لا تكاد تخلو عبارة "التهميش و الإقصاء" من خطابات السياسيين والنقابيين وكل المثقفين بمنطقة الريف. وهذا أقل ما يمكن فعله بعدما اعتقدوا و اقتنعوا بأن التهميش سياسة نزلت من فوق مفروضة عليهم وعلى أبناء المنطقة بأكملها و ليس لهم يد فيها ولا حول لهم ولا حيلة من اتقائها أو النجاة منها . خطاب استمر عقودا من الزمن وما زال مستمرا، حتى صار محورا رئيسا في جل المداخلات والعروض، خاصة في الحملات الانتخابية حيث الوعود تلو الوعود لإخراج المنطقة من دائرة التهميش القاتل الذي ميز المنطقة عن غيرها وأقحمها ظلما وعدوانا رغم ما تزخر به من مؤهلات طبيعية واقتصادية وبشرية، في دائرة المغرب غير النافع. و لم يعد هذا التهميش مقتصرا على مجال معين وإنما شمل كل المجالات؛ الرياضية والقتصادية والثقافية وحتى الإدارية والسياسية . ربما للقضاء نهائيا على أية فرصة للتنمية . إن هذا الخطاب أيا كان مصدره قد ساهم في صياغة ثقافة جديدة لأبناء المنطقة للانخراط في مسيرة الرفض والاستنكار في إطار هيئات مختلفة. لكن ورغم ذلك تبقى معزولة في ظل بقاء بعض فلول العهد البائد . ففي مجال الاستثمار ما زالت أيادي كثيرة خفية وظاهرة تحاول عرقلة المساطر الإدارية لثني المستثمرين عن الاستثمار في المنطقة مما دفع الكثيرين من أبنائها إلى الاستثمار داخل المغرب النافع حيث يجد كل الترحيب و التسهيلات... مستثمرون كثر، منهم من استكان للوضع السائد وانساق وراء المطالب الملحة للاستثمار خارج المنطقة، ومنهم من رفض وفضل الهجرة خارج الوطن. و وجود فرع المكتب الجهوي للاستثمار بالناظور لا يعدو كونه "وكالة للبريد" لإرسال واستلام "الوثائق". ولا يؤدي أي دور لتسهيل المساطر الإدارية لجلب المستثمرين فأصبح وجوده كعدمه تماما. وفي المجال الرياضي مازال الملعب الرياضي لكرة القدم حلما لم يتحقق بعد وكلما أوشك الحلم على التحقق تظهر مبررات واهية وغير معقولة. ففي المرة الأولى ارتفعت بعض الأصوات على استحياء تنادي بتوسيع ملعب لكرة القدم الحالي بالنظر إلى الساحة الواسعة التي كانت تحيط به. لكن سرعان ما تدخلت آلة الإقصاء لتخرس الأصوات وتطرح بديلا عن بناء المركب ببناء ما أسمته بالمنشأة السياحية(فندق الريف سابقا) علما بأن السياحة شبه منعدمة في المنطقة ولأن المنشأة السياحية هذه لا تساهم في إبراز الكفاءات الرياضية بقدر ما تساهم في نفث سموم الفساد في صفوف شباب المنطقة عبر فتح للعلب الليلية داخلها والإجهاز على طموحاتهم و تحطيم مواهبهم . وجاءت فرصة أخرى لإنشاء ملعب يستجيب للمعايير المعمول بها في بناء الملاعب الكبرى. لكن عادت قوة الإقصاء مرة أخرى تدخلت لتخلق مشكل العقار؛ حيث رفضت وزارة الفلاحة التخلي عن جزء من القطعة الأرضية بناحية العروي المخصصة لبناء المركب الرياضي فيما تركت المجال بل و"تبرعت " - حسب ما بلغنا- ببقع أرضية بناحية بوعرك لبناء فيلات تقام فيها سهرات ليلية .. وما زال المشكل عالقا لحد الآن حول القطعة المذكورة وسياسة شد الحبل هي التي ستسود حتما إذا كان الأمر يتعلق بمنشأة رياضية تجعل من المنطقة رقما صعبا يحسب له حسابه. وربما لو كان الأمر تعلق بملعب في مدن أخرى لانتزعت من أهاليها عنوة و دون تعويض لأن الأمر يتعلق بمشروع تنموي داخل مغرب نافع . وما المخاض العسير الذي أخرج القاعة المغطاة الصغيرة الحجم إلى الوجود رغم مرور عقود عن المطالبة بها خصوصا و أن هلال الناظور (كرة اليد) كان يستضيف الفرق الوطنية في ملعب وجدة الذي يبعد حوالي 150كلم خير دليل على ذلك، لأن ولادة القاعة الخداج ( أي الناقص) كانت نتيجة لجهود أحمد الموساوي حينما كان وزيرا للشبيبة والرياضة. ورغم ذلك فالوزير لم يسلم من انتقادات أبناء البصري على هذا المجهود. فقد ذكر الموساوي لبعض مقربيه أن وزير الداخلية آنذاك عاتبه وخاصمه على فتحه طريقا يربط بين بني سيدال ومدينة العروي لفك العزلة على مجموعة من الجماعات و الأحياء رغم أن من بين الجماعات جماعة إحبوشاتن مسقط رأس الوزير. ولم يعاتب يوما وزراء المغرب النافع الذين حولوا مناطقهم إلى جنان . فإذا لم يكن هذا إقصاء ممنهجا فماذا يمكن أن يسمى؟ و إذا كان السكوت عن خروقات في مجال التعمير ونهب الأموال باعتبار ذلك نخر لجسم المنطقة وموت بطيء لقدراتها ليس إقصاء فماذا يمكن أن يسمى؟.. وهذا ما يحدث للأسف، لأنه لو تعلق الأمر بشيء يمس الدولة وأمنها لكانت السلطة ومن حولها أقرب إلى المطلوب من شراك نعله، ولو علموا بكل ما يدور في خلده وما يرى حتى في منامه. وخير دليل على ذلك، تلك الاعتقالات التعسفية التي شملت المنتمين إلى ما يسمى ب "السلفية الجهادية"، حينما اتهموا بوقوفهم وراء أحداث 16 ماي الأليمة، فامتلأت بهم السجون قبل أن تجمع مخلفات الحادث. بل والبعض من هؤلاء لم تستقر مؤخرته على الأرض حتى احتضنته زنزانة الاعتقال.. فيما يغضون الطرف عن المتورطين عن الكثير من الاختلاسات والاختلالات التي قد تهدد يوما أمن الدولة ... ربما لم يتسع المقام لذكر كل مجال على حدة وبتفصيل، لكن المواطن يدرك أن أصابع صناع القرار على زناد آلة الإقصاء المتجهة صوب منطقة الريف المجاهدة في منظور العالم والمتمردة في منظور الحكام . كل ما ذكر يمكن أن يستساغ إذا كنا ندرك أن هناك عداء حقيقيا غير مبرر للمسؤولين مركزيا تجاه المنطقة. لكون الإقصاء طريقة من طرق الانتقام ، لحرمان المنطقة من حقها في التنمية. لكن ما لا يستساغ وما يعجب له هو أن الإقصاء شمل المنطقة حتى على المستوى السياسي و الإداري . فعلى مستوى الأخير تكون منطقة الناظور آخر من يتوصل بالتقارير والمراسلات والمذكرات، فكم من مذكرة وصلت في آخر السنة بعدما كانت مبرمجة لبداية السنة (التعليم نموذجا). وكم من مبادرة تستحق التنويه في مجالات شتى، تهمش وتعطى فرصا لمبادرات أخرى من خارج المنطقة أقل شأنا . الشيء نفسه يحدث لفروع الشركات بالناظور وفروع الأحزاب والهيئات والقطاعات الخاصة لتستقر النظرة الدونية لطاقات المنطقة في عيون المسؤولين المركزيين في المغرب النافع . وخلاصة القول أن هذا الخطاب المذكور، تمخض عن واقع مرير في حقبة مظلمة من تاريخ المغرب، خولت لأبطالها (أبطال الفترة) بمباركة من سلطات عليا، تقسيم المغرب إلى نافع وغير نافع، وذلك لاعتبارات خسيسة –فيما يبدو- تنم عن حقد دفين للمنطقة، وكأن الأخيرة ليست قطعة من المغرب أو أنها لم تشارك برجالها ونسائها وشيوخها في الذود عن البلاد وبذل الغالي والنفيس من أجل دحر المستعمر الغاشم، إيمانا منهم أن الوطن أسرة واحدة .. وأن الدفاع عنه، دفاع عن هوية كل المغاربة، ودفاع عن الوجود لكل المغاربة . فلم يكن لأبطال الحقبة المظلمة بعدها من مكافأة يقدمونها للمجاهدين الأبطال، غير اجتياح المنطقة مرتين ويفعل فيها الجنود ما فعل صدام في الكويت. إضافة إلى كل ذلك، أصدروا عليها حكما غيابيا بالحيف والتهميش عقودا من الزمن وغرامة تقدر بالملايين كل سنة تنقل إلى المغرب النافع وتصرف على شكل مشاريع استثمارية، بتهمة الدفاع عن جزء من الوطن. ولم يفلح العفو الملكي الصادر في كل مناسبة من إنهاء الحكم الظالم عليها و إخراجها من واقعها الأليم . ورغم ذلك لم يكن الحكم القاسي كافيا بالنسبة لهم بل أصدروا حكما آخر في جلسة استثنائية طارئة، يقضي بالنفي والتهجير لعدد كبير من أبناء المنطقة نحو أوربا، فلم يكن التهجير و تيسير سبله أبدا منحة منهم بقدر ما هو محنة -في اعتقادهم- لحرمانهم من إمكانية التعليم و التعلم خوفا من مزاحمتهم في مراكز الحكم ،في الوقت الذي كان في أعداء المنطقة يشدون على أيدي من والاهم و"بني جلدتهم" من أجل التعلم. ولو علموا أن أنه سيأتي يوم يصبح فيه للمهجرين/ الجالية شأن لما وطئت أقدام الريفيين أرض أوربا ولأصدروا حكما بديلا يقضي بتهجيرهم إلى إفريقيا أو آسيا. وربما إلى أفغانستان تحديدا لو كانوا على علم بما يحدث في المستقبل، ليتابعوا في حالة عودتهم بتهمة الإرهاب .. حقبة من التاريخ لن تنسى بكل ما تحمل من آلام بغير آمال . يبدو أن السياسة المتبعة تجاه منطقة الريف المجاهدة منذ ما يزيد عن أربعة عقود والتي طبعها إقصاء وتهميش وظلم وحيف، نتج عنها واقع أليم ساهم في صنع ثقافة عدائية تجاه الحكومات المتعاقبة و كل المساهمين في صنع القرار، بدأت تتغير شيئا فشيئا منذ بداية العهد الجديد. وتجلت معالم هذا التغيير في الزيارات الملكية المتتالية التي حملت في طياتها إعلانا رسميا عن انتهاء العهد القديم عهد الظلم والإقصاء وبداية عهد جديد يجسد الوحدة الوطنية بكل ما تحمله الكلمة من معاني العدل والمساواة وغيرها من القيم. فكل المدن مغربية، ولكل جهة من المملكة حقها من الاهتمام و العناية، فلا مجال لإثارة النعارات العرقية وغرس ثقافة التنافر والعنصرية بتفضيل جهة على جهة أخرى أو تنمية جهة على حساب جهة أخرى. لكن ورغم الجهود الملكية الرامية إلى جعل المنطقة قطبا اقتصاديا تنال حظها من التنمية التي تستحقها على غرار باقي مناطق المملكة، وإنصافها بعد إجحاف، ما تزال عناصر لم تتحرر بعد من قيود التبعية لسياسة إقصاء المنطقة من دائرة الاهتمام الملكي تعمل في الخفاء لكسر تلك الجهود التي يعلق عليها أبناء الريف عموما وأبناء الناظور خصوصا كل آمالهم