وزير الخارجية السابق لجمهورية البيرو يكتب: بنما تنضم إلى الرفض الدولي المتزايد ل"بوليساريو"    مطالب للحكومة بالاستجابة الفورية لمطالب المتقاعدين والنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء        اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    موتسيبي: "كان" السيدات بالمغرب ستكون الأفضل في تاريخ المسابقة        تيزنيت : انقلاب سيارة و اصابة ثلاثة مديري مؤسسات تعليمية في حادثة سير خطيرة    الدار البيضاء.. حفل تكريم لروح الفنان الراحل حسن ميكري    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران        مرحلة استراتيجية جديدة في العلاقات المغربية-الصينية    كأس ديفيس لكرة المضرب.. هولندا تبلغ النهائي للمرة الأولى في تاريخها        محامون يدعون لمراجعة مشروع قانون المسطرة المدنية وحذف الغرامات    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    فولكر تورك: المغرب نموذج يحتذى به في مجال مكافحة التطرف    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية        طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    البطولة... أولمبيك آسفي يمطر شباك النادي المكناسي بثلاثية    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المأساة عنوان حكاية سيّدة ناظورية تحترق بمستشفيات الرباط بسبب مرض ينخر أجساد أبنائها
نشر في ناظور سيتي يوم 03 - 11 - 2015

نهارهم ألم وليلهم رجاء.. أعيادهم أمل وأفراحهم بلون الانتظار.. والمرض الذي يفتك بالأجساد التي كانت منذ سنوات نضرة غدا صديقا لا مناص من مصاحبته وقبول وجوده في الحل والترحال.. صار رفيقا في الليالي الطويلة وكل المناسبات.. لم يعد ينفع في حالاتهم الدواء ولم يعد بيد الطبيب من علاج سوى استبدال العضو المريض بآخر سليم مات صاحبه موتا دماغيا والأمل معقود على موافقة الأهل على عطاء غالي ونفيس في لحظة حزينة ومريرة.
رضوان ويوسف ويحي وبدر... بعض من لائحة مضمخة بالألم والأمل.. معاناتهم جعلتهم يتقنون الصبر حتى نالوا فيه ميداليات بكل الأنواع.. جف انتظارهم للحظة يولدون فيه من جديد بينما أرواحهم تتعذب في صمت وهي تترقب الفرج الذي قد يأتي في اللحظة الحاسمة أو قد يأتي بعد فوات الأوان.
إمرأة "تحرقها" معاناة أطفالها
"صورية" سيدة من الناظور قدمت إلى الرباط تجر معها تفاصيل حكاية إنسانية عنوانها "المأساة"، امرأة من الجهة الشرقية لم تكن تعرف سوى قريتها وحياتها الزوجية ووظيفتها في رعاية الأبناء والزوج ولم تكن علاقاتها الإنسانية تتعدى عائلتها وجيرانها، لتجد نفسها في أتون نار من الحزن والمرارة بسبب مرض نخر أجساد فلذات اكبادها، لتحترق كل يوم وهي ترى عصافيرها تذوب أمامها يوما بعد يوم ويفقدون ألق الحياة.
منذ 14 سنة بدأت رحلة العذاب لدى "صورية" عندما اكتشف الأطباء إصابة كلي وكبد ابنها البكر "محمد أمين" بالمرض ليحيلوه على مستشفى الأطفال ابن سينا بالرباط، فجاءت إلى العاصمة تتجرع آلامها وتأمل في استعادة حياة ابنها الصغير، جاءت من قرية صغيرة إلى العاصمة ومتاهاتها، لا تعرف سوى الريفية فزاد جهلها بالدارجة المغربية من غربتها.
بعد سنوات من الذهاب والإياب بين الناظور شرق البلاد والعاصمة الرباط (520 كيلومترا)، انتقلت روح ابنها "محمد أمين" إلى بارئها، تحكي "صورية" هذا الفصل من حكايتها، وتقول "كان عمره 9 سنوات وشهران عندما توفي، قضيت سنوات من العذاب، أتنقل بين المستشفيات لكن مرضه لم ينفع معه علاج، فمات، ودفنته هنا في الرباط، تركته في أرض غريبة وعدت إلى بيتي وقلبي ينزف ألما وحزنا."
بعد وفاة "محمد أمين" أنجبت "صورية" طفلا ذكرا آخر أسمته يوسف "عندما وضعت يوسف حمدت الله كثيرا، قلت في نفسي سيعينني على الصبر على وفاة محمد أمين، وبعد يوسف أنجبت رضوان وفرحت كثيرا واعتبرتهما معا تعويضا من الله لي على أيام العذاب التي قضيتها وأنا أرى ابني البكر يذوب أمام عيني"، لكن فرحة "صورية" لم تكتمل وحكايتهما مع الألم والمرض لم تنته، بل ستبدأ فصلا آخر أكثر قسوة ودراماتيكية من سابقه.
"اكتشف الأطباء إصابة ولداي يوسف ورضوان بنفس المرض الذي قضى على حياة شقيقهما: قصور في وظيفة الكلي وتشمع الكبد" كان وقع الخبر كالصاعقة على "صورية" وهي التي ظنت أنها دفنت ابنها البكر ودفنت معه كل الأحاسيس السلبية والصورة القاتمة للحياة.
"اكتشفنا المرض لأول مرة لدى ابني يوسف، كان عمره آنذاك سنة ونصف، وبعدها ظهر المرض لدى ابني الآخر رضوان، قال لي الأطباء إن المرض وراثي رغم أنني أنا وزوجي لسنا أقارب ونحن بصحة جيدة وكذلك أفراد عائلتي وعائلة زوجي، كما أن ابنتاي لم تصابا بالمرض، رضينا بقضاء الله وحكمه وبدأنا رحلة جديدة مع المستشفيات والتحاليل والأدوية، وقد مرت علي على هذه الحال 14 سنة" تقول "صورية" وتتابع بينما تربت على رأس ابنها الصغير الذي تبدو علامات المرض بادية على جسده "ابني يوسف في حالة صعبة فقد تدهورت وضعية الكلي لديه ورغم ذلك لا زال يستطيع الوقوف والمشي والحركة، أما ابني الصغير رضوان فحالته سيئة جدا فبالإضافة إلى كليتيه المتعبتين كبده متشمع ولا رجاء لنا إلا الله."
وسط هذا الألم والمعاناة، ظهر أمل جديد جعل أيام "صورية" تصطبغ بألوان الفرح والسرور، الفرحة التي لم تعرف معناها منذ سنوات ونسيت طعمها بعد أن أصبحت مرارة الحزن والمعاناة مذاق كل الأيام، بشرها الأطباء المشرفين على حالة ابنها رضوان بإمكانية زرع كبد بعد وفاة طفل في المستشفى، وأكدوا لها أن والدته موافقة، لم تصدق "صورية" الخبر ولم تكن تعرف كيف تفرح بعد أن نسيت شكل الفرحة، تطلب الأمر منها مجهودا إضافيا لتقنع نفسها بأن معاناة ابنها ستنتهي نهاية سعيدة، وهي في خضم ذلك انهار جبل الأحلام على رأسها بعدما أخبرها الطاقم الطبي برفض والد الطفل المتوفى بشكل نهائي التبرع بكبد ابنه، لتعود "صورية" خائبة مكلومة منهارة إلى قاعة الانتظار على أمل حصول معجزة تنقذ طفليها من براثن الموت.
تعرف "صورية" المرأة القروية الريفية عن زرع الأعضاء ما لا تعرفه كثيرات من قريناتها، فهي التي قضت عمرا في المستشفيات وقابلت العشرات من الأطباء الذين عاينوا حالة أبنائها، أيقنت أن العلاج الذي يتلقاه ولداها يطيل فقط أيام حياتهم لكن الأمل الحقيقي هو زرع أعضاء جديدة، تقول بأسف، "ابني لا علاج له إلا الزرع ولن يحدث ذلك إلا إذا مات أحد الناس وهذا أمر مؤلم"، وتضيف "لا أتمنى للناس الموت، فكما ستحترق تلك الأم على ابنها أو ابنتها فأنا أيضا أحترق من أجل أبنائي".
"صورية" التي لم تخلع الحزن منذ مات ابنها البكر بعدما التهم المرض جسده الصغير وتعيش مأساة مرض ابنين آخرين اكتسبت قوة غريبة وإصرارا تقول ليومية"التجديد" وعيناها تبرقان ببريق خاص، "أنا الآن أحس بمعاناة الناس وأقول مع نفسي إذا انتهى عمر ابني ومات سأتبرع بقلبه، فابني قلبه سليم وإذا مات قبل أن يحظى بفرصة زرع عضو ينقذ حياته سأتبرع بقلبه لشخص آخر بحاجة إلى زرع القلب"، وتضيف مبتسمة "سأفعل ذلك وأنا مسرورة وفخورة بما سأفعله وسأرضى بأن يتم زرع قلب ابني في جسم طفل آخر أو شاب آخر، حتى أبوهم سيقبل بالأمر مثلي.. أعرفه وأعرف أنه لن يرفض بل سيكون سعيدا وفخورا بهذا العمل".
أنتظر اتصالا يغير حياتي
ينهش المرض عيون "يحي" ابن مدينة طنجة منذ سنوات، هذا الشاب العشريني يعاني بعدما بدأ النور ينطفيء من عينيه شيئا فشيئا دون أن ينجح كل الأطباء الذين زارهم في إصلاح ما أفسده المرض. في النهاية جاء إلى العاصمة الرباط قاصدا مستشفى الاختصاصات، شخص الأطباء مرضه على أنه اعوجاج في القرنية ما يستدعي زرع قرنية جديدة.
وضع يحي ملفه في المستشفى في عام 2012 ولا زال ينتظر دوره لزرع قرنية جديدة، فيما وضع عينيه يتفاقم بعدما فقد البصر في إحداهما بينما يضعف بصره رويدا في عينه الأخرى.
يقول يحي، إنه يعيش في عذاب بعدما انهارت أحلام الصبا وأصبح يبحث عن طوق نجاة ينقذه من الظلام الذي يتربص به، غادر الشاب مقاعد الدراسة في مستوى الأولى باكلوريا بسبب المرض ولم يجد بعد ذلك أي عمل يتلاءم مع وضعه " تقدمت لعدد من الوظائف، لكنهم كانوا يرفضون توظيفي، فكل شركة تطلب مني الملف الطبي وبعد أن يعرفوا بضعف بصري يرفضون توظيفي"، وحتى إذا تم قبوله في عمل ما فإن الإجهاد الذي يصيب عينيه يعجل برجوعه إلى صفوف العاطلين.
في انتظار الاتصال الذي سيغير حياته بعد زرع قرنية جديدة، وجد "يحي" الحل في مرافقة بعض أقاربه إلى الصيد ليلا، فهو عمل لا يحتاج منه مجهودا بصريا كبيرا، كما أن ظلام الليل يحمي عينيه من الإجهاد ويلائم وضعه الصحي، يؤكد "يحي" أن عمله الحالي مؤقت فهو يملأ به أيام الانتظار التي طالت، وبين الفينة والأخرى يتصل الشاب بالمستشفى ليطمئن على مسار ملفه، آملا أن يجد طريقه إلى الحياة بعودة بصره من جديد.
حياتي متوقفة على "نعم"
بدأت معاناة "بدر" مع التهاب الكبد الفيروسي من نوع "سي" منذ عشرين سنة، لكن المرض تطور أخيرا ليصبح سرطانا يهدد حياته، في حديثه ل"التجديد" يؤكد بدر وهو إطار بنكي في منتصف عقده الرابع إن وضعه الصحي يستلزم خضوعه لعملية زرع كبد بعدما لم يعد العلاج الدوائي كافيا بل أصبح متجاوزا.
يقول بدر "أنا الآن في انتظار عملية زرع الكبد بعد أن تم إدراج اسمي في لائحة زرع الكبد بالمستشفى الجامعي ابن سينا بالرباط"، إدراج اسمه في اللائحة وانتظاره فرصة إجراء العملية جعل تصورات هذا الإطار البنكي والفاعل الجمعوي عن زرع الأعضاء تنقلب رأسا على عقب " كنت أعتقد أن المسألة سهلة، وأن المستشفى سيوفر لي كبدا بأسرع وقت ممكن، فضحايا حوادث السير والمتوفون في المستشفيات عددهم كثير وكبد واحد منهم سينقذ حياتي، لكن تصوراتي كانت مجرد وهم" يمضي بدر في حديثه قائلا فهمت أن المسألة معقدة قانونيا ولا يمكن المس بجثمان أي متوفي إلا بإذن عائلته وبموافقتها على التبرع بعضو ابنها أو قريبها، كما أنه ليس من السهل إيجاد كبد يطابق مواصفات جسدي، كما فهمت أنه لن يكون زرع أي عضو ممكنا إلا إذا كان المتوفي قد تعرض لموت دماغي وفي غرفة الإنعاش حيث تبقى أعضاؤه حية لمدة معينة بفعل الأجهزة الطبية".
قام "بدر" بكل التحاليل اللازمة والإجراءات المطلوبة في المستشفى الجامعي ابن سينا بالرباط، وما زال منذ ستة أشهر يعيش على وقع الانتظار. مع طلوع شمس كل يوم جديد يأمل أن يكون فيه الخلاص النهائي من المرض، يؤكد أنه ليس خائفا من العملية الجراحية فهو واثق من إمكانيات الأطباء المغاربة لكن خوفه الكبير أن ينقضي عمره وهو لا زال في قاعة الانتظار.
يمضي "بدر" في حديثه عن لحظات الانتظار العصيبة فيقول "خلال الستة أشهر الماضية اتصل بي المستشفى ثلاث مرات بعد موت ثلاث مرضى سريريا، كانت فرحتي لا توصف، لكن في المرات الثلاث، لم يكتب لفرحتي أن تكتمل، ففي المرة الأولى لم يوجد تطابق مع الكبد المتوفرة وفي الحالتين الأخريين رفضت عائلات المتوفيين التبرع بأعضاء أحبائهم، خبا أملي وعدت من جديد إلى الانتظار".
يتأمل "بدر" في قصته الطويلة مع المرض ووضعية الترقب التي يعيشها على أمل إنقاذ حياته من الموت، يستغرب كيف أن حياته متوقفة على "نعم" تخرج من فم عائلة مات قريبها وكيف يمكن لهذا الموت أن يصنع حياته، وكيف يمكن لحزن عائلة المتوفي ومرارة الفقد أن يصنع فرحته وفرحة عائلته بزرع عضو سليم مكان كبده المريض.
يقول بدر ليومية " التجديد "لم أعد أغلق هاتفي، ففي أي لحظة وفي أي وقت قد أتلقى اتصالا من المستشفى ليخبروني بالعثور على كبد يناسب حالتي، أحيانا أستيقظ في الليل لأتأكد من اشتغال الهاتف، فقد تكون اللحظة التي انطفأ فيها هي نفسها التي يتصل فيها المستشفى لاستعجالي في الذهاب لإجراء العملية".
769 مغربي مقيد في سجلات التبرع بعد الوفاة
في أبريل 2012 أطلقت وزارة الصحة بمعية وزارة العدل أول حملة تحسيسية للتبرع بالأعضاء والأنسجة في المغرب، وهي الحملة التي تلتها حملات ونقاش وطني حول الموضوع الذي كان مسكوتا عنه ولا يتردد إلا بين ألسنة الأطباء وفي أروقة المستشفيات.
منذ ذلك التاريخ أعلن عدد من الشخصيات العمومية والمسؤولين الحكوميين تسجيلهم في سجل التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، منهم وزير الصحة ووزير العدل إلى جانب فنانين ورياضيين لإعطاء دفعة جديدة لقضية التبرع بالأعضاء وتجاوز الوضعية الراهن.
الوضعية كما أعلن عنها وزير العدل والحريات مصطفى الرميد في عدد من اللقاءات كانت مخجلة جدا، الصمت المجتمعي إزاء هذه القضية جعل السجلات في المحاكم فارغة، رغم أن القانون المغربي متقدم في تقنين وتأطير التبرع بالأعضاء وحماية أطراف العملية.
وحسب وزير العدل دائما، فإنه منذ صدور قانون التبرع بالأعضاء في شتنبر 1999 وإلى غاية أبريل 2015، بلغ مجموع الأشخاص المسجلين في سجلات التبرع بالأعضاء في المحاكم الوطنية 769 شخصا وتشمل حالات التبرع بين الأحياء والمتبرعين المفترضين الذين يمكن الاستفادة من أعضائهم بعد الوفاة.
بعض المدن المغربية مثل الرشيدية وكلميم وطانطان سجلت صفر حالة تبرع، مقابل تسجيل شخص واحد في السجلات في إنزكان و9 مسجلين في أكادير و 22 في تزنيت. بالمقابل الحاجيات كثيرة إذ أن 7400 مغربي يحتاجون لزرع الكلي بينما هناك من ينتظر زرع كبد أو قرنية أو غير ذلك من الأعضاء الحيوية.
فتح نقاش وطني في الموضوع بإشراك فقهاء في القانون والدين، جعل التبرع بالأعضاء بعد الوفاة على لسان العديد من المغاربة، حتى أن بعض الأسر وإن كانت محدودة بدأت تتقبل التبرع بالأعضاء الحيوية لأحبتها بعد موتهم موتا سريريا. كما أن تنظيم المستشفيات الجامعية لحملات تحسيسية في الموضوع والتغطية الإعلامية لهذه المبادرات حركت المياه الراكدة التي كانت تحيط بهذه القضية.
وهكذا سجل المكلف بسجل التبرع بالأعضاء بعد الوفاة في المحكمة الابتدائية بالرباط مثلا إقدام 95 شخصا على تسجيل أنفسهم في سجلات التبرع بالأعضاء بعد وفاتهم، ورغم هزالة هذا الرقم مقارنة مع دول أخرى إلا أنه خطوة إضافية إلى الأمام بالنظر إلى أعداد المسجلين في هذا السجل في السنوات الفارطة والذي لم يكن يتجاوز 20 متبرعا في العاصمة.
تشدد قانوني
أجاز المشرع المغربي التبرع بالأعضاء بموجب القانون 16/98 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعا والذي صدر في عام 1999، وقيد هذا القانون عملية التبرع بعدد من الشروط منها سلامة المتبرع من الأمراض الموافقة الكتابية المسبقة للمتبرع على أخذ الأعضاء، وذلك أمام رئيس المحكمة الابتدائية التابع لها مقر إقامة المتبرع، أو أمام قاض المحكمة المذكورة يعينه الرئيس لهذا الغرض، ويتم التصريح دون صوائر بعدما تتكون لدى القاضي القناعة بأن المتبرع المحتمل يتصرف بإرادة حرة وعن قناعة وإدراك، ويمكن للمتبرع المحتمل أن يلغي التصريح وفق المسطرة المذكورة ولدى نفس السلطات.
كما ينص القانون على التبرع بالأعضاء والأنسجة يكون مجانيا ولغرض علاجي أو علمي، ويشترط أن تجرى العملية بالمستشفيات العمومية، ويمكن منح الاعتماد للمراكز الاستشفائية الخاصة بناء على طلب من مدير المركز الاستشفائي المعني الذي ستجرى فيه عملية الزرع باقتراح من هيئة الأطباء الوطنية، مع العلم أن الأعضاء المتبرع بها تكون موجهة لفائدة المستشفيات العمومية.
ويمنع القانون الاتجار بالأعضاء البشرية، ويعاقب القانون بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، كل من قام باخذ عضو من أعضاء شخص راشد على قيد الحياة دون الحصول على موافقته مسبقا وفق الكيفيات التي ينص عليها القانون أو بعد أن يتراجع عن موافقته. كما يعاقب القانون بنفس العقوبة كل من قام بعملية أخذ أعضاء من جسم إنسان على قيد الحياة لغرض غير علاجي أو علمي على الرغم من موافقة الشخص المذكور.
الشريعة تؤطر التبرع
ليس هناك ما يعيق الإيصاء بالتبرع بالأعضاء والأنسجة بعد الوفاة من الناحية الدينية، كما أن الشريعة الإسلامية أطرت التبرع من الحي إلى الحي ومن الميت إلى الحي. المجلس العلمي الأعلى تناول موضوع التبرع بالأعضاء في عام 2009 عندما أجاز أخذ قرنية العين من إنسان متوفى، أذن بها وتبرع بها في حياته، لغاية أخذها منه حين وفاته وزرعها في عين شخص آخر محتاج إلى الانتفاع بها في حياته، وهي الفتوى التي أصدرتها الهيئة العلمية الكلفة بالإفتاء بناء على طلب تقدمت به "الجمعية المغربية لجراحة قرنية العين والمياه البيضاء وزرع العدسات" بالدار البيضاء، والتي التمست فيه استصدار فتوى من المجلس ببيان حكم شرع الإسلام في الوصية بالتبرع بقرنية العين في الحياة، وأخذها من المتبرع حين وفاته لفائدة زرعها في عين شخص آخر.
الدكتور مصطفى بنحمزة عضو المجلس العلمي الأعلى تجاوز الحديث عن جواز التبرع بالأعضاء بين المسلمين إلى القول بجوازه بين المسلمين وغيرهم، منطلقا من أن الأجساد في الشريعة تتماثل في الحكم، وإن كانت العقائد تختلف وتتباين، واعتبارا لما أسسه الإسلام من إسعاف غير المسلم، ومن سعي إلى حفظ حياته ما دام غير داخل في حالة حرب. وملتزما بحدود التعامل السلمي الذي يظل هو الأصل في التعامل الإنساني.
لهذا كله، فإن بنحمزة يعتبر دخول المسلمين مع غيرهم في تبادل التبرع بالأعضاء البشرية أمر جائز يقتضيه منطق العدل الذي يلزم الآخذ بأن يكون معطيا، ويلزم المستفيد بأن يكون مفيدا، كما يجوز هذا التبادل بناء على أصل آخر هو أصل مراعاة المآلات وعواقب الأمور، لأن اقتصار المسلمين على الأخذ من الغير دون العطاء، يجعلهم هم الخاسر الأكبر حينما يمتنع الآخرون عن منحهم أعضاء ليعوضوا بها أعضاءهم التالفة، علما بأن غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية خصوصا هم أقدر على الاستغناء بأنفسهم، بينما يظل المسلمون في حاجة إلى غيرهم في كل المجتمعات التي لا يشكلون فيها إلا جالية محدودة العدد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.