاع عنها لاخراجها من مستنقع النسيان والاهمال. وتعتبر كلمات الحاج محمد الدمسيري في هذا الصدد خير معبر عن هذا النضال. وعن نفس القضية تقول الرايسة فاطمة تابعمرانت: نشيت ءاغروش تياكالغيت نغ ءييي لاحي فل أضرب أوأعلق أو حتى أختطف تمازيغت ءافا تازالغ ءاوال نغ ءاياني على الأمازيغية أدافع فهي لغتي نكي ءاد ءيزوارن ويدا ءيران ءايي ناكرني أنا الذي سبقت هؤلاء الذين يريد اقصائي نكا يان د ءايتما كين كولو سرتي ياني أنا مع اخوتي شيء واحد، وكلهم بي متحدون غيكلي س عيشن ءيزان كاس ءوكان نعيشي عيشتنا كما عيشة الذباب ءيغ ءيترس ف ءومدوز ءيش تيرمت نس ءيروحي... يقع على القمامات، يأكل ثم ينصرف... وأختم هنا بأبيات من قصيدة الشاعر عثمان أزوليض التي ألقاها في حفل توزيع جوائز المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2008 تزامنا مع الذكرى السابعة لخطاب أجدير التاريخي. يان ءيسفاون كيغاك لومور غوفوس ءيغور توسيت لهم ربي كراتنغ ءاتابرات أسيدي تلا لادريس نس ءيغور تلكم بابنس نعاوداسنت مانزا تيفيناغ دايي يهمان ... مانزا تلفزا ءولا لخبار نس ءيسنيت لوزير ءيدوهن ءاكال ءيسيني واياض ءور داغ نزري يات ءيساك ءور نسين ءيغ كيغ ءيهدر يان ءيغ ءيكوت صبر رايك ءيمون د روح ءيقاند ءيميكوك ن واضو وزاليم ءات ءيكضو يان يشان تامنت د واتاي ءيما يان ءيقن تيوالين ءورا يزر يات ءاكا زوزرغ ءاوال ءيييد ءييوين ءيما ءاسافار نرات غ مدن غرانين ءوراك كيس لعيب ءيغ تلا تغوييت ءاد ءينكر يان ءيطاسن ءاداخد لكمن هوامش: 1 – عمر حسين أمرير، 1975، الشعر المغربي الأمازيغي، الطبعة الأولى. 2 عمر حسين أمرير، الشعر المغربي الأمازيغي، قصيدة “قصة سوس” للحاج بلعيد 3 أعضاء الفرقة: عمر واهروش, الحسين أزافاض, عبد الله لمزوضي, محماد بن عمر, مولاي لحسن, أمبارك أمكرود. 4 شاعر معروف من مواليد تارودانت, غزير الانتاج, دون أشعاره في دواوين مطبوعة, يمتاز بترصده للمشاكل الاجتماعية فيعالجها بأسلوب فني ساخر. 5 جريدة “ءيزوران” الامازيغية، دجنبر 2008، العدد الافتتاحي 6 قد كنت من المشاركين في كتابة كلماتها إلى جانب كل من الإخوة: خالد العثماني، رشيد بسام، لحسن الداودي . 7 – يذكر أن رقصة “أجماك” هي رقصة خاصة بالذكور دون النساء، وفيها يتم ارتجال الشعر وتداوله بين فرقتين تتحاوران حول موضوع معين. وتتطرق إلى المشاكل الاجتماعية للقبيلة وللأمة ككل. كما أنها ما تزال تلعب دورها في التوعية والإعلام والفرجة على حد سواء، في جو من الإحترام والحشمة منقطع النظير. للتواصل مع الكاتب: [email protected]