فرضت الطبيعة الصعبة عزلة على الريف، ولم يزدها الإستعمار الإسباني إلى قسوة. واستمرت تلك العزلة حتى بعد الإستقلال ما يزال أهل الشمال يشيرون إلى المناطق الجنوبية للبلاد ك "داخلية"، وكأنهم يضعون أنفسهم خارج هذا المغرب الذي كانوا دائما ثغره وجبهته الأمامية في وجه الخطر المسيحي الأتي من الشمال. وهذا التمييز بين "داخل" المغرب و"خارجه" ليس كما يظن الكثير من الناس وليد و"مغرب إسباني"، فاستعمل "الداخلية" أقدم من ذلك بكثير، وحتى قبل الاحتلال الإسباني للمنطقة الشمالية نجد إشارات في المراسلات المخزنية إلى "داخل الإيالة الشريفة"، مما يدل على أن التمييز هو أقدم استعمار القرن العشرين. الجغرافية قبل التاريخ وضعية الريف المتميزة، كما نعرفها اليوم، هي نتاج للتاريخ، ولكن التاريخ وحده لا يستطيع شيئا إذا وقفت الجغرافية عنيدة في وجهه. وهذا هو حال الريف الذي يمتد من طنجة إلى الحدود الجزائرية. فالأمر يتعلق بسلسلة من الجبال التي تمتد في شكل قوس محاذ للبحر، لكنها جبال عالية شديدة الانحدار نحو الشاطئ مع انعدام أراض ساحلية منبسطة تسمح بالاستغلال الزراعي واستقرار السكان. وحتى الأنهار والجاول التي تصب في البحر المتوسط فهي غير ذي أهمية لضعف صبيبها وجفافها خلال جزء كبير من السنة، لذلك فالأودية الصالحة للزراعة واستقرار السكان قليلة وضيقة كما هو الحال بالنسبة لوادي بني بوفراح الذي يصب بالقرب من مرسى بادس، أو وادي النكور الذي يشق بسيط أجدير بالقرب من الحسيمة، أما فيها معظم مياه التساقطات بالريف، فتجري جنوبا وتذهب لتسقي سهول الغرب، وكأن الطبية هي الأخرى قد أصرت على عدم إنصاف المنطقة. إذن، الريف هة منطقة جبلية شديدة الانحدار، وجافة فوق ذلك، إذ لا تتعدى التساقطات السنوية ما بين 400 و 600 ميلمترا، وهي نسبة لا تسمح بزراعة ذات جدوى، مما يدفع السكان إلى الاستعانة بأنشطة أخرى من أجل ضمان غذائهم وأسباب عيشهم. من هنا، ظهرت الهجرة كمعطى بنيوي منذ أقدم الصور، الانعكاس الثاني لهذه الطبيعة الجبلية الصعبة مس الطرق والمواصلات، إذ يصبح كل تحرك باتجاه الغرب أو الجنوب على الخصوص، أي باتجاه "الداخل"، أمرا بالغ الصعوبة، ويكفي دليلا على هذا الأمر أن الإسبان بعد أن احتلوا المنطقة وأرادوا شق هذا الطريق بسلوك أعلى المرتفعات، مما جعل هذا الطريق الذي يربط تطوان بالناظور يحمل اسم "طريق القمم"، أما شق طريق بمحاذاة البحر فكان شبه متعذرة لعدم وجود شريط ساحلي، فضلا عن الإمكانيات التقنية المحدودة المتوفرة لدى الإسبان وعدم استعدادهم للاستثمار في مشروع مكلف من هذا النوع تكالب إسباني وبرتغالي بالإضافة إلى حصار الطبيعة، التي قطعت المنطقة ن "داخل" البلاد، جاء الحصار الاستعماري عقب سقوط الأندلس، ليجد أهل الريف أنفسهم بين مطرقة الطبيعة القاسية المتمثلة في جدار طبيعي يعزلهم عن بقية البلاد، وسندان الاحتلال الإيبيري الجاثم على الساحل المتوسطي ابتداء من القرن الخامس عشر، وقد كانت منطقة الريف، قبل ذلك، جزءا من الأندلس بمعناها الواسع، سياسيا واقتصاديا، أي ذلك المجال المشترك الذي جمع الضفة الشمالية الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق عبر بحر ضيق سماه بعض الؤرخين بخليج الأندلس، خلال تلك الفترة كان بالساحل الريفي مدن لها شأن، مثل سبتة تحتضن حركة تجارية نشيطة وتفتحا علميا وحضاريا جعل منها جوهرة المتوسط وقبلة التجار المسلمين والمسيحين، بوم كانت سبتة تصدر ذهب الصحراء وتستقبل سلع المدن الإيطالية أمثال جنوة والبندقية ومرسيليا، ونفس الشيء يقال عن مراسي أخرى كالنكور وبادس التي كانت هي المنافذ الرئيسية لمملكة فاس على البحر المتوسط، أو بحر الروم كما كان يعرف أنذاك، واستطاعت مدينة بادس على الخصوص من ربط صلات تجارية هامة مع مدينة فاس إلى درجة أن مرساها أصحبت هو المرسى الرئيسي لمدينة فاس وبابها على العالم المتوسطي. انطلاقا من احتلال البرتغال لمدينة سبتة في سنة 1945 عرف الساحل الريفي تكالبا من طرف القوتين الإيبيريتين انتهى، في الأخير، باحتلال كل المدن المغربية المطلة على البحر المتوسط إلى أن أصبح المغرب بلدا متوسطيا بالاسم فقط، لأن كل منافذه على بحر الروم تم سلبها وإلحاقها بإسبانيا والبرتغال، إذا احتلت طنجة في سنة 1437، والقصر الصغير في سنة 1458، وأزيلا في سنة 1471، ومليلية في سنة 1497، وبادس في سنة 1508، واستمر مسلسل الإحتلالات هذا حتى في عهد الدولة العلوية التي جعلت تحرير الثغور في طليعة اهتماماتها هكذا، وبعد أن فسل المولى إسماعيل في تحرير مدينتي سبتة ومليلية، لم يتمكن من الإسبانيين من احتلال أراض إضافية، إذ قام الإسبان باحتلال حجرة النكور المقابلة لمدينة الحسيمة في سنة 1673 وأخيرا تم احتلال الجزر الجعفرية عند مصب وادي ملوية في سنة 1848، دون ذكر جزر أقل أهمية كجزيرة تاورة "ليلى" القريبة من سبتة. اقتصاد القلة ثم ظهور الكيف ماذا بقي للمغرب، إذن، من شواطئه المتوسطية؟ كانت تطوان هي المدينة الوحيدة، ذات شأت، التي أفلتت من الاحتلال نظرا لموقعها المحصن وبعدها عن البحر بما يكفي لحمايتها من خطر الإحتلال، لتصبح المنفذ الوحيد للمغرب على البحر الأبيض المتوسطي، أما منطقة الريف الشرقية فقد جردت من كل مدنها ومراسيها لصالح الإسبان، وأصبحت، بالتالي، محاصرة لا سبيل لها إلى إقامة علاقات تجارية عادية من الخارج ما هدا تجارة التهريب والقرصنة، وباحتلال مدنه أصبح الريف الشرقي مجالا بدون حواضر وبدون مؤهلات حضرية، أي أن المنطقة تحولت إلى كتلة من القبائل المحاصرة التي عليها أن تعيش فوق أرض شبه جرداء ومحدودة الموارد، فلم يبق أمامها إلا الهجرة أو الإتتال لتقاسم موارد الريف الهزيلة، أو الانخراط في تجارة التهريب والقرصنة، قبل أن تظهر زراعة الكيف، التي لم يتستفد منها في الحقيقة إلا "البزناسة" القادمون من طنجة ومن الرباط وغيرهما. ثم سرعان ما أصبحت المدن المراكز، التي قامت إسبانيا باحتلالها على طول الشريط المتوسطي من سبتة إلى كبدانة، محرمة على أهل الريف، لكن حتى الإسبان أنفسهم لم يستفيدوا منها اقتصاديا وتجاريا، إذ كانت عبارة عن حاميات عسكرية أو معتقلات لاستقبال السجناء، وتعيش في عزلة تامة عن البر المغربي، معتمدة في كل شيء على ما يصلها من إسبانيا حتى ماء الشرب، فعلى عكس الدول الأوربية الاستعمارية الأخرى، لم يكن اقتصاد إسبانيا متطورا بدرجة كافية ليدفع بالدولة أو رجال الأعمال إلى التفكير في استغلال المستعمرات المغربية اقتصاديا وخلق نشاط تجاري بها، ولو للتبادل مع بلدان متوسطية أخرى إن جوبهت برفض الدولة المغربية إقامة علاقات تجارية معها. لكن الأوضاع ستعرف تغيرا هاما، خاصة بعد احتلال فرنسا للجزائر في سنة 1830 والاتفاقية المغربية الإنجليزية لسنة 1856 والتي كانت نتيجتها اقتحام السوق المغربية من طرف بريطانيا، عندئذ، بدأت إسبانيا تتحرك وتفكر في تغيير سياسياتها، بعد أن رأت أن الكعكة المغربية أصبحت في متناول دول أوربية أخرى، بينما، حسب زعم قادتها، هي المؤهلة بحكم الجوار والتاريخ للاستفادة منها. تسابق فرنسي وبريطاني بعد منتصف القرن التاسع عشر، حاولت إسبانيا تقلد فرنساوبريطانيا في اقتحامهما للسوق المغربية دون أن تكون لها الإمكانيات الاقتصادية والتجارية التي تسمح لها بتصريف سلعها في الأسواق المغربية، والحصول على نصيب لها في هذه الأسواق إلى جانب الفرنسيين والإنجليز، لكن إسبانيا كانت تعترضها بالإضافة إلى ذلك، عوائق كبيرة من جانب أهل الريف والمخزن مما بدد كل احلامها بخصوص النفاذ إلى الأسواق المغربية في مقدمة هذه العوائق، العداء الشرس والمستميت لسكان الريف لكل محاولة إسبانية لتجاوز حدود المستعمرات. ويكفي كمثال هنا أن نشير إلى المقاومة الدائمة التي أبدتها قبيلة قلعية لكل محاولة إسبانية لتخطي حدود مليلية، ونفس الموقف نجده لدى قبيلة بني ورياغل في علاقتها بحجرة النكور التي كانت تحت المراقبة والحراسة المستمرة. ونفس الموقف، أيضا، نجده لدى قبيلتي بقيوة وبني يطفت بالنسبة لجزيرة بادس. أما العائق الثاني الذي اصطدمت به الأطماع الإسبانية، فكان يمتثل في موقف المخزن الذي رفض بعناد أي محاولة إسبانية لاختراق السوق الريفية، لأن ذلك كان يعني تطبيعا للحتلال وإقامة علاقات تجارية عادية مع المحتل، كما كان يعني فتح الباب لتجارة التهريب في منطقة نائي يصعب على الدولة مراقبتها. ولما تحققت إسبانيا من فشلها في مزاحمة فرنساوبريطانيا تجاريا، لجأت إلى سياسة عسكرية أكثر عدوانية بغية احتلال المزيد من الأراضي حول مليلية وسبتة، وهو ما أدى إلى مواجهات عنيفة مع المخزن في حرب تطوان " 1859-1860" ومع قبائل الريف، انطلاقا من مليلية أو من ساحل النكور الذي عرف محليا بمرسى المجاهدين. وطوال الخمسين سنة، التي سبقت الاحتلال الإسباني للمنطقة، عاشت قبائل الريف وضعية متوترة وشاذة نتيجة ازدياد الضغوط الاستعمارية عليها، بعد أن قررت إسبانيا توسيع مستعمراتها في كل من سبتة ومليلية على الخصوص، في وقت لم يتحرك فيه المخزن بما فيه الكفاية لحماية رعاياه ضد الاستفزازات والاعتداءات الإسبانية. الريف بين المخزن وإسبانيا صحيح أن الدولة المغربية، خلال تلك الفترة، كانت ضعيف عسكريا وسياسيا وتتصارع ضد أكثر من قوة إستعمارية من أجل البقاء، خاصة بعد هزيمتي إيسلي وتطوان، ثم انشغال المخزن بأداء الغرامات الباهظة واقتراض الأموال من أجل تجهيز جيش منهار وإصلاح إدارة فاسدة، في ظل هذه الوضعية لم تكن هناك قوة رادعة قادرة على دهم أهل الريف في مواجهة التحرشات الإسبانية لنأخذ كمثال على ذلك العلاقات المتوترة بين مليلية وقبيلة قلعية التي عانت من الاعتداءات الإسباينة المتكررة دون أن يستطيع المخزن شيئا لصالحها فبعد هزيمته في حرب تطوان، أراد أن يوقع صلحا مع الإسبان على حساب قبيلة قلعية التي طلب منها أن تتخلى عن أرض خارج مليلية، قالت إسبانيا إنها في حاجة إليها لتعزيز دفاعات المدينة، وحددت المسافة التي تطالب بها إسبانيا بما يسمى ب"رمية المدفع" علما بأن المدفع قد يصل مداه عدة كيلومترات، ورضخ أهل قلعية على مضض لظغوط السلطان محمد بن عبد الرحمان، دون أن يضمن لهم هذا التنازل عن أجود أراضيهم السلم مع إسبانيا، الذين كانوا يختلقون الأسباب لكسب المزيد من الأراضي والتضييق على القلعيين عندما كانوا يحاولون إستغلال أراضيهم الفلاحية القريبة من حدود تتغير باستمرار، حسب رغبة الإسبان، وفي غياب أي رد فعل لمخزن مغلوب على أمره. وقد اتضح عجز المخزن بالملموس، في سنة 1863، عندما قرر حاكم مليلية تحويل مجرى مائي يوجد خارج الحدود المتفق عليها لتزويد الحامية الإسبانية بالماء الشروب، فانتفض أهل قلعية وطالبوا بتدخل الدولة، لكن شيئا لم يقع، في ظل هذه الوضعية، كان من الطبيعي أن يلجأ أهل الريف إلى الدفاع عن أنفسهم، وكلما تكبد الإسبانيون خسائر بشرية أو مادية، كانوا يلجؤون إلى مطالبة المخزن بالتعويض عن ذلك، فيدفع المخزن من الخزينة أحيانا ويفرض الغرامات على السكان أحيانا أخرى، وعندما يعجز على هؤلاء أو يرفضون تبغث إليهم الحركات العسكرية لتأديبهم وإرجاعهم إلى جادة الصواب، والنتيجة أن تكون انطباع عند أهل الريف أن المخزن يخذلهم بتقديم مصالح الإسبان على مصالح رعيته، وأنه مقصر في واجب الحماية التي تطوق عنقه بموجب البيعة الجامعة بين الطرفين. عزلة حقبة الإسبان ومعاناة الإستقلال مما لا شك فيه، أن تقسيم المغرب إلى منطقتي حماية، فرنسية في الجنوب وإسبانية في الشمال، كان له أثر مؤكد في التباعد بين المنطقتين وتكريس عزلة، كان الريف يعاني منها اصلا منذ وقت طويل، فبعد القضاء على الجمهورية الريفية في سنة 1926 واحتلال المنطقة، عملت إسبانيا على تجاهل الريف الأوسط والشرقي لضعف الإمكانيات الاقتصادية هناك، فركزت إدارتها بتطوان ودفعت بمعمريها إلى ناحية اللوكوس حيث المياه والأراضي السهلية الخصبة، أما الجهة الشرقية من حمايتها، فكان نصيبها الثكنات العسكرية وحكم عسكري أكثر قسوة، برما لمعاقبتها على المقاومة الشرسة التي أظهرها أبناء المنطقة والتي تسببت لإسبانيا في هزائهم عسكرية مذلة لم تواجهها في باقي مستعمراتها، أما على الصعيد الإقتصادي والتنموي، فإن إسبانيا، كبلد متخلف صناعيا، لم تكن في وضغ يسمح لها بتنمية المنطقة وإقامة بنية تحتية شبيهة بالتي أحدثها الفرنسيون بجنوب البلاد، ويكفي دليلا على ذلك أن المنطقة، بشقيها الشرقي والغربي، لم تنجز بها خلال فترة الحماية إلا 2000 كيلومترا من الطرق الخاصة بالسيارات، و230 كيلومترا من السكك الحديدية، لذلك يمكن القول إن الريفيين تركوا لشأنهم فلم يكن أمامهم للعيش سوى الهجرة وتجارة التهريب، وزراعة القنب الهندي، أي أن المنطقة بقيت اقتصاديا خارج القانون، تماما كأهلها الذين لم ير فيهم المستعمر سوى قبائل متوحشة، لا قابلية لها بالتطور، وبالتالي فأفضل مقاربة اختارها المستعمر هي تركها على حالها مع إخضاعها لمراقبة عسكرية صارمة، حتى لا تفرز حركة مناوئة كتلك التي قادها عبد الكريم الخطابي في العشرينيات من القرن الماضي. بعد الاستقلال في سنة 1956، لم تتغير الأمور كثيرا، خاصة بعد أحداث 1958-1959 التي ستترك جرحا عميقا في علاقة المنطقة بالدولة، ذلك أن الملك الحسن الثاني سيسلك تجاه المنطقة، وخلال أربعة عقود من الزمن، سياسة انتقامية ستترك فيها المنطقة في وضعية من التخلف، وهي سياسة لم تختلف كثيرا عن سياسة إسبانيا، بل يمكن القول إنها كرست تلك السياسة إذ استمرت المنطقة في المعاناة من نفس العلل التي ورثتها عن الاستعمار، أي الهجرة التي أفرغت القرى من سكانها، وتجارة التهريب وزراعة القنب الهندي التي أغنت قلة من تجاره دأبوا، دائما على تهريب أرباحهم إلى خارج المنطقة.