بعد عام على اعتقالات الريف، نشرت مجلة "تيل كيل" عربي، ملفا كاملا نقلت فيه أقوال أسر و شهادات اختلطت بدموع الأسى ونبرات الغضب وأنين المعاناة من واقع يعيشه المئات من أهل منطقة الريف، وتروي كيف أن الحرمان من الحرية لم يكن وحده المقابل الذي دفعه نشطاء الريف وأسرهم. قطع الأرزاق لم تقوى هدى السكاكسي على مقاومة دموعها، وهي تروى معانتها مع اعتقال معيل الأسرة الوحيد، زوجها، أحد المعتقلين المتابعين في ملف حراك الريف، والذي نقل للمحاكمة بالدارالبيضاء رفقة مجموعة ناصر الزفزافي وباقي قيادات الحراك. هدى لخصت ما تعيشه رفقة أطفالها بالقول، إن "حياتهم تحولت لمأساة"، وتابعت: "لم أعد أقوى على تحمل مصاريف الكراء والماء والكهرباء ودراسة الأطفال، ومن هبوا لمساعدتي من بينهم أختي التي تقيم في فرنسا، تعبوا، أختي (غادي طرطق ليها الراس) بالحاجيات التي أطلبها منها شهريا، وأتفهم وضعها، لأنه لا أحد يستطيع حمل هذا الهم كل هذه الفترة". هدى، يجب أن توفر كل 15 يوماً 1500 درهم لوضعها في "حساب" زوجها داخل سجن عكاشة، قصد تلبية حاجاته، ومن بينها 330 درهما للسجائر فقط، أي أنها يجب أن توفر مبلغ 3000 درهم في الشهر، دون احتساب مصاريف سفرها للقائه في السجن. هذا المبلغ، لا تستطيع زوجة سائق الحافلة المعتقل توفيره دائماً، "أحياناً أعجز عن جمع المبلغ، وأحمل له معي 400 أو 500 درهم فقط، وفي مناسبات أخرى أحرم أبنائي من قوت يومهم كي لا يشعر زوجي بمعاناة مضاعفة حين لا يجد ما يواجه به ظروف اعتقاله". تقول هدى وهي تذرف الدموع، وتصرخ "لماذا كل هذا؟ هل لأننا طالبنا بالحياة الكريمة فقط؟" توقفت هدى قليلاً، واستجمعت قواها لتتمكن من البوح بتفاصيل ما تعيشه يومياً. كان الحديث معها قبيل وقت الإفطار بنصف ساعة تقريباً، وهنا قالت بصوت جد منخفض "ما نخبيش عليكم، نعيش منذ دخول شهر رمضان على ما هو متوفر من طعام، ولم أعد قادرة على البحث عن المزيد، أمنح أطفالي الثلاثة حصصي من الأكل، وأكتفي أنا بالماء والتمر وكأس الشاي". وقالت هدى إن حالها يشبه حال عدد من زوجات المعتقلين، لأن قليلات منهن كنا يعملن قبل أن يتم اعتقال أزواجهن، ومن حاولن البحث عن عمل، حسب هدى، فشلن،لأنهن ملزمات برعاية أطفالهن والتنقل كل 15 يوماً إلى الدارالبيضاء أو سجون بعيدة عن المنطقة، للقاء المعتقلين ونقل ما يحتاجونها داخل السجون. وعن وجود مبادرات لدعم عائلات المعتقلين اجتماعيا ومادياً، نفت هدى أن تكن الأسر قد توصلت بأي مساعدات من أي جهة، وشددت على أن أفراد عائلاتهم وبعض الأصدقاء هم الذين تكفلوا خلال الأشهر الأولى بمدهم بمساعدات، لكن عدد منهم تعبوا وانصرفوا إلى هموهم الخاصة. تقول هدى، إنها تتابع أوضاع أطفالها الثالثة بحزن عميق، وأصبحت تخاف على مستقبلهم، لأنها لن تستطيع توفير مصاريف دراستهم، فزوجها كان سائق حافلة فقط، ودخل السجن وهو مثقل بالديون، ولم يكن يتوفر على أي ادخار أو تغطية اجتماعية يمكن اللجوء إليها، ونقلت المتحدثة ذاتها، أنها لاحظت خلال هذا العام تراجع المستوى الدراسي لابنتها البكر، هذه الأخيرة تروي أمها، تنتظر يومياً عودت والدها، وتسألها يومياً عن حالهم وهل سوف يتغير يوماً ما. "قبل يومين من الحديث معكم، كانت ابنتي تجلس وتشاهد التلفاز، فجأة صرخت بابا بابا، اعتقدت أن أباها عاد إلى المنزل، منين مشيت عندها نجري، وجدتها متسمرة أمام التلفاز، وقالت لي ماما هد البنت جا عندها باباها علاش ما يجيش عندنا حتى حنا. صمت وقاومت الدموع وأخبرتها، قريب قريب أبنتي إنشاء الله". هدى السكاكي تساءلت عن المنطق الذي يبرر محاكمة معتقلي الريف وسجنهم في الدارالبيضاء عوض الحسيمة، كانت الكلفة الاقتصادية والاجتماعية ستكون أقل بحسبها، وحالها يشبه حال عدد من زوجات وأمهات وأباء وأطفال المعتقلين، الذين أصبح همهم الأول رغم ما يعيشونه من معاناة يومية، حرية ذويهم، وهم يرددون "الله يفك سراحهم". كلفة مالية وصحية "لم يعد بالإمكان الاستمرار على هذا الحال، قاومنا طيلة عام لنضمن زيارة نبيل كل أسبوع، وقبل أيام قررنا أن تكون الزيارة كل 15 يوماً، وبسبب ما تابعناه من أحكام صدرت بحق نشطاء الريف في محكمة الحسيمة، نتوقع أسوء السيناريوهات بخصوص الأحكام التي سوف تصدر في حق المعقلين المتابعين في الدارالبيضاء، ونفكر في جعل الزيارة مرة كل شهر فقط، لأننا لم نعد نقوى على تحمل مصاريفها". كانت هذه شهادة محمد أحمجيق، شقيق نبيل أحمجيق الملقب ب"دينامو" حراك الريف وأحد قادته. محمد أحمجيق يرى أن اعتقال شقيقه كانت له كلفة اقتصادية واجتماعية وصحية. والدته تعاني من مرض القلب الذي أصابها بعد اعتقال ابنها، وأصبحت منذ مدة ملزمة بإجراء فحوصات طبية على رأس كل ثلاثة أشهر وشراء أدوية باهظة الثمن، وهي التي تعاني من مرض السكري وضغط الدم. "آخر مرة التقيكم بالحسيمة، غادرت إلى البيت، وخلال ساعة الإفطار أحست الوالدة بألم، لم تشأ أن تخبرنا بما تحس وقالت إنه مغص في المعدة فقط. سلمت علينا ثم غادرت لأداء صلاة المغرب، وبعدها أوت إلى فراشها وهي تتألم، وعندما اكتشفنا الأمر رفضت أن ننقلها إلى المستشفى واكتفت بأخذ دوائها". يروي محمد أحمجيق وهو يعتصر ألما ويحاول أن يظهر مقاومته لواقع أسرته بعد اعتقال شقيقه. محمد يُقسم معاناتهم مع توفير حاجات نبيل داخل السجن إلى مرحلتين: الأولى حين كان يجب عليهم نقل القفة إليه، وكانت تكلف كل أسبوع حسب شهادته ما بين 500 و800 درهم في الأسبوع ، أما المرحلة الثانية فهي ما بعد قرار مندوبية السجون إلغاء القفة، ما مكنهم من توفير 1000 درهم فقط من مصاريف الزيارة التي تحولت من أسبوعية إلى نصف شهرية. بدوره، نفى محمد أحمجيق وجود أي مساعدات أو دعم لأسر المعتقلين من أي جهة، وقال بهذا الصدد: "خلال الأشهر الثلاثة الأولى بعد الاعتقال ما يمكنش نساو خير مجموعة من الناس، ولكن الله يكون في العون. هذا راه مسار طويل وشاق لا يمكن لأي أحد تحمله، واليوم ما توفره الأسر للمعتقلين تنتزعه من قوت يومها أو من مساهمة أفراد من العائلة، نحن مثلاً نعتمد على تقاعد هزيل تركه لنا الوالد ومساهمة شقيقتي التي حصلت على عمل مؤخراً في قطاع التعليم، وغالبا هي التي توفر لنا مصاريف توفير ما يحتاجه نبيل داخل السجن". ويرى محمد أن مبادرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بتوفير حافلة لنقل أسر المعتقلين إلى الدارالبيضاء أسبوعياً خلال الفترة الأولى بعد الاعتقال، وكل 15 يوماً منذ أشهر، خففت من أعباء تنقلهم، لكن مصاريف الزيارة لا تتوقف على النقل فقط، خاصة أن عدداً من أفراد أسر المعتقلين لم يعودوا يقوون على السفر والعودة إلى الحسيمة في نفس اليوم. شقيقان خلف القضبان "عمي الحسين"، بهذه الصفة يناديه أفراد أسر المعتقلين كباراً وصغاراً، ملامح وجهه تخبرك أن سنه تجاوز ال70، والحال أنه من مواليد 1963 أي أن عمره لم يتجاوز ال56. "عمي الحسين" علق على هذا الأمر بمزاح تغلب عليه الحسرة. نزع عنه طاقية رأسه، واتجه نحونا ونحن نجلس في فضاء فسيح قرب منزله، وأخبرنا "شحال تعطيني من عام؟".. "كثر من سبعين عام".. "أنا زايد غير في 1963، الشيب غزا شعري ولحيتي وأصبح الوجه هكذا حزناً على اعتقال إبراهيم وعثمان، وهما لا ذنب لهما بل بشهادة الجميع عثمان لم يسبق له أن شارك في أي احتجاجات، وذنبه أن ناصر الزفزافي اتصل به وأخبره أنه ترك له الأمانة عند صاحب محل لإصلاح وبيع الهواتف النقالة، ولم تكن الأمانة سوى ديون في ذمة ناصر لصالح عثمان، تكفل سائق سيارة أجرة بنقلها له!" "عمي الحسين"، يعمل في بيع زيت الزيتون، يعيل اليوم 13 فرداً، بعدما تم اعتقال عثمان وابراهيم اللذين كانا يساعدانه على مواجهة مصاريف الحياة وتكاليفها. داخل منزل متواضع لاتزال آثار فترة الحراك وما أعقبه من اعتقالات بادية على أبوابه المهشمة، تمرح ريتاج ابنة ابراهيم الذي اعتقل بعد 3 أشهر فقط من ولادتها، تقفز هنا وهناك، في هذه اللحظة، يقول جدها "عمي الحسين": "لم يعد يقوى ابراهيم على تحمل نفورها منه عندما تحملها أمها إليه داخل السجن، أخبر القاضي بذلك، وقال له إنه يعاني حين ترفض طفلته المكوث بين أحضانه لثواني بسبب خوفها من شخص غريب عنها". ابراهيم فقد عمله داخل أحد المراكز التجارية الكبرى مباشرة بعد اعتقاله، وترك خلفه ديناً عليه لقاء عملية ولادة ابنته، أما عثمان فضاعت تجارته وأفسد الاعتقال عليه فرحة إعلان خطوبته وتحضيره للزواج. كان سيزف هذا الصيف، لكن الأحداث جرت عكس ما رسمه لمستقبله. يقول "عمي الحسين" إنه ملزم بتوفير 2000 درهم كل أسبوع لتغطية مصاريف تنقله إلى الدارالبيضاء وتوفير حاجات ابنيه، أي أنه يكابد لتوفير أكثر من 6000 درهم في الشهر، بالإضافة إلى إنفاق المزيد من المال على زوجته التي أصيبت بمرض في الغدة الدرقية سببه، حسب الأطباء، الفزع الذي شعرت به خلال لحظة اقتحام منزله. وختم الرجل الذي أصبح كهلاً حزنا على اعتقال ابنيه، شهادته بالقول، إن "ظروف العيش في الحسيمة أصبحت مستحيلة، خاصة وأنه يتابع أطفاله وأحفاده وهم يكبرون يومياً وسط أجواء من التوتر والخوف". "أصبحت شبهة!" بعد سبعة أشهر قضى فترة منها خلف أسوار السجن المحلي بالحسيمة وفترة أخرى في سجن تاوريرت، عانق خالد، قريب ناصر الزفزافي ومحمد الحاكي، الحرية، لكن الحياة خاصمته. لم يعد الحال كما كان عليه قبل اعتقاله، فقد تحولت حياته إلى جحيم بسبب الخوف والريبة اللذان يرتسمان على محيا من يعاملونه. "شبهة" يجب الابتعاد عنها وعدم التعامل معها. خالد كان من بين الدفعة الأولى للمعتقلين أو ما يعرف بمجموعة ال26، كانت المرة الأولى في حياته التي يلج فيها مخفر الشرطة باستثناء اليوم الذي كان يحضر فيه طلب بطاقة تعريفه الوطنية. يقول خالد الشاب الذي خرج ليلة اعتقاله لشراء الخبز ولم يعد، إن "عمله في النجارة وامتلاكه لورشة يفرض عليه نسج علاقات جيدة من الزبناء بالنظر إلى قلة الطلب حيث قدر له أن يولد ويعيش، هذه العلاقة نسفها اعتقاله، إذ لم يعد الناس يرغبون في التعامل معه، بل يخافون حتى من الاتصال به عبر الهاتف، وعدد من الذين كنت أعد لهم طلبياتهم، استغلوا الوضع ولم يسددوا لي الديون التي يدينون لي بها". ويتحدث خالد عن هذا الواقع بسخرية وهو يقول: "كين لي يصحاب ليه راه غادي يتعتاقل إلا تعامل معك، يعني عندو وهم أنه غادي يقولوا ليه أنت تمول أحد نشطاء حراك الريف ومعتقليه. تراجعت المداخيل ولم أعد أتوفر على زبناء وأعيش اليوم على من يقاومون الواقع الذي أريد لنا أن نعيشه انتقاماً منا ومن مطالبتنا بتحسين ظروف عيش المغاربة، نحن لم نخرج لأجل منطقة الريف فقط عكس ما يسوقه البعض، نحن خرجنا لأجل مطالب يتقاسمها جميع المغاربة، وهناك منهم من يحتج لانتزاعها". هذه الشهادات جزء يسير من واقع يتقاسمه المئات ولا يعلم بتفاصيله إلى من يتجرعون مرارته يومياً، حاولوا قبل مدة تأسيس جمعية تُسمع صوتهم، لكن السلطات رفضت الترخيص لها، ليظل تغيير حالهم معلقاً على انفراج في الملف قد تسمح به الدولة وقد تؤجله إلى أجل غير مسمى.