حينما نبحث في مراجع التاريخ المتعلقة بالسير الذاتية لأغنياء العالم و التعرف على مصادر ثروتهم و طرق صرفها تخالجنا مشاعر متناقضة تتراوح بين الإعجاب و الاحتقار. إعجاب يرقى لدرجة التنويه بمنجزات أثرياء أروبيين و أمريكيين و صرف معظم ثرواتهم في العمل الخيري و في تخفيف المعاناة و الآلام و الآحزان و الاحتياج و البؤس عن الكثير من البشر في أنحاء مختلفة من العالم . و احتقار تجاه أثرياء عرب، قاموا بالتعبير في كثير من المرات ،عن تفاهتهم و حقارتهم ، بصرف ثرواتهم بطريقة مستفزة و تدعو إلى الاشمئزاز و الكراهية. حينما يذكر أثرياء أوروبا و أمريكا خصوصا القدماء ، دائما تكون أسماء الكثير منهم خالدة بمساهماتهم في أعمال خيرية لا زالت فوائدها تعود بالخير على البشرية . سأتناول في هذا المقال نموذجين للحالتين المذكورتين أعلاه ، أحدهما من المغرب ، من كبار الملاك و السلطة لعقود و الآخر من سويسرا ، من كبار رجال الأعمال في عصره ،أما الزمان فيتعلق ببداية القرن العشرين. نموذج سويسرا : هنري دونانت(Dunant Henry ( الرجل الذي قادت رؤيته الى انشاء حركتي الصليب الأحمر و الهلال الأحمر في جميع أنحاء العالم ، انه رجل الأعمال السويسري ،من أثرياء جنيف ، أبا عن جد . ولد في جنيف عام 1928 و توفي عام 1910 ، أول فائز بجائزة نوبل للسلام في العالم سنة 1901، مؤلف كتاب " ذكريات سولفرينو" الذي كان له دور كبير في عقد أول مؤتمر دولي للسلام في العالم عام 1863،والذي انبثقت عنه أول معاهدة لتقنين قواعد الحرب سنة 1864. لقد صرف هنري دونان معظم ثروته في سبيل تحقيق حلمه المتمثل في انشاء قانون دولي يسهر على حماية الأطفال والمدنيين و الجرحى و المرضى من العسكريين في البر و البحر أثناء النزاعات الدولية و غير الدولية ، بغض النطر الى جانب من الجوانب المتحاربة ينتمون ، و ضمان حماية دولية للمتطوعين من أفراد و أعضاء المنظمتين الدوليتين الصليب الأحمر و الهلال الأحمر من أجل إغاثة المحتاجين الى الإنقاذ وسط الحرب .حقق هنري دونان حلمه الذي خلد اسمه بصفته صانع القانون الدولي الانساني. عاش وسط أسرة متدينة بروتستانتية وكان لها تأثير كبير في المجتمع ،كان أبوه يهتم بالعناية بالأيتام، في حين كانت أمه تهتم بعناية المرضى ،أما هو فقد انضم إلى منظمة جنيف لإعطاء الصدقات و عمره لم يتجاوز الثامنة عشرة. في السنة اللاحقة، قام هو وأصدقائه بتأسيس ما يسمى بجمعية ،يجتمعون فيها مع بعض ويدرسون الإنجيل ويساعدون الفقراء، ويقضون باقي وقتهم في زيارة السجناء والعمل الجماعي. في عام 1856، أنشأ شركة متخصصة في زراعة الذرة والتجارة وصناعة المطاحن.انتقل للاستثمار في الجزائر التي طلبت منه سلطاتها الحصول على ترخيص استثنائي ،فاضطر الى طلب لقاء الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث مباشرةً ، الذي كان مع جيشه في ايطاليا بمدينة سولفرينو، للقتال بجانب ايطاليا ضد النمسا . في 24 يونيو 1859 ، وصل دونان إلى سولفيرينو حيث كانت قد وقعت هناك معركة نتج عنها 23 ألف مصاب ومحتضر وقتيل. بادر دونان بنفسه بتنظيم السكان المدنيين، وخاصةً النساء والفتيات، لتقديم المساعدة إلى الجنود المصابين والمرضى. كان هناك افتقار الى الأدوية و مواد العلاج، فقام دونان بشرائها من ماله الخاص ، و ساهم في أقامة مستشفيات مؤقتة. وأقنع السكان بخدمة الجرحى من الجنود بغض النظر عن انتمائهم.لما واجهته مشكلة النقص في الموارد البشرية طلب من قائد الجيش الفرنسي إطلاق سراح الأطباء النمساويين الأسرى. في 1862 نشر دونان كتابه "تذكار سولفيرينو"على نفقته الخاصة، وصف فيه المعركة وتكاليفها والظروف الفوضوية بعدها. و دعا ، من خلاله ، رؤساء دول العالم ، الى التفكير في ايجاد منظمة محايدة لتوفير الرعاية للجنود الجرحى. واختتمه بسؤال: " أليس من الممكن في وقت السلم والسكينة إنشاء جمعيات للإغاثة بغرض توفير الرعاية للجرحى في زمن الحرب بواسطة متطوعين متحمسين ومخلصين ومؤهلين على نحو شامل؟ " هذا السؤال هو الذي أدى إلى تأسيس الصليب الأحمر. كذلك توجه " دونان " بطلب إلى السلطات العسكرية في مختلف البلدان عما إذا كان بإمكانها " صياغة مبدأ دولي تقره اتفاقية ويكون ذا طبيعة غير قابلة للانتهاك وبمجرد الاتفاق والتصديق عليه يمكن أن يكون أساسا لجمعيات إغاثة الجرحى في البلدان الأوربية المختلفة؟ " وكان هذا السؤال الثاني أساساً لاتفاقيات جنيف. أما منظمة الهلال الأحمر ، فيرجع فضل انشائها الى الامبراطورية العثمانية التي أصرت أن يكون للهلال موقع في العمل الانساني الدولي.. سافر دونان الى دول أوروبا للترويج لأفكاره ، فلقي كتابه استحسانًا كبيرًا. في 9 فبراير 1863انعقد اجتماع في مقر " جمعية جنيف للرعاية العامة " التي كان يترأسها آنذاك ، المحامي" غوستاف موانييه"Gustave Moynier، للنظر في الكتاب و اقتراحاته ، بحضور مجموعة من السياسيين والعسكريين والأطباء والمؤرخين.اتفقوا في الختام على تزكية توصيات دونان وانشاء لجنة مؤلفة من خمسة أشخاص لتعزيز متابعة إمكانية تنفيذها مكونة من هنري دونان ، و غوستاف موانييه، وجنرال الجيش السويسري هنري دوفور، و الطبيبان لويس أبيا وتيودور مونوار. في 17 فبراير 1863عقد اللجنة السابقة اجتماعها الأول الذي أعلنت فيه تأسيس لجنة الصليب الأحمر الدولية. في أكتوبر 1863، شاركت 14 دولة في اجتماع في جنيف نظمته اللجنة لمناقشة تحسين الرعاية للجنود الجرحى. كان دونان قائد البروتوكول خلال الاجتماع. في 22 أغسطس 1864، أدى مؤتمر دبلوماسي نظمه البرلمان لسويسري، إلى توقيع 12 دولة على اتفاقية جنيف الأولى ،و كانت هذه الاتفاقية نقطة بداية القانون الدولي الانساني كما نعرفه اليوم . لقد كان هنري دونان مسؤولًا عن تنظيم أماكن إقامة للحضور. هكذا كسب هنري دونان ثروته و هكذا صرفها. منذ ذلك الحين أصبح القانون الدولي الانساني مرتبطا بهنري دونان ، بصفته الأب الروحي و المؤسس الفعلي لقواعده و آلياته . نموذج المغرب: الباشا التهامي الكلاوي(1878 - 1956) ذكرت الصحافية الأمانية "ليزا فورمان" بأن المغرب اشتهر منذ عقود بأنَّه وطنٌ تسوده المُخدرات والدعارة، وهي الصورة التي ترى الصحافية والكاتبة الألمانية أنَّها نتاجٌ لتصرُّفات التهامي الكلاوي. ذكرت ليزا في تقريرها لموقع «ديلي بيست» الأمريكي أنَّ الكلاوي كان باشا مراكش بين عامي 1912 و1956، وأُشيع أنَّه أغنى رجلٍ في العالم آنذاك. إذ أدار شبكة دعارة ضخمة، لدرجة أنَّ عدد النساء في شبكته داخل مراكش وصل إلى 27 ألف امرأة، وكن يُشكِّلن نسبة 10% من سُكَّان المدينة. تعرَّفت ليزا إلى الكلاوي وقصره المهيب إبان تأليف رواية تدور أحداثها في المغرب. وقالت إنَّ مجلة «فانيتي فير» الأمريكية ذكرت في مقالها الصادر عام 2015 أنَّ " وصول تلك العائلة إلى السُلطة كان أشبه بالسماح للمافيا بإدارة لاس فيجاس". الباشا التهامي الكلاوي . جاء في إحصائيات موثوقة من سجلات الحجز على ممتلكات الباشا الكلاوي سنة 1958 ما يلي: "كان مجموع الملكيات القروية المسجلة في منطقة الحوز وحده يغطي مساحة تبلغ 11400 هكتار مَسقية و16000 هكتار ملكا لأسرته وكانت تملك 25000 هكتار مجموعا للأراضي التي لا تتوفر على رسوم أما في قصره فكانت أزيد من مائة خادمة وجارية تحت إمرته" بل وصل الأمر إلى درجة توسطه في مجال الدعارة والبغاء كما جاء على لسان المؤلف الفرنسي "كي دو لانوي" في كتابه "ليوطي، جوان، محمد الخامس، نهاية الحماية" أن التهامي الكلاوي كان أكبر "بارونات" الوساطة في الدعارة حيث كان يكلف أتباعه بمراقبة عدد كبير من دور الدعارة التي كانت تضم أزيد من ستة آلاف عاهرة، اللواتي كن ملزمات على دفع ما يناهز مائة فرنك فرنسي كل يوم مقابل الترخيص لهن بمزاولة ذلك حيث امتدت شبكة تلك الدور أو ما كان يطلق عليه "البورديلات" إلى شمال المغرب وإسبانيا وذلك ما لقوه من تشجيع من الباشا مقابل المال. كيف كسب الباشا ثروته ؟ و كيف صرفها ؟ هل كان للباشا الكلاوي حلم أنساني عمل على تحقيقه ؟ ارتبطت شهرة الكلاوي وثروته بعلاقته مع الجنرال ليوطي، و ونستون تشرشل ،و الجنرال ديكول ، الأمر الذ سمح له بجمع ثروة هائلة ، حسب المؤرخ المغربي، المعطي منجب ، مشيرا إلى أن الباشا "كان يمتلك آلاف الهكتارات و أموالا كثيرة كان يودعها في البنوك في المغرب وفرنسا"، كما كان أيضًا أحد المساهمين في العديد من الشركات، مما جعله "أكثر ثراءً من السلطان". في 1981 كتب عالم الاجتماع الفرنسي المغربي المزداد بالمغرب لأبوين فرنسيين ،الدكتور " بول باسكون" (حاصل على الدكتوراه في التاريخ عام 1977 في أطروحة " حوز مراكش: التاريخ الاجتماعي و الهياكل الزراعية")، مقالا بالعدد الخامس و السادس للمجلة المغربية و الاقتصاد و الاجتماع الصادرة عن جمعية الدراسات الاقتصادية و الاجتماعية و الاحصائية ، تحت اشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي ، حول القايد الكلاوي والنظام القايدي، يتحدث عن ثروته العينية والعقارية، وكذا مجمل تجليات سلطته اللامحدودة التي ضمنت له السيطرة على منابع الماء والكلأ والأراضي الخصبة ، كما كان يملك أسهما في منجم الكوبالت و السيانور "بوعزير" ، و أسهما في منجم المنغنيز"ايميني" ، و ثلاث معصرات للزيت حديثة و أربعة معامل للحلفاء النباتية. أغلب اراضي كسبها بالضم الى أملاكه بعد طرد أهلها منه بالقوة ، كما فعل مع أهل "مسفيوة" الذين استولى على مئات الهكاترات من أراضيهم السقوية، بالاضافة الى ضمه لأراضي الملك الخاص للدولة و سجلها في اسمه بعد ابتزازه للمخزن الذي اضطر راضخا لتفادي شره ، خصوصا بعدما ثبتت حمايته من طرف الفرنسيين و الانجليز. كيف صرف الكلاوي ثروته؟ كان التهامي الكلاوي رجلا سلطويا يعشق الفن و حياة الرفاهية، فخلال توليه منصب باشا مدينة مراكش، كان يعيش حياة البذخ والرفاهية، إذ كان يقيم حفلات ويتجول في أوروبا لمقابلة أصدقائه ومعارفه الأثرياء. في 8 أبريل 1953 وجه ونستون تشرتشل رسالة للباشا التهامي الڭلاوي، يدعوه فيها إلى حضور حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية، يوم 2 يونيو 1953. وجاء ضمن الرسالة التي وجهها الوزير الأول البريطاني، الذي كانت تربطه بالباشا الڭلاوي علاقة متينة،ذكر اللقاءَات التي جمعتهما، سواء بمراكش أو لندن،و ختم رسالة بالجملة التالية:"سأكون مسرورا بأن تكونوا ضيفي الخاص ، فأنا مشتاق لرؤيتكم متى حللتم بهذا البلد ". ويعود أول لقاء للباشا الڭلاوي بونستون تشرتشل إلى 1937 بالجنوب المغربي، لكن علاقة الرجلين توطدت بعد تعاقب تشرتشل على زيارة مراكش وإقامته بفندق المامونية. كان الڭلاوي يبالغ في إكرامه كما هي عادته في استمالة الأوروبيين عبر إغراقهم بالهدايا ودعوتهم لموائد باذخة. أثناء سفره الى حفل التتويج حمل معه هدية فاخرة للملكة إليزابيث عبارة عن قلنسوة من الذهب ومرصعة باثنتي عشرة زمردة بحجم بيض الحمام وبالألماس ،و هدية ثمينة للأمير فيليب أيضا،عبارة عن خنجر مغربي غمده من الذهب الخالص ومرصع بالأحجار الكريمة. لكن الملكة إلزابيث رفضت أن تقبل هداياه الفاخرة، وقد كلفت الوزير الأول البريطاني ليبرر ذلك في رسالة مؤرخة في 14 يونيو 1953 ، مخبرا إياه بأن هناك "قاعدة صارمة" تتبعها الملكة بخصوص قبول الهدايا، فهي تقبلها فقط من رؤساء وملوك الدول. لقد أنفق الباشا التهامي الكلاوي معظم ثروته في اقتناء بعض التحف النادرة كساعة"كارتييه " الذهبية المقاومة للماء و التي صنعت منها واحدة في العالم ،و شراء أنواع مختلفة من السيارات ، و تنظيم حفلات على شرف أجانب خصوصا من الجيش الفرنسي ، تفوق في بذخها حفلات ألف ليلة و ليلة . كان يقدم لضيوفه الأجانب في ختام كل حفلة أغلى الهدايا و أثمنها ، من مجوهرات ذهب و ألماس و زمرد. خاتمة: اذا اتضح لنا كيف تعامل أثرياؤنا و أثرياهم مع الثروة ، كسبا و إنفاقا ، ازداد فهمنا للخلاف الشاسع بيننا و بينهم فيما ألت اليه أوضاعنا السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية من انحطاط و تدني ، و ما حققته أجيالهم من ازدهار و رقي و تقدم على جميع الأصعدة. باحث في القانون الدولي لحقوق االنسان*