هكذا عيشة الفقراء، والدراويش داخل الموسوعة العالمية، عيون تترقب الضحى وسكون الليل، لتهمس في أذن القمر ألحان موزار، ومسرحيات شكسبير، عبر أهازيج الكرنفال، وبؤس السياب في قصيدة جيكور، لاختيار ملكة جمال الفيتوري في قصيدته إفريقيا، على إيقاعات الأوديسة، ونظرة فيكتور في كتابه البؤساء. و ككل يوم أستيقظ على قهوتي السوداء، أحتسي نكهتها بعد أن أكون قد فرغت من الحمام، فأغسل وجهي بالصابون لأزيل هموم الأمس باليوم الجديد، لأرتدي ملابسي، وأحمل أغراضي وأتوكل على الله إلى العمل، لأعود مساءا إلى البيت، فأجد نفسي في غرفتي، يقابلني السرير، أمام الباب، يفرش لي أجنحته كي أستلقي عليه، كونه يشعر أني لا أحتاج في تلك اللحظة إلا إليه، وعندما أجلس وأخلوا إلى نفسي وأتعمق في هذا العالم العجيب، وأتدبر في هذا المخلوق الذي شاء الله له أن يكون، وقد خلقه من تراب وجعل قدميه ملتصقة به، ليتذكر دائما تلك العلاقة التي تربطه بالتراب كونه لابد يعود يوما إليه، ليعانقه ويضمه من جديد، وأرمق كيف أن هذا الإنسان يكابد ويكافح، ويصارع الزمان كي يحظى بلقمة عيش، وأنظر كيف يعبث الفقر بالفقراء، وكيف تخرج الابتسامة عنوة من شفاههم، تجتر آلاما وأحزانا تغنيها شمس الصباح، لتموج آمالا كما البحر سرا، بين قبلات المساء، وغروب الشمس، لتصافح الغد بيوم جديد. و من الصعب أن أشكر الفقر، ولكنني في هذه اللحظة قد أشكره، لأنه علمني أنه ليس عيبا، ولكن العيب أن تسأل الآخرين فيمنعوك، إذ من الصعب أن تكون غنيا، ولكن من السهل أن تكون فقير، فكونك فقيرا، فهذا يعني أنك تتحمل ما لا يقوى أن يتحمله الجبل، ولكنك مع الصبر والعمل والأمل، يكون كل ذلك بمثابة الماء الذي يحي الأرض بعد موتها، إذ الفقر رغم آلامه وأحزانه، فقد أخرج من صلبه رجالا صنعوا تاريخا من بؤسهم، ووصلوا بفضل كفاحهم وجدهم وتعبهم إلى مراكز بالغة الأهمية. ولا شك أن الفرق واضح بين الفقير والغني، في الأكل والملبس وغيرها، حيت يسعد الغني حين يبكي الفقير، ويسعد الفقير عندما يرضى عليه الغني، فتجد الخادم مثلا يشارك سيده في آلامه وأحزانه، وأفراحه فهو يسعد إذا سعد، ويفرح إذا فرح، بل ويبكي إذا بكى تأثرا به، ورحمة وشفقة عليه، كونه في باطنه لا يحب أن يرى دمعة سيده، لأنه لم يعتد أن يراه ضعيفا، وكون الغني إذا بكى أمام الفقير أشفق عليه، عكس الغني قلما يشارك الفقير همومه، والحقيقة أن هذه السمات الجميلة التي تظهر على الفقراء، تعبيرا منه على أخلاقيات هي في الحقيقة قد لا تكون عند سائر الفقراء، وأيضا دهورها عند بعض الأغنياء تواضعا منهم، واحتراما للفقراء، حيت أن هناك من الناس من ينقم على الفقر، وأنا أتفهمه أحيانا، إذ الإنسان بطبعه يعشق الحياة الكريمة، ويكره الاحتقار والعيش في الذل والهوان طول الدهر، إذ النفس البشرية تسعى دائما بطبعها إلى الجاه والغنى والظهور، وتكره البؤس والفقر، وتسعد حيت تجد راحتها.