أعتقد أن تعريف العالِم في الزمن المعاصر وَجَبَ أن ينطلق من أمرين اثنين: الأول: وظيفته التي حدّدها له الشرع الكريم، فالحديث النبوي اعتبر العلماء ورثة الأنبياء، ومهمة الأنبياء بالأساس هي إلحاق الرحمة بالناس وهدايتهم للتي هي أقوم؛ أي إن وظيفة العالم هي وظيفةُ «رحمة» بالدرجة الأولى، وهي رسالة كونية وإنسانية تتوجه إلى الإنسان من حيث هو إنسان. فمن منطلق المنظومة الإسلامية، ينبغي أن يكون العالم المسلم في مستوى طموحات الإنسان، وفي مستوى آماله وآلامه وتطلعاته. وفي هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أن «مستوى الرحمة» من وظيفة العالم هو الجانب المنسي -غالبا- في تفكير العلماء. لأنه غالبا ما يتم تعريف العالم بناء على حاجات المسلم الفقهية والروحية... وهذا الأمر على أهميته، لا يعكس حقيقةً مهمةَ ووظيفةَ العلماء من خلال المنظور الإسلامي. وهنا أشير إلى أن العالم يختلف عن الواعظ الذي يُحرك القلوب ويُحبب الإسلام إلى الناس. ومن الخطأ أن يقتصر العالم على هذا الجانب الذي قد يتمكن منه غيره من الذين آتاهم الله قوة في البيان والخطاب. أما العالم فمهمته الأساسية تتمثل في المساهمة مع كل مدافع عن القيم في هذا العالم، في توجيه بوصلة الحياة المعاصرة بالشكل الذي يعيد للإنسان كرامته وإنسانيته، وللكون رونقه وقداسته. الثاني: رأينا أن وظيفة العالم هي «وظيفة رحمة» بالأساس. إلا أن هذا يبقى أمرا نظريا تصوريا تأسيسيا بالدرجة الأولى. بمعنى آخر، إذا كانت وظيفة العالم المسلم مرتبطة بحياة الناس والكون، فإن هذا يقتضي أن تتوفر فيه مجموعة من المواصفات التي تمكنه من القيام بوظيفته أحسن قيام. وفي هذا السياق أعتقد أن إعداد العالم المسلم المقتنع بوظيفته «الرحموية»، ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار نوعية التحديات التي تحول بين الإنسان وكرامته، وبين الكون وقداسته.. ولكم أن تتصوروا كيف ستكون طبيعة هذا الإعداد؟! فكلما كانت التحديات كبيرة ووجودية كلما كان الإعداد قويا ومركبا، أما إذا كانت تحديات العالِم وشواغله بسيطة، فإن الإعداد لا يعدو أن يكون مجموعة من التعاليم التي ينبغي قضمها ثم هضمها. إذا كانت وظيفة العالم وظيفة «رحمة» كونية، وإذا كان إعداد العالم مرتبطا بطبيعة التحديات المعاصرة، فإن هذا الأمر يقتضي أن يتسلح بكافة الأدوات التي يتيحها العصر من أجل القيام بهذه الوظيفة. ولا أدري كيف يكون العالِم شاهدا على الناس إذا لم يكن على إدراك واسع بلسانهم اللغوي والثقافي؟! في بعض الأحيان يتصرف العالِم -دون أن نعمم- تصرفا يوحي وكأن الإسلام دين فئوي خاص بفئة من الناس! وهذا التصرف لا يتصرفه العالم عن قصد، إنما طبيعة الخلفية الثقافية المركوزة في ذهنه جعلتهُ يولي تصرفه شطر تلك الوجهة؛ بمعنى، إذا أردنا أن نفهم الأسباب التي تقف وراء هذا التصرف ينبغي أن نبحث عنها في الجوانب الثقافية وليس في الجوانب الشرعية. والجوانب الثقافية -أو الموروث الثقافي- عندما تستوطن عقلا ما تتحول إلى آليات تتم من خلالها رؤية العالم.. وتبدو الكثير من المشاكل أشياء طبيعية، رغم أنها غير طبيعية وتعبر عن مرض ثقافي ينبغي معالجته. بكلمات أُخَر، إن تعريف العالم في عصرنا الحاضر ينبغي أن يُحدّد من جديد، وأن يكون المنطلق الأساس في التحديد: - طبيعة المنظومة الإسلامية أو طبيعة (القول الثقيل)؛ أي أن يكون العالم ثقيلا في كافة العلوم الإسلامية والشرعية واللغوية حتى يكون في مستوى القول الثقيل. - طبيعة التحديات المعاصرة أو ما يمكن تسميته بالتحديات الوجودية الثقيلة، التي تواجه بل تهدد الإنسان في وجوده البيولوجي كما في وجوده الثقافي والقيمي.. وهذا يقتضي أن يكون العالم (لأنه من ورثة الأنبياء) ثقيلا على كافة المستويات الثقافية والفكرية والحضارية والوجودية... إن هناك أوراما ثقافية كثيرةً وَجَبَ استئصالها حتى يتمكّن العالِم من تبديل رؤيته لنفسه وللعالَم؛ ليُعانقَ بذلك رؤيةً تكون منسجمة مع روح الإسلام، وتستجيب لصرخات الإنسان في عالمنا المعاصر.