د. عبد السلام انويكًة عن هيسبريس بقدر ما هي عليه من زمن حافل بوقائع وأحداث وإسهام وتفاعل على امتداد قرون، وبقدر ما هي عليه من شواهد مادية ولا مادية، تجمع بين عمارةِ دينٍ ودفاعٍ وفكرٍ وفنٍ وفقهٍ ووصلٍ.. ووطنٍ. وبقدر ما هي بمثابة وعاءٍ فيه من كل وَقْعٍ طرف، وفسيفساء بعلامات ومعالم يذكر عبرها خَلف سَلف. وبقدر دلالة ما أورده حولها صاحب "معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار": "(تازة).. بلد امتناع وكشف قناع ومحل ريع وإيناع، وطن طاب ماؤه وصح هواؤه وبان شِرافه واعتلاؤه وجلت فيه مواهب الله وآلاؤه..". بقدر كل هذا وذاك، فإن تازة.. حضارة وتاريخاً ومجالا وزماناً وانساناً وممراً.. لا تزال بغير التفات مُقنعٍ مُؤَسس عبر ما ينبغي من بحث ودراسة وتنقيب وتعريف وكتابة وتأليف ونشر..؟؟، حول أمكِنَةٍ وأعلام وعلماء وجماعات ووقائع وإسهام وتفاعلات وجوار..؟؟ علماً أن المدينة هي بثابت في الزمان والمكان، لِمَا تحفظه شرفتها المطلة من هناك شامخة على ممر زمن بلادٍ وعبادٍ. ووعياً بما يمكن أن يكون لهشاشة ذاكرة جماعة من أثر على هشاشة هوية ووطن وانسان..، وفي إطار بَعضٍ من أوجه تماس ومشترك بين تازة وبين جوارها حيث الريف إلى الشمال. ارتأينا.. ورقةً نروم من خلالها إثارة حدثٍ على درجة من الذاكرة ومن الأهمية، لِما يستحقه من تأمل وتفاعل وقراءة إلى حين.. ما ينبغي حوله وحول قضايا أخرى تاريخية عالقة، من مبادرة ونبش وتنوير واجتهاد علمي مقنع طبعاً وليس مدرسي تربوي بئيس؟؟ في إطار هذا الحدث، وإلى عهد قريب حيث زمن الحماية الفرنسية على البلاد، تحديداً عشرينيات القرن الماضي في خضم فترة حرجة عُرفت مَكراً بالتهدئة، وأثناء وقائع وصدى حرب الريف بقيادة ابن عبد الكريم. بدت تازةالمدينة مقبلة منذ ماي 1925 على تطورات مقلقة وخطيرة، تناولها ليوطي في تقارير سرية له. سواء من حيث حجم ما كان عليه استعداد وإعداد القوات الفرنسية، لخوض معارك جبهة تماس مع منطقة خليفية في إطار تحالف إسباني فرنسي. أو ما كان عليه ابن عبد الكريم من تعبئة لأتباعه، خاصة عندما توغلت قواته بمجال غير بعيد عن تازة حيث قبيلتي البرانس والتسول، وعندما التحق القائد الخلادي بالمقاومة كشخصية محلية كانت بأثر قوي على مجرى الأحداث. فهو الذي إضافة لِما كان يتوفر عليه من أتباع وأسلحة حديثة، كان يحظى باحترام ونفوذ كبيرين. وكانت دعاية ابن عبد الكريم قوية خلال أكتوبر 1925، معتمدة في نشاطها على الأسواق القروية لحشد الرجال ودعم ثورة الريف. بحيث تذكر الوثائق في هذا الإطار أن اثنتين وسبعين أسرة من قبيلة البرانس أعلنت خروجها عن السلطة الفرنسية، إضافة طبعاً للقايد الخلادي الذي تمكن من الفرار إلى منطقة بني عمارت غير بعيد شمالا. وكان قد أقدم عند اقتراب قوات ابن عبد الكريم من مجال قبيلة البرانس على استدعاء مقدم فرنسي من تازة ومعه أربعة ضباط من أجل الضيافة. ولمّا تحقق له الكمين الذي وضعه لهم وتأكد من عزلهم عما كان بحوزتهم من أسلحة، قام بمساعدة إخوانه بقتلهم جميعاً. لينتقل بعد ذلك رفقة عائلته إلى قبيلة بني ورياغل ويستقر بزاوية سيدي عيسى، حيث ظل إلى جانب المقاومة إلى حين تمكن إسبانيا من احتلال الريف، وهو ما ألزمه بالهجرة إلى تطوان والانخراط في الجيش الإسباني، بعد تعهد الحكومة الإسبانية بعدم تسليمه إلى فرنسا. وضعية جعلت مقاومة قبائل تازة في واجهة الأحداث داخل المغرب، لارتباطها بحرب الريف من جهة، ولما أثارته من عناية في الرأي العام الفرنسي إعلاميا من جهة أخرى. وكانت قوات الثورة الريفية، بقيادة القائد "بوحوت"، قد دخلت شمال تازة تحديداً منه مجال البرانس بحوالي أربعمائة رجل عام 1925، حيث جرى هزم موالين للقوات الفرنسية من القبيلة بزعامة الخليفة "اركًوكً"، لتلتحق كل القبيلة بعد ذلك بصفوف ثورة الريف ثم قبيلة التسول فيما بعد، ولتبقى المراكز الفرنسية بهذه المناطق معزولة تماماً. ولم يكن حجم قوات الريف هو من عمق من خطورة الوضع وأخاف الفرنسيين، إنما أساساً تلك الردة الكاملة لقبائل كان يصعب الشك في اخلاصها لنظام الحماية؛ فبمجرد انسحاب القوات الفرنسية من خطوط خلفية، انتفضت وتحالفت مع قوات ابن عبد الكريم الذي احتضنها بقوة. وقد خلفت ردة القبيلتين وضعية صعبة مكنت قوات الريف من بلوغ تازة وقطع الطريق بينها وبين فاس، إلى درجة تفكير قادة فرنسيين في إخلاء المدينة؛ بل أمام حالة ضغط قائمة في ظرفية صعبة وخوفاً من فقدان الاتصال بالجزائر، ورد حديث عن استعمال غازات سامة ضد مقاومة كانت محصنة في خنادق بالمنطقة. وعلى إثر ما تعرض له من ضغط عسكري فرنسي وإسباني شديد، لجأ ابن عبد الكريم إلى ما هو دبلوماسي رغبة منه إستراتيجياً في تفاوض جديد لتحقيق السلم مع القوات الفرنسية، التي اعتبرت الأمر مجرد مناورة لربح الوقت من أجل الفرار.. وإضافة إلى تجاهل الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب لمقترح قائد الريف، قام Steeg في إطار مواجهته للمقاومة بزيارة لبقعة تازة وبويبلان مرفوقاً بالعقيد Noguès وبالجنرالين Mangin و Dechambrun. وفي لقاء له مع زعماء قبيلة بني وراين، أشار إلى قرار فرنسي قال عنه إنه يروم عفواً عن القبائل شريطة استسلامها في أجل أقصاه شهر واحد. وكان الفرنسيون، بتنسيق مع الإسبان في بداية خريف 1925، قد تمكنوا من ترجيح الكفة لصالحهم في هذه الجبهة، وإنهاء ثورة الريف بإجبار زعيمها على الاستسلام لجانبهم، ما لم يصدقه كثير من المغاربة. وقد تباينت أخبار الحدث ومجرياته في الصحافة الفرنسية المواكبة للوقائع العسكرية بالمغرب، والتي أوردت أن ابن عبد الكريم بعد نقله إلى تازة قدم استسلاماً رسمياً بها، أمام الجنرال Boichut في معسكر "girardot" نهاية ماي 1926. في الإطار نفسه، تحدثت يوميات صحافية أخرى عن كون قائد حرب الريف قدم استسلاماً رسمياً للمخزن المغربي بتازة وبدون أية مظاهر احتفال، مشيرة إلى أسلوب التعامل معه كأسير حربٍ عادي، اختيرت له إقامة مؤقتة بالمدينة العتيقة. وكان استسلام ابن عبد الكريم بتازة، وفق الخبر الصحافي المواكب، مناسبة عبّر فيها المقيم العام بالمغرب للقبائل عن رغبة فرنسا في تسامحها ونسيانها للأخطاء من أجل التعاون والسلم. خطاب بخلفية سياسية حاول، من خلالهSteeg ، توظيف الحدث إستراتيجياً للتأثير على مقاومة ما عُرف بقعة تازة، في تماس مع تازةالمدينة من جهة الجنوب. وعليه، فالإبقاء على ابن عبد الكريم أسيراً لمدة قصيرة بتازة. كانت إشارة ليس فقط إلى درجة قوة فرنسا وتحكمها في الأمور؛ بل إلى مقاومة كانت قائمة في جوار من الجبال غير بعيد عن تازة حيث بني وراين، حتى لا تكون بمصير ونهاية نفسها التي انتهت إليها ثورة الريف. ومن المهم الإشارة إلى أنه بعد استسلام ابن عبد الكريم واتخاذه لقرار وقف الحرب في الريف، تم التوجه به رفقة فرقة من الخيالة عبر طريق اكًزناية. وعند بلوغه مركز بورد ركب سيارة عسكرية نقلته إلى تازة، التي أقام بها بعضاً من الوقت إلى حين وصول عائلته ومن معها. وكان ابن عبد الكريم عندما حل بتازة ضيفاً أسيراً مؤقتاً، تحت حراسة جنود مغاربة وفي مكان منفرد بدار المخزن بخلاف الأسرى الآخرين. حدث تلقى على إثره المقيم العام بالمغرب تهنئة من داخل البلاد وخارجها، خاصة من فرنسا والجزائر ومن المقري رئيس الحكومة المغربية... قد أوردت الصحافة الفرنسية المواكبة للعمليات أن زعيم حرب الريف استُقبل بشكل سريع من قِبَل باشا تازة وأنه كان يتكئ على عصا. وبتازة دائماً جرى استقبال عدد من الأسرى الفرنسيين، الذين أطلق سراحهم بعد استسلام قائد الريف. وبحضور عائلاتهم، جرى تنظيم احتفال خاص على شرفهم، بمشاركة عدد من الفرنسيين الذين كانوا مقيمين بالمدينة. وللإشارة، فإن ابن عبد الكريم في حربه بالريف، كان يتوفر على عدد مهم من الجواسيس خاصة بالمنطقة الخليفية؛ ومنهم نذكر: جوزي كليمبس، من أصل ألماني كان هارباً من اللفيف الأجنبي الفرنسي، بحيث عندما استسلم ابن عبد الكريم اختفى ليتم إلقاء القبض عليه في تازة. وهذا ما يطرح سؤال الاختراق والتنقل في ظرفية أمنية صعبة، وسؤال العلاقة بمكان كان وجهة أولى مؤقتة لقائد الريف قبل نقله إلى فاس في طريقه إلى منفاه. وكانت ثورة الريف بشمال المغرب على التماس مع ممر تازة الإستراتيجي قد أثارت اهتمام الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي عمل عبر صحافته ونوابه في الجمعية العامة الفرنسية على دعم هذه الثورة بدعوته الجنود الفرنسيين للتعاون مع الريفيين وتعبئة الشعب الفرنسي لعدم التضحية بالأرواح والمال، معتبراً ما كانت بصدده فرنسا في المغرب هو حرب استعمارية وإمبريالية. وحرب الريف هاته، التي دفعت يسار فرنسا لدعم القضية المغربية، كادت أحداثها أن تعصف بوضع المغرب الداخلي وجعل حصيلة ما سُمي بالتهدئة فيه مهدد بالخطر. وكانت خسائر فرنسا بجبهة الريف المفتوحة على تازة وممرها قد بلغت حوالي ألف قتيل وثلاثة آلاف ومائة جريح وآلف مفقود. وقد تطلب الأمر لتحقيق انتصار في حرب الريف ترسانة عسكرية ضخمة، وعمل ثلاثة ماريشالات وأربعين جنرالا ونصف مليون جندي فرنسي وإسباني. وكان من جملة ما ميز عملياتها من تطورات مشاركة طيارين أمريكيين في القتال إلى جانب فرنسا سبق لهم أن أسهموا في جبهات قتال أثناء الحرب العالمية الأولى. وعلى إثر إنهائها لحرب الريف التي كانت تهدد مناطق نفوذها، ونقل زعيمها واستسلامه ثانية بشكل رسمي بتازة، وفق ما أوردته صحف مواكبة، نظمت القوات الفرنسية استعراضاً عسكريا بتازة في خريف 1926. بعض فقط من كلِّ ومن ذاكرة، حول ما هو قاسم بين مدينة وبين ريفٍ وجوارِ ثقافةٍ ومجالٍ، وحول مشترك في حدثٍ وفعلٍ وتفاعلٍ إلى حين ما هو مفيدٍ من بحث وتنقيب وتأليف كافٍ وشافٍ..