يحكى أنه في زمن ماضٍ، كانت ثمّة مدينةٌ ترابط بشمال المغرب تسمى "النُّور"، تحضنها الجبال وتحيطها المياه الزرقاء من كل جانب، تتّصف بسحر شطآنها الآسرة للألباب وطقسها المعتدل الرائق للأمزجة، وكان الزوّار يأتونها من كل حدبٍ وصوب من داخل وخارج حدود البلاد؛ يعشقون هدوءها وجمالها الآخاذ مثلما يستمتعون بما حباها الله من خيرات ومؤهلات زاخرة لم يمسس عذريتها البكر بعدُ، لا إنسٌ ولا جان.. وكان دائما ما يرأس عمودية حاضرة "النّور" ساسَة، وإنْ كانوا يمارسون النّزر القليل من الفساد فإن أغلبهم كانوا في عِداد النزهاء حتى ولو كان فيهم أميّا ومن كان جاهلا، ومنهم من هو خريج جامعات أوْرَبة، وكل نفرٍ ومزياه وعيوبه ومحاسنه ومساوِئُه، في حين كان أهل "النور" ورغم امتعاضهم أحيانا من رؤسائهم فإنهم يعفون ويصفحون بمجرد مسارعة هؤلاء إلى استدراك الهفوات وتصويب الأخطاء وتقويم الاعوجاجات وردّ الأمور إلى النصاب وإرجاع القاطرة إلى السكّة.. ولكن، بعدما توالت الأيام وولّى الزمن، وتطلع خلاله الأهالي نحو التغيير ونفض الغبار عن وجه المدينة الشّاحب حتى يشعّ نورها مجددا ويرجع بريقها الآفِل، مثلما كانت عليه سلفاً، ظهر بين ظهرانيها على حين غرّة "مهديٌّ منتظر"، إدعى أنه وقّع على ميثاق شرفٍ بالعشرة أصابع، وأقسم على أغلظ الأيمان أنه يحمل بين أضلعه غيرة حارقة على المدينة، وذرف الدموع أمامهم ووعدهم بتكسير الطاولات في المجالس، وثق به الناس ورفعوه على الكواهِل عاليا، جاعلين منه بطلاً قومياً، وفارسا من الفرسان المفقودين في زمنٍ خالٍ من زُبدة الرجال، لذلك فرشوا له البساط الأحمر محاطاً بالورود والزهور، لكي يعبر إلى كرسي القصر البلدي رئيساً محمولا على الأكتاف وسط الهتاف والزغاريد فرحاً بظهورِ قائدٍ مغوار لا يشقّ له غبار.. ولم تكن أهالي الحاضرة التي خفتَ نورها فأمست مدينة "الظلام" بدل "النّور"، تدرك أن بطلها الذي سَعتْ إلى إدخاله التاريخ من بابه المشرّع على مصرعيْه، سيختار دخول التاريخ أيْ نعم، لكن للاصطفاف إلى جانب الملاعين والساخطين عليهم في مزبلة التاريخ، بحيث لم تكن مدركة تماماً بأن بطلها محاطا بأربعين سمسارا، نفخوا في رأسه أنفاسهم الخبيثة فجعل المدينة وأهلها نسيا منسيا، مما عاثوا في الأرض فسادا، وأصبحوا هم النبلاء الذين ترجع إليهم مقاليد الحكم في مجتمعٍ أرادوه مجتمع الإقطاع.. وأمسك السماسرة بزمام عمُودية حاضرة "اللاّنور"، وتقرّبوا من أصحاب المال والجاه من ذوي النيّات الانتهازية والمصالح الفئوية الضيّقة، ضاربين بالسيوف على رقاب العباد، بل تمادوا في غيّهم وفرضوا الإتاوات والجبايات والمُكوس على الأهالي، بحيث كان كل قاصدٍ لديوان الرئيس يجد في طريقه 40 سمسارا كعقبة تمنعه من بلوغ العتبة، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل لم يتورع هؤلاء عن انتهاج خططٍ جديدة استهدفت إجبار كل عازمٍ على البناء والإعمار اقتناء الآجور من عند شركة فلان، والإسمنت من عند شركة علاّن، والحديد من عند عِلْتانْ؛ ولكم أن تتصورا نسبة الأرباح التي تضخّها صفقات السمسرة بالملايير في خزائن الشركات.. والأكثر من ذلك، فرض سماسرة القائد المغوار، مبلغا جُزافيا يُؤدىه كلّ طالب رخصةٍ من الرخص على آخر ملِّيمٍ، بنسبةٍ تفوق خمسة بالمئة من مجموع الوجيبة المالية المفروضة مِسطرياً؛ فحينها تكشّفت للأهالي أن هذه الطُّغمة من السماسرة لم يكن همّها سوى مراكمة الثروة وتحصيل المال مما تنتجه البقرة الحلوب، غير مكترثةٍ لحال مسكينٍ ولا مُعدَم ولا ميسورٍ ولا مُوسر، والحال أنّ كل نفرٍ بالنسبة إليهم بمثابة سمسرة جديدة يلهثون وراءها لتسمين رصيدهم البنكي المُنتفخِ أصلا حدّ التخمة.. وهكذا طال صبرُ النّاس التي رسمتْ في مخيلتها لمُسيّر حاضرتها بطلا قومياً سينتفض يوماً لا محالة في وجه السماسرة والمفسدين، ولكن بما أن حبل الكذب قصير كما يقال، فقد نفذ الصبر الذي بلغ حدّاً لا يطاق، وخرج المظلومون الذي وصلت لديهم الطعنة حدّ العظم حشوداً إلى العلن مرددين "اللّهم إن هذا منكر"، فدَوَت الفضيحة بجلاجل على مرأى ومسمع الرئيس غير مصدقٍ لما يجري بين يديه وخلفه وتحته وفوقه.. ووجد الرئيس أخيرا نفسه وسط زوبعة غضب عاصفة به، رغم محاولات شبِّيحته إخماد الحرائق المهولة التي اقتربت من النشوب في تلابيبه، ورغم ترصد بلاطحته الذين لم يدخروا جهدا إلا وبذلوه لتشويه سمعة كلّ من سوّلت له نفسه انتقاد وليّ نعمتهم ولو كان انتقادا وجيهاً وبناءً لما فيه صالح الحجر والشجر حتّى، بحيث شحذوا ألسنتهم جيداً لإصابة المنتقد في مقتل بعد أن خرجوا من جحورهم بوجوه مكشوفة محفورة بالبشاعة لأكل الثوم بأفواههم بالنيابة عن من يدفع.. وككل الحكايات التي تنتهي عادةً بنهايات مأساوية، جاءت سنة أسماها أهل الحاضرة ب"عام الأزبال"، فجعلت كلّ ساكتٍ يخرج عن صمته وطوعه ثائراً في وجه الرئيس البطل، فانحدرت سمعته إلى الدرك الأسفل من الحضيض، حتى أصبح الجميع يجزم بأن مدينة "النور" تعرف لأول مرة في تاريخها انتكاسة غير مسبوقة لا منقذ لها ألبتّة، فصار ما حدث حديث كل العباد والبلاد، وبعدما فاحت الرائحة وتقرّر للرئيس التنحيّة قبل إخضاعه للمساءلة، سارع الأربعون حراميا إلى الفرار وتغيير جلودهم كالحرباء تكيُّفاً مع الوضع المفاجئ، تاركينه بمفرده يندب حظه العاثر كأيّ مُذنبٍ يهودي يجلد ذاته جلداً عند حائط مبكاه.. تلك بالضبط قصة رئيسٍ لم يُلقِ السّمع وهو شهيد.. فأيُّ تشابهٍ في أحداث وشخصيات القصة مع الواقع المُعاش، هي مجرد صدفة محضة، لا أتحمل مسؤوليتها.