أحيانا يسألني بعض الإخوة لماذا لا أبدي رأيي في قضايا يعتقدونها ذات أهمية، ومنهم من ينكر علي سكوتي، وإذا أدليت بما يخالف هواهم أجد بعض من يستكثر علي ذلك... ببساطة أقول: أحيانا لا أدلي بدلوي في بعض القضايا والمستجدات لأنني لا أراها مهمة بنفس الدرجة التي يراها بها غيري، وقد تكون مهمة من ناحية ما لكن همتي تتطلع إلى الاهتمام بما هو أهم، فالقضية قضية أولويات عندي، فلماذا علي أن أصطف مع فلان أو علاّن حتى يعجب بي فلان أو علاّن.. ؟ أنا دائما مع الحق، أو على الأقل مع ما أراه حقا وهذا يكفي، وإن كان الاصطفاف مع الحق أحيانا تكون ضريبته قاسية... مناسبة هذا الكلام هي ما راج من حديث حول "نكرة" قالوا بأنه أساء إلى سيد ولد آدم بكلام بذيء، وبأن فلانا علق على ذلك من على المنبر ودعا إلى إهدار دمه.. وآخر كفره وحرض الناس عليه.. فانبرى بعض الناس للدفاع عن المسيء في الإعلام... كما تضامن بعض الفيسبوكيين مع بعض الدعاة ووجدوا الفرصة سانحة ليقوموا بتصفية حسابات قديمة مع مسئول واحد في وزارة الأوقاف أو المجلس العلمي فأساءوا بذلك إلى مؤسسة كاملة، بل وإلى أمير المؤمنين باعتباره رئيسا للمجلس العلمي الأعلى.. واعتبروا الخطيب الفلاني فارسا مغوارا وشجاعا معصوما الحق دائما في صفه، أما باقي الخطباء والوعاظ فمجرد بيادق على رقعة شطرنج المخزن، وبالتالي فهم من علماء السلطان، يصطفون إلى جانب الباطل..!! بمعنى آخر فإما أن تغرّد خارج السرب وتقول ما يريد بعض الفيسبوكيين أن تقوله وإما ستتّهم في دينك وعلمك وقناعاتك وتوجّهاتك واختياراتك..! والحقيقة أن كل من يعتلي منبرا بمسجد من المساجد فهو مسئول أمام الله على ما يقوله، ثم هو مسئول أيضا أمام الجهة المشرفة على الشأن الديني في هذه البلاد، وهي الجهة التي زكّته ورخّصت له أن يدعو الناس على بصيرة.. فلا فرق بين خطيب وخطيب أو بين واعظ وواعظ، إلا في استشعار بعضهم لهذه المسئولية الملقاة على عاتقهم وخروج بعضهم عن جادة الصّواب لسبب من الأسباب.. وفيما يتعلق بموضوع إساءة "صحفي" غير معروف في "جريدة" غير مقروءة لخاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم بكلام بذيء وخلق دنيء أقول: أولا: هذا "النكرة" كان يبحث عن الشهرة فوصل إليها بفضل غباء بعض إخواننا الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بسبب ما قاله، والحقيقة أن ما كتبه هذا "السّخفي" المسيء إلى نفسه في جريدة "علامة الساعة" ليس بجديد، فقد سبقه إليه "سخفيون" و زنادقة وملاحدة ووو... لكن منهم من تاب وأناب بعد ذلك وأصبح من أشرس المدافعين عن النبي الكريم وعن سنته الطاهرة، ومنهم من سجّل اسمه في مزبلة التاريخ وانتهى إلى هلاك، لأن الله تعالى ينتقم لحبيبه صلى الله عليه وسلم. ورأيي في هذا هو رأي الفاروق عمر رضي الله عنه حين قال: " أميتوا الباطل بالسكوت عنه". ثانيا: بالنسبة لأولئك الإخوة الذين عبّروا عن محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من على منبر رسول الله الكريم بالصراخ والدموع وربما بالسباب وإطلاق أحكام معينة، هم في كل الأحوال معذورون.. أعذرهم لأنني لا أشك في حبّهم للحبيب عليه الصلاة والسلام.. وأعذرهم لأنني زاولت مهمة الخطابة لسنوات و أعرف جيدا معنى أن تواجه مئات الأشخاص ونوع الشعور والحماس الذي يغشاك وأن تخطب في موضوع له أهميته وسطوته ومهابته... وأعذرهم لأنني أنفعل أنا الآخر وأبكي أنا الآخر وأصرخ أنا الآخر حين يكون هناك داع لذلك، بل وعبّرت عن غضبي وشجبي لمّا اعتدت بعض الصحف الدانمركية والفرنسية على سيد الخلق وأساءت إلى نفسها برسوم كاريكاتورية سخيفة، ودعوت المسلمين في وقتها هناك إلى نشر دعوة نبيهم بين الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.. وإذا اختلفت مع بعض الإخوة في تقديري لما يجب ولما لا يجب فذاك راجع إلى فهمي لشريعة الرحمة التي جاء بها نبينا المبعوث رحمة للعالمين، ولقناعتي أنه صلى الله عليه وسلم لو كان معنا الآن وقيل له أن "قماشا" أساء إليك لاكتفى بابتسامته النورانية ودعا له بالهداية كما كان يفعل مع سفهاء كفار قريش واليهود وأجلاف الأعراب عليه الصلاة والسلام. يروي البزار وغيره أن أعرابيا جاء يومًا يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فأعطاه، ثم قال له: أحسنت إليك؟، قال الأعرابي: لا، ولا أجملتَ، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا، ثم دخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئًا، ثم قال: أحسنت إليك؟، قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا أحببتَ فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك، قال: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن مثلي ومثل هذا الأعرابي: كمثل رجل كانت له ناقة شردتْ عليه، فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحب الناقة: خلُّوا بيني وبين ناقتي؛ فإني أرفقُ بها وأعلم، فتوجَّه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض، فردَّها هونًا هونًا، حتى جاءت واستناخت، وشدَّ عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه، دخل النار. (البخاري). وتقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: "ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيء فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهكَ شيء من محارم الله، فينتقم لله". (أبو داود وابن ماجة والدارمي). وروى الحاكم وغيره عن زيد بن سعنة - وهو من أجلِّ اليهود الذين أسلموا - أنه قال: "لم يبقَ من علامات النبوة شيء إلا وقد عَرَفته في وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - حين نظرت إليه - إلا اثنتين لم أخبرهما منه: هل يسبق حلمه جهله؟ ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فكنت أتلطف له؛ لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعتُ منه تمرًا إلى أجلٍ فأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيتُه، فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، نم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فقال عمر: أي عدوَّ الله، أتقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أسمع؟ فوالله لولا ما أحاذر قسوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر، فاقضِه حقه، وزِدْه عشرين صاعًا مكان ما رُعْتَه، ففعل، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عَرَفتها في وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما فقد اختبرتهما، أشهدك أني قد رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا". (أحمد والحاكم وابن ماجة). وسيرته العطرة عليه الصلاة والسلام حافلة بمثل هذه المواقف التي تعبر عن سماحته صلى الله عليه وسلم وحلمه وعفوه وتجاوزه... ثالثا: هذا النقاش الذي أعقب تلك التهم الباطلة والكلام الطائش لذاك "القماش" المعتوه أعتبره نقاشا صحيا، على الرغم من استغلاله من قبل البعض لتمرير رسائل مغلوطة و تصفية حسابات ضيقة.. واستغلاله من قبل آخرين لاتهام الدعاة والهجوم على الخطباء والوعاظ هجوما شرسا.. لكن أفضل أن نرتقي بهذا النقاش في منابر الإعلام والحوار فنواجه الرأي بالرأي والحجة بالحجة، وندمغ زجاج الباطل بمطرقة الحق. يقول تعالى: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون " (الأنبياء:18). رابعا: إن الناس فيما يعشقون مذاهب، لكن لا ينبغي أن تستغل مثل هذه الأحداث لإيقاظ النعرات والتسبب في الفتن بين الخطباء وعامة الناس من جهة، وبين الخطباء بعضهم مع بعض من جهة ثانية، وبين الخطباء ومؤسسات الدولة من جهة ثالثة. فكل يعمل على شاكلته، وكل ميسر لما خلق له، والكل في خدمة دين الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكل ينبغي أن يتجنّد لخدمة "الأمن الروحي" لعباد الله في هذه البلاد، لأنه إذا اختل هذا الأمن اختلت موازين كل أمن.. وصرنا لا قدر الله إلى ما صارت إليه دول كانت بالأمس القريب آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان... خامسا: الذين يتحدثون عن توقيف الخطيب الفلاني و عزل الواعظ العلاني... أقول: هذا كله تهييج إعلامي للتأثير على الرأي العام وجس نبضه، بل وتحوير النقاش الدائر للتحريض على الخطباء حتى توجه إليهم الأنظار والسهام والتهم، ويتم في المقابل التغاضي عن المسيئين والمخطئين الحقيقيين .. فالخطباء يؤدون مهامهم بكل حرية وكرامة، وإذا كان هناك توجيه من وزارة الأوقاف أو المجلس العلمي لخطيب معين فهذا من اختصاصهم وحرصهم على سلامة وأمن أبناء هذا الوطن، والخطباء يتفهمون هذا الأمر لأنهم ينتمون لهذه المنظومة وهم أشد الناس حرصا على سلامة تدين المغاربة، وأمن هذا الوطن.. بارك الله فيهم ووفقهم الله لخدمة دينه وجزاهم عن الإسلام والمسلمين كل خير، ولا نامت أعين الجبناء المتربصين بأمن البلاد والعباد.. وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من اهتدى بهديه إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.