[email protected] سألني بعضهم عن رأيي في المشاركة في التصويت فقلت: لقد جرّبتم المقاطعة مرارا فلم تفدكم في شيء، بل كانت سببا في فسح الطّريق أمام وصول المفسدين إلى تسيير الشأن المحلي، فعاثوا في مدينتكم فسادا.. قالوا بحسرة: نعم هذا صحيح... قلت: فإذا تأكّدتم بأن المقاطعة لم تعد حلاّ فلا بد إذن من المشاركة. فقالوا: وكيف ذلك؟ قلت: يمكن لكم أن تعتبروا الانتخابات شر لا مفر منه، و تعقدوا نوعا من المقارنة بين المرشّحين، ثم اعطوا صوتكم لمن وجدتموه صالحا، وإذا لم تجدوا صالحا فيهم، فاختاروا الأقرب إلى الصلاح، وإذا لم تجدوه فانظروا أقلّهم فسادا حتّى لا تتركوا الفرصة أمام أكثرهم فسادا.. استغربوا من كلامي، وقالوا: وهل الإسلام يقول هذا؟ قلت الإسلام يقول: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، والقرآن يدعونا إلى عدم كتم الشهادة، يقول تعالى: "ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم"، لهذا ينبغي أن يتدافع الحق مع الباطل، حتى لا يعتقد أهل الباطل، بأن الحق قد مات بموت أنصاره، فيستفردوا بنا كما يستفرد الذئب بفريسته.. قالوا : فما الحيلة إذن؟ قلت: إذا تعارضت المصالح نوازن بينها، حتى إذا تبيّنت لنا المصلحة الحقيقيّة من المتوهمة قدّمنا الحقيقيّة، وإذا تبيّنت لنا المصلحة العامة من الخاصة قدمنا العامة، وإذا تبينت لنا الكلية من الجزئية قدمنا الكلية وهكذا.. وإذا تعارضت المصالح والمفاسد، وازنا بينهما وسعينا إلى درء المفاسد قبل جلب المصالح كما هو مقرر في شرعنا الحكيم. وإذا تعارضت المفاسد بين بعضها البعض، قدّمنا أقلّها ضررا لنتجنّب بذلك المفسدة الكبرى... نظروا إلي بسذاجة، وأدركت أنهم لم يفقهوا شيئا مما قلت، وقالوا والحيرة تسيطر على عقولهم: بصراحة لم نعد نفهم شيئا.. قلت لهم والألم يعصر قلبي: استفتوا قلوبكم، إن كنتم تملكون قلوبا تفقهون بها، وافعلوا ما بدا لكم.. ولكن لا تنسوا أنكم مسئولون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون. ثم استأذنتهم لأغادر قريتي التي أكثروا فيها الفساد (...). هذا الكلام مجرد رأي نشرته في حسابي الخاص على الفيس بوك، فاستحسنه بعض الأصدقاء، وخلق جدالا ونقاشا صحيا بين بعض الفاعلين، اعتبره بعضهم فتوى، واعتبره البعض الآخر تحليل سياسي، واقترح علي بعضهم أن أنظّم ندوة تحسيسية أدلي فيها بمثل هذا الكلام الذي وصفوه ب "الحكيم"... لكن الذي ينبغي أن أؤكد عليه هنا هو: إن هذا الكلام مجرد رأي ناتج عن حوار عفوي جرى بيني وبين بعض الذين تاهوا بين المواقف بشأن ما يجب عليهم القيام به حيال أمر الانتخابات. ونزولا عند رغبة بعض الإخوة قرّرت أن أعيد نشره هنا رجاء تعميم الفائدة وتعميق النّقاش حتّى نفكّر سويا في إيجاد الحلول النّاجعة للخروج من هذا "التّيه السياسي" الذي جعل نسبة كبيرة جدا من المواطنين يفقدون الثّقة في الأحزاب والمؤسّسات، فتركوا الجمل وما حمل، ونادوا بالعزوف والمقاطعة، ثم تركوا الساحة لأباطرة المخدرات، والأمّيين، والمفسدين، والمرتشين لشراء الذمم بأبخس الأثمان، في محاولة للإجهاز على الوطنية التي تنبض بها قلوب المغاربة الشرفاء. أيها السادة، لقد أصبح من الواجب علينا كنخبة مثقّفة أن نناضل من أجل ما تبقى من كرامة المواطن، وسمعة هذا الوطن، حتى نقطع الطريق على المفسدين. كل النّخب وكل الفاعلين معنيين ومطالبين بالانخراط في التغيير لبناء وطن يتسع لأصحاب القيم النبيلة، والأخلاق الحميدة، ويضيق على السفهاء والمفسدين، وليس العكس. لقد أصبح من اللّازم على الأحزاب السيّاسية أن تجدّد نخبها وأن تفسح الطّريق أمام الشّباب، وذوي الكفاءات والمصداقية للمساهمة في الانخراط في العمل السياسي، والرقي به في مدارج العمل المثمر الذي يعيد للمواطن ثقته في السياسة، حتى يساهم هو الآخر في بناء وطنه بحب وتفان وإخلاص ونكران للذات. كما أصبح من الواجب على المجتمع المدني أن ينخرط بقوّة في إصلاح هذه اللعبة السياسية المتهالكة، ويضغط من أجل إبراز نخب جديدة تعمل على إصلاح المشهد السياسي في بلادنا الذي يعاني من البلقنة والتراشق التافه بين قياديي بعض الأحزاب التي أضحت لا يهمها إلا الوصول إلى الحكم، ولو على حساب المبادئ والقيم، بل وعلى حساب دينهم، والمصالح العليا لوطنهم أحيانا. فالمجتمع المدني الذي يعتبر قوّة اقتراحية وضاغطة ينبغي أن يمارس صلاحياته التي خولها له الدستور للدّفع بالمسلسل الديموقراطي في بلادنا، بالعمل الميداني الذي يساهم في تنمية الوعي السياسي للمواطنين، وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم حتى لا يُتركوا لقمة سائغة في يد كل تمساح لا يهمه من السياسة إلا صوت المواطن المغلوب على أمره الذي يوصله إلى منصب المسئولية ومركز القرار فيدافع عن مصالحه الشخصية ويهمل مصالح المواطنين، وتضيع بذلك مصالح الوطن. إن المجتمع المدني ينبغي أن يتحمّل مسئوليته التاريخية ويقود ثورة اتجاه هذه الأحزاب المتهالكة يدعوها فيها إلى تجديد خططها الاستراتيجية، وبرامجها السياسية، حتى تجدّد بذلك نخبها وهياكلها، أو تعتزل السياسة وتخرج من هذا المشهد السياسي الذي أضحى ينذر بكوارث اجتماعية لا قبل للدولة باستيعابها. أجل، فإن دور المجتمع المدني اليوم يكمن في توعية المواطنين، وتأطيرهم، وتكوينهم، والدفع بهم للانخراط في الحياة السياسية لسد الطريق على الدّخلاء على السياسة بغرض الارتزاق وحماية مصالحهم الضيقة، والتي تكون في غالب الأحيان غير مشروعة. هذا الدور – في الأصل – ينبغي أن تقوم به الأحزاب، ولكن لأن الأحزاب تخلّت عنه فإنّ المجتمع المدني هو المنقذ الوحيد من هذا "الضلال السياسي". وفي تقديري، إذا وصلنا في المرحلة القادمة إلى أن نشاهد نوعا من التّدافع بين الجمعيات والأحزاب من أجل تخليق الحياة السياسية، والرقي بالفعل السياسي، بتفعيل مقتضيات الدستور وتنزيلها، خاصة مبدأ ربط المسئولية بالمحاسبة، فإن الوطن سينتعش ويخرج من هذا المأزق الخطير الذي أدخلته إليه القيادات الحزبية الحالية التي نزلت بالخطاب السياسي إلى الحظيظ. وهذا التدافع لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل مجتمع مدني قوي، ومنفتح، ومؤمن بالمقاربة التشاركية .. مجتمع مدني يقترح بدائل حقيقية قادرة على تربية جيل جديد يحافظ على مكتسبات الوطن بالعمل الجاد، وصناعة نخب حقيقية تقود التغيير على بصيرة. وهذا لن يتأتى إلا إذا انفتحت هذه الجمعيات الفاعلة على كل الفرقاء، واستوعبت كل الطاقات، وعملت على تنظيم لقاءات علمية وفكرية يجلس فيها السياسي المحنك إلى جانب العالم بالشريعة، والفقيه في القانون، وعالم الاجتماع، والمحلل النفسي، والخبير في التنمية البشرية و... من أجل الاشتغال على الأسئلة الكبيرة التي أضحت تؤرّق المواطن المغربي، والانكباب على الإشكالات العويصة التي تحول دون تقدّم الوطن، والعمل سويا على إيجاد اليات تسهم في اقتراح مشاريع قوانين وأنظمة ترفع كتوصيات إلى المؤسسة التشريعية، والجهات العليا لتقوم بدورها بإخراجها كقوانين ملزمة من شأنها أن تحفظ هبة الوطن في الداخل والخارج، وتحافظ على ما تبقى من كرامة المواطن الذي يكاد يفقد ثقته في كل شيء.