أيام قليلة تفصلنا عن عملية الإحصاء العام كموعد هام لا يتكرر إلا بمرور سنوات، موعد يستوجب أن يفرز ما يكفي من المعطيات و تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة بمختلف مجالاتها و بالدرجة الأولى الجانب الاقتصادي و الاجتماعي، ما سيضمن للدولة و مؤسساتها صياغة الاستراتيجية الملائمة لتدبير أمور البلاد و العباد في مستقبل الأيام الحافلة بالرهانات و التحديات، إلا أن كل مخطط يبقى رهين مدى قابلية تنزيله و تحقيقه للأهداف و إجابته على الأسئلة التنموية العالقة أو بمعنى آخر مدى مصداقية الرصد الميداني و التحليل الدقيق لكل البيانات المرتبطة بواقع يعرف الكثير من الاختلالات و التباينات بين العالم القروي و الحضري و بين مجالات ترابية نالت حظها من برامج التنمية و أخرى حكم عليها قدرها و موقعها في مغرب عميق أن تنتظر ما تجود عليها به مؤسسات و أوراش موسمية. وعلى اعتبار مرحلة العلاج تتوقف على نتيجة التشخيص فإن كل السياسات العمومية التي تلت إحصاء 2004 أكدت بالملموس عدم قدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة و عدم ملائمتها للوضعية الحقيقية للمغاربة وقدرتها على تلبية قائمة مطالبهم ذات الأولوية و الضرورة الملحة، مطالب عادية بدون سقف مبالغ عصي على التنفيذ بل يعبر عن تطلعات مجتمعية معقولة تهم مجالات حيوية غير قابلة للتأجيل من قبيل الخدمة الصحية و التعليم و البنى التحتية و فرص الشغل.... من هنا وجب الأخذ بعين الاعتبار الطريقة الأنجع من حيث آليات التواصل المعتمدة سواء عند مرحلة التشخيص و الإحصاء الميداني أو عند مرحلة معالجة المعطيات و رسم البرامج ووضع الأجوبة على الإشكاليات التنموية، فخلاصة آخر إحصاء لم تبلغ مراميها حينما قزمت وضعية ساكنة المغرب من الأمازيغ حيث لم تولي آنذاك المندوبية السامية للتخطيط ما يجب من الاهتمام للغتهم بعدما صنفتهم في مرتبة متأخرة وراء ساكنة تتحدث أو تتواصل باللغة الفرنسية مما اعتبر مغالطة كبيرة في حق مكون هام من مكونات الإنسية المغربية و تراجعا خطيرا من لدن مؤسسة يفترض فيها تحصيل المعطيات كما هي دون زيادة أو نقصان لارتباطها بتدابير ترهن بلادنا لسنوات و عقود، أما أن تتغافل المندوبية السامية معطى واقعي يتعلق بأمازيغ المغرب المنتشرين بالملايين على أرض تافيلالت و جنوب المغرب الشرقي و الريف الغربي و الأوسط و الشرقي و زمور و بلاد سوس و درعة و الأطلس بمجالاته الثلاث و شكلوا العمود الفقري لقيام نهضة عمرانية و ديمغرافية لمدن وحواضر كبرى فذاك تناقض و نزوير لحقيقية أكدتها الوثيقة الدستورية ل2011 كما يؤكدها الواقع المعيشي للمغاربة الأمازيغ في حفاظهم على لغتهم المتداولة، أما الاكتشاف الذي مكن الفرنسية من احتلال الرتبة الثانية في إحصاء 2004 فلا يعدو مجرد إرضاء رغبات أحباء و مريدي ماما فرنسا من الذين تشبعوا بثقافتها حد الإدمان وراحوا يخيطون مغربا على مقاسهم و مزاجهم. ولعل هذا من بين الأسباب التي أسهمت في غياب ذاك التناغم و التلاءم المفترض بين الحالة الحقيقية للمجتمع المغربي و السياسات العمومية المتبعة لأن مجمل البرامج قامت على أساس تعامل مع فئة أولى ناطقة و تتفاعل بالعربية و ثانية بالفرنسية وثالثة تتواصل بالأمازيغية وكأنها أقلية و بالتالي كل المعطيات المتحصل عليها من المناطق الأمازيغية يعتريها النقص و عدم الواقعية وتفتقد لأجوبة حقيقية. لسنا بصدد تصادم لغوي أو عودة للنبش بين ثنايا هوية حسمها دستور عكس كل انتظارات المغاربة بمختلف أطيافهم الفكرية و السياسية و اللغوية و الدينية و المدنية، بل إننا نضع الأصبع عند نقطة في غاية الأهمية تتعلق بالشكل الواجب اعتماده خلال عملية الرصد الميداني و السبل الكفيلة بتحقيق تفاعل حقيقي بين كل المستجوبين و بين المشرفين على هذه المحطة الهامة من تاريخ مغرب أكد جلالة الملك أنه غني بثرواته اللامادية فيما ساكنتة تجد صعوبة في الولوج إلى الخدمات بشكل متوازن و عادل ومن حقها التعبير عن ما يشغلها و الإجابة على أسئلة تتطلب ما يكفي من الاستيعاب و الفهم ما دامت هي الأرضية الرئيسة لإعداد التقارير و تجميع المعطيات و التي على ضوءها يتم تحديد توجهات الدولة و أولوياتها فيما سيأتي من المراحل. بين 2004 و 2014 عقد من الزمن مضى بتحولاته العميقة و أوراشه المفتوحة على أصعدة مختلفة ولعل الجانب اللغوي و ما يرتبط بالمسألة الأمازيغية قد نال حقه من النقاش و التفكير و التجاذب أحيانا بن الفاعلين و المتدخلين، فيما جاء دستور 2011 ليحسم في إشكالية ظلت شوكة في الحلق تؤرق الدولة وتشغل بال مكونات الحركة الأمازيغية وحجرة عثرة في طريق استكمال ورش الإصلاحات، وبالتالي فلا مجال للمغالطة هذه المرة و لا مبرر في القفز على معطى ثابت تاريخيا و جغرافيا فالمرحلة تقتضي الانصهار في تصور و رؤية موحدة يؤطرها الدستور باعتباره أسمى وثيقة ملزمة للأفراد و الجماعات و المؤسسات العمومية بالدرجة الأولى، في مقدمتها المندوبية السامية للتخطيط التي يقع على عاتقها وزر عظيم و مسؤولية جسيمة ترهن مستقبل المغرب. فحذاري من الخنوع لإملاءات الكواليس الخفية و حسابات آخر ساعة لأن المغاربة أجمعوا على لغاتهعم بدون مركب نقص بعدما تعايشوا و تفاعلوا لقرون من الزمن بعيدا عن التصارع و الاصطدام و شكلوا في زمن الحروب الاثنية و الأقليات تجربة نموذجية تستوجب صيانة و حماية هذا التميز المغربي فاللحظة التاريخية التي تمر منها بلادنا تستحق الانتباه أكثر من ما مضى و كل من غرد خارج السرب هو صوت نشاز لا يعبر إلا عن نفسه و لا يعكس الحقيقة بل يسير ضد التيلر الذي ارتضاه المغاربة.