كتب بعضهم معلقا على مقال لي بعنوان: قراءة في وصية أبي الوليد الباجي " قائلا: إن عصر العقيدة الأشعرية قد انتهى ... وأنني أبتغي من وراء دفاعي عن العقيدة الأشعرية الربح المادي فقط، والحظوة عند الدولة ووزارة الأوقاف والظهور في قناة السادسة ... وقد وقع صاحب هذه التهم الباطلة تعليقه بعبارة: ناصح أمين. غير أنني لم أعبأ بمثل هذه المواقف خصوصا في هذا الزمن الذي تقترب فيه الساعة أكثر من أي وقت مضى، قياسا إلى الماضي المشرق لأمتنا، إنني ألتمس العذر كل العذر لصاحب هذا التعليق، كما ألتمس العذر لكثير من المنتسبين للعلم ممن يرددون كلاما ينم عن عدم العلم بواقع المذهب الأشعري، والدور الفعال الذي قام به أئمته لعدة قرون، إنني ألتمس العذر لهؤلاء وأولئك، لأنهم جميعا وقعوا تحت تأثير قوي، ليس لخصوم التراث الأشعري فحسب، بل لخصوم التراث العلمي الغني لأمتنا. إنني حين أدافع عن العقيدة الأشعرية، في الملتقيات والمنتديات العلمية، فإنما أبتغي تنوير الجمهور بفضل هذه المدرسة السنية الجماعية على المسلمين، مع الدعوة إلى التنوع والاختلاف المحمود، الذي ازدهرت في أحضانه فروع الثقافة الإسلامية كلها ... وأود أن أقول لهذا الناصح الأمين، ومن خلاله أقول لجميع المهتمين والباحثين في التراث الإسلامي، أنني حين أدافع عن العقيدة الأشعرية فإنما أدافع عن الإسلام في صفاء عقيدته، ووسطية تشريعاته وسعة أفقه ... هذه المبادئ السامية التي جسدها أعلام المدرسة الأشعرية في المشرق والمغرب، قديما وحديثا، هي التي تدفعني دائما للدفاع عن هذه المدرسة السنية الجماعية التي تواجه اليوم ظلما شديدا من لدن شيوخ السفلية بمختلف اتجاهاتهم ومشاربهم، وطلبة العلم المتأثرين بهؤلاء الشيوخ. إنني حين أدافع عن المدرسة الأشعرية فإنما أدافع عن التسامح الديني والتعدد الثقافي والعلمي في إطار إقرار مبادئ وقيم المدرسة الأشعرية التي يؤمن أئمتها بالاختلاف المنهجي، وفي الوقت ذاته لا أدعو إلى بث روح الكراهية والبغضاء بين المسلمين، أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. يزعم هذا الناصح الأمين، أنني من خلال دفاعي عن العقيدة الأشعرية فإنما أبتغي الربح المادي ... وهذه التهمة الباطلة أترك حسابها عند الله عز وجل الذي يعلم السر وأخفى ... ولكنني أود أن أجهر بحقيقة ربما تغيب عن هذا الناصح الأمين، وعن كثير من المهتمين وطلبة العلم، وهي أنني باحث أكاديمي ليس إلا، اخترت بمحض إرادتي التخصص في العقيدة والفكر الإسلامي، باعتبارهما من التخصصات النادرة في جامعاتنا المغربية. وكنت قبلُ متشبعا بمقالات المدرسة الأشعرية، عارفا بفضائلها، درست هذه العقيدة في بداية الطلب على يد شيوخ أجلاء من بقية خريجي جامع القرويين العامر، ولم نكن يومها نعرف غير هذه العقيدة السنية، ومن باب الرغبة في التوسع في البحث العلمي اخترت التخصص في العقيدة وتاريخ الأديان، ثم اخترت تخصصا دقيقا وهو العقيدة، فدرسنا بحمد الله هذه العقائد الإسلامية دراسة علمية موضوعية، كما وقفنا عند مقالات الأشاعرة والماتريدية والسلفية فوجدناها كلها تتفق على الحق، ولكن المتأخرين من أعلام هذه المدارس سلكوا طرقا غير علمية في تقرير مقالاتها، بل عمل كثير منهم على تهويل بعض الخلافات المنهجية التي يمكن تجاوزها بقليل من العلم والحلم. إنني حينما أدافع عن المدرسة الأشعرية فإنما أدافع عن التاريخ العلمي والمجيد للأمة الإسلامية، في مشارق الأرض ومغاربها، هذا التاريخ الحافل الذي أسهم فيه أعلام المدرسة الأشعرية بحظ وافر، وهم الذين يمثلون جمهور العلماء من مختلف التخصصات ومن مختلف المذاهب الفقهية السنية. إني كخبير بالمدرسة الأشعرية وبمقالات هذه المدرسة السنية الجماعية، بل وبمقالات المدارس السنية (أهل الحديث، الأشعرية، الماتريدية، السلفية) لاحظت أن هناك عددا كبيرا من المنتسبين للعلم في زماننا هذا، بل ومن الذين يصنفون اليوم كشيوخ ويؤثرون في الواقع، ممن يجهل حقيقة المذهب الأشعري والأسس العلمية التي قام عليها، بل حتى بعض المنتسبين للأشعرية نفسها يجهلون حقيقة هذا المذهب العظيم، أقول المذهب الأشعري والعقيدة الأشعرية تجاوزا، لأن هناك عقيدة واحدة لا ينبغي أن نختلف حولها، لأن مصدرها هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وهناك منهج أو مذهب أشعري في تقرير هذه العقيدة، وفرق واضح بين العقيدة والمنهج. إنني -أيها الناصح الأمين- حين أقف في وجه خصوم العقيدة الإسلامية السنية عموما، وأدافع عن الصحابة الكرام، وعن أمهات المؤمنين، وعن الإيمان بجميع أركانه وفروعه، فإنما أبتغي وجه الله عز وجل، كمسلم أولا، وكباحث أكاديمي ثانيا، ولست أيها الناصح الأمين من العوام الذين يكتفون بما قاله فلان أو فلان تقليدا، هذا التقليد الذي ليس له مزية إلا كثرة العدد، كما يقول أبو منصور الماتريدي ... عقيدتي التي أومن بها –أيها الناصح الأمين -هي عقيدة السلف الصالح من الصحابة الكرام، والتابعين وأتباعهم ... عقيدتي هي التي يؤمن بها الإمام الأشعري، والإمام مالك، والإمام أحمد، والإمام أبو حنيفة ... وجميع الأئمة المعتبرين... وددت لو كنت واحدا من طلبتي لأعلمك أصول الاعتقاد الصحيح، وأقف معك عند مقالات الأشاعرة الدقيقة والجليلة، لتعلم كم كانت هذه المدرسة وفية لروح الشرع الحكيم، وكم كان أعلامها عظماء، وكم أنت جاهل بتاريخ هذه المدرسة، بل وبتاريخ الإسلام. أحب أن أورد لك نصا للشيخ محمد عبده يقول فيه: " لم يسمع في تاريخ المسلمين بقتال وقع بين السلفيين والأشاعرة، مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة والمعتزلة، مع شدة الاختلاف بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة. (1) أنقل هذا النص لعالم أشعري معاصر، لأنه قد يوجد من يدعي الانتساب للمدرسة الأشعرية ويقرر عقائدها على نحو غير صحيح، أو يوظف مقالاتها لإرهاب الناس، كما قد يوجد عدد كبير في المدرسة السلفية من يفعل هذا ... لكن هذا لا يلزمني كمسلم شعري سني وسطي. لا شك أن المدرسة الأشعرية تعاني اليوم من ظلم كبير، من لدن كثير من المنتسبين للعلم، وإنني حين أدافع عن هذه المدرسة السنية الجماعية فإنما أدافع عن العدل كمبدأ إسلامي سامي، وفي جميع الحالات فإنني أجتهد في رد شبه المبتدعة المنحرفين، عن عقائد السلف الصالح، كما فعل الإمام ابن عساكر الدمشقي في كتابه " تبيين كذب المفتري فيما نَسَبَ إلى الإمام أبي الأشعري". وأخيرا أقول لك: أيها الناصح الأمين: مثل ما قال الإمام ابن عساكر الدمشقي وهو بصدد تأليف كتاب يرد فيه على جملة من الافتراءات على الإمام الأشعري الذي تزعم أنه عصره قد انتهى، يقول ابن عساكر الدمشقي: "اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنشر العلم خلق ذميم."(2) الهوامش: (1) الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية الصفحة 12. (2) تبيين كذب المفتري، فيما نَسَبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، لابن عساكر الدمشقي، الصفحة 29 طبعة دار الكتب العلمية، بيروت 1979.