مجلس المستشارين يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي لممارسة الحق في الإضراب    الملك محمد السادس يبعث برقية تعزية إلى الرئيس الألماني على إثر وفاة هورست كوهلر    ورشة عمل بمقر الجامعة العربية حول مكافحة تجنيد الأطفال من قبل الجماعات الإرهابية بمشاركة المغرب    أمطار الخير تنعش آمال الفلاحين بإقليم الحسيمة بعد سنوات الجفاف    اعتداء على لاعبي المغرب الحسيمي داخل القاعة المغطاة بتطوان يثير الاستياء    بنسبة تزيد عن 20%.. الجهة الشرقية تسجل أعلى معدلات البطالة    بورصة البيضاء تنهي التداول بالأحمر    الذهب يسجل مستوى قياسيا مرتفعا مع زيادة الطلب بعد رسوم ترامب الجمركية    وزير النقل: 32 مليون مسافر استقبلتهم مطارات المغرب خلال 2024    رئيس سوريا يؤدي مناسك العمرة    "نقابة UMT" توضح قرار الانسحاب    الشرطة الهولندية تلقي القبض على البطل العالمي بدر هاري في أمستردام لهذا السبب    لجنة الأخلاقيات تعاقب دومو والشرع    "لاتسيو" الإيطالي يعلن ضم بلحيان    أكثر من مليوني مغربي يرتادون السينما في 2024 وعائدات تصوير الأفلام الأجنبية ترتفع إلى 1.5 مليار درهم    "بوحمرون" يستنفر المدارس بعد العطلة .. والوزارة تتمسك بتدابير صارمة    الوزارة تكشف عائدات السياحة بالعملة الصعبة في سنة 2024    إسبانيا.. بدء محاكمة روبياليس في قضية "القبلة" المثيرة للجدل    تبون يهدد المغرب والمملكة المغربية تبقى أقوى وبأعلى درجات الجاهزية    شركة 'اوبن ايه آي' تكشف النقاب عن أداة جديدة في 'شات جي بي تي'    الرباط: انطلاق أشغال المنتدى الإفريقي للأمن السيبراني    المهاجم المغربي الشاب إلياس داو ينضم إلى نادي أندرلخت البلجيكي    انتشار داء "بوحمرون" على طاولة المجلس الحكومي    ماسك: ترامب وافق على إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية    ثورة علمية : رقاقات قابلة للزرع لعلاج قصور القلب    "أمر دولي" يوقف فرنسيا بمراكش    مقاييس التساقطات المطرية المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    مبادرة توزيع أغطية في باب برد تروم لتخفيف معاناة مشردين مع موجة برد قارس    …وأخيرا ، حَسُنتْ ليبِرالِيَّتكُم السيد الرئيس!    "وول ستريت جورنال": رسوم ترامب الجمركية أغبى حرب تجارية في التاريخ    "دوغ مان" في طليعة شباك تذاكر السينما بأمريكا الشمالية    تسويق أدوية مهربة يطيح بعصابة إجرامية في مراكش    تاونات أكثر المدن إستقبالا للأمطار في 24 ساعة    سناء عكرود تعرض فيلم "الوصايا" عن معاناة الأم المطلقة    خيرات تدخل السايح إلى المستشفى    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المندوبية السامية للتخطيط: إحداث 82 ألف منصب شغل في المغرب سنة 2024    سكتة قلبية مفاجئة تنهي حياة سفيان البحري    مستحضرات البلسم الصلبة قد تتسبب في أضرار للصحة    أطباء مختصون يعددون أسباب نزيف الأنف عند المسنين    استئناف محاكمة أفراد شبكة الاتجار الدولي بالمخدرات التي يقودها رئيس جماعة سابق    وفاة سفيان البحري صاحب صفحة تحمل اسم الملك محمد السادس    تفشي بوحمرون : خبراء يحذرون من زيادة الحالات ويدعون إلى تعزيز حملات التلقيح    بعد توتر العلاقات بين البلدين.. تبون يدعوا إلى استئناف الحوار مع فرنسا "متى أراد ماكرون ذلك"    "لحاق الصحراوية 2025".. مغربيتان تتصدران منافسات اليوم الأول    بعد "بيغاسوس".. إسرائيل استعملت برنامج "باراغون" للتجسس على صحفيين وناشطين على "واتساب"    جولة في عقل ترامب... وهل له عقل لنتجول فيه؟    الصين: عدد الرحلات اليومية بلغ أكثر من 300 مليون خلال اليوم الرابع من عطلة عيد الربيع    كأس العالم لكرة اليد: المنتخب الدنماركي يحرز اللقب للمرة الرابعة على التوالي    النجمة بيونسيه تفوز للمرة الأولى بلقب ألبوم العام من جوائز غرامي    ارتفاع تحويلات مغاربة العالم    ابن تطوان "الدكتور رشيد البقالي" ينال إعجاب علماء كبار ويظفر بجائزة عالمية في مجال الفكر والأدب    الإرث الفكري ل"فرانتز فانون" حاضر في مهرجان الكتاب الإفريقي بمراكش    تطوان تحتفي بالقيم والإبداع في الدورة 6 لملتقى الأجيال للكبسولة التوعوية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإيمان أساس العمران..
نشر في ناظور سيتي يوم 17 - 06 - 2012

يُشكلُ الإيمَانُ جَانِباً مُهِماً من جَوَانِبِ الْحَيَاةِ الإسْلاَميةِ، بَلْ هُوَ قِوَامُهَا الأسَاسُ، وَالأَصْلُ الذِي تَقُومُ عَلَيْهِ. إنهُ النورُ الذِي يُضيءُ الطرِيقَ للخَلْقِ، وَيَهدِيهمْ إلى الْحَقِ، وَيُوقِظُ فيهم شُعُوراً أَسْمَى بِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الخَالقِ وَالكَوْنِ وَأفرادِ النوع الإنساني مِنْ عَلاَقاتٍ مُتَعددةٍ ... هَذَا الإيمانُ حِينَ يستقر في قَلبِ المُؤْمِنِ، ويصدقهُ الْعَمَلُ، لاَ شَك أنهُ يُثْمِرُ فَضَائلَ إنسانيةً عُلْيَا، وَقِيماً كَوْنِيةً ساميةً، ويكون خيرا على صاحبه، وعلى الجماعةِ المؤمنةِ، كما يكونُ سَبباً قَوياً في سعادةِ الفردِ في الدنيَا والآخرةِ. وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأن الإيمانَ أساسُ العمرانِ.
وبالنظرِ إلى أهميةِ الإيمانِ ومكانتهِ في المنظومةِ الإسلاميةِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الشرْعِ الحكيمِ اسْماً لِجَمِيعِ فُرُوعِ الدين، كَمَا جَاءَ فِي الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام مسلم في صَحِيحِهِ "الإيمانُ بِضْع وسبعونَ أو بضع وستون شُعْبةً، فأفضلها قولُ لا إله إلا الله وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان". ثم إن الإيمان في المنظور القرآني قد يتسع ليشمل جميع العقائد والعبادات والأخلاق والآداب وسائر المعاملات ... وبهذا المفهوم يُصبحُ الإيمانُ أساسَ الْعُمْرَانِِ.
مِنَ المَعْلومِ أن عِلْمَ التوحيدِ الإسلامي باعتبارهِ أَسَاسَ الإيمانِ، والشعبةَ الرئيسةَ في بنائه العام، له فَضْل عَلَى سائرِ العلومِ، لأنهُ أصل ينبي عليه الإسلامُ، ولأنه من أسباب السعادة الأبدية بالخلود في الجنان، والنجاة من النيران، ولو لم يكن لهذا العلم الإسلامي إلا هذه الفضيلة لكفى.
ثم إن علم التوحيد إنما شرف بشرف موضوعه الذي يشتغل عليه، ألا وهو معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته، ومعرفة رسله عليهم الصلاة والسلام، ومعرفة قواعد الإيمان وأصوله، وهذه المعرفة الشرعية المسددة من شأنها أن تفضي بالمكلف إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وترفعه إلى مقام العبودية المطلقة لله عز وجل، وهذا هو المقصد الأعظم من خلق الإنسان، قال تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56] وهو من حقوق الله على عباده، كما ورد في الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله ؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا. (1)
وإذا كان مقررا أن علم التوحيد الإسلامي هو أشرفُ العلومِ لكونه متعلقاً بذاتِ الخالق عز وجل، وَذَوَاتِ رسله عليهم الصلاة والسلام أولا، ولكونه أساسَ العلوم الشرعية ومرجعَهَا الأساسَ الذي تبنى عليه ثانيا، فإن فائدتَهُ العمليةُ تَظْهَرُ أيضا من خلال تحقيق المقاصدِ العقديةِ الآتية:
أولا: بالنظر إلى الشخص في حد ذاته:
يتمثل في القيام بفرض مجمع عليه ألا وهو معرفة الله تعالى بصفاته الواجب ثبوتها له سبحانه وتعالى، مع تنزيهه عما يستحيل اتصافه به، والتصديق برسله عليهم الصلاة والسلام على وجه اليقين الذي تطمئن به النفس اعتمادا على الدليل لا استرسالا مع التقليد. ومن ثم يترقى الموحد من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان، إذ من شروط المعرفة الشرعية: الجزم، والمطابقة للواقع، وكونها ناشئة عن دليل.
ثانيا: بالنظر إلى تكميل الغير:
ويتجسد في إرشاد المسترشدين بإيضاح المحجة، وإلزام المعاندين بإقامة الحجة عليهم. وهذا يعني أن من مقاصد علم التوحيد الرد على الشبهات، وهذا يتحقق بشروط يجملها الإمام جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس بقوله:" وأما القيام بدفع شبه المبتدعة فلا يتعرض له إلا من طالع علوم الشريعة، وحفظ الكثير منها، وفهم مقاصدها وأحكامها، وأخذ ذلك عن الأئمة وفاوضهم فيها، وراجعهم في ألفاظها وأغراضها، وبلغ درجة الإمامة في هذا العلم بصحبة إمام أو أئمة أرشدوه إلى وجه الصواب، وحذروه من الخطأ والضلال، حتى ثبت الحق في نفسه وفهمه، ثبوتا قوي به على رد شبه المخالفين، وإبطال حجج المبطلين، فيكون القيام بدفع الشبه فرضَ كفاية عليه، وعلى أمثاله حينئذ، فأما غيرهم فلا يجوز له التعرض لذلك، لأنه ربما ضعف عن رد تلك الشبهة وتعلق بنفسه منها ما لا يقدر على إزالته، فيكون قد تسبب إلى هلكته وضلال، ونسأل الله العصمة.(2)
ثالثا: بالنظر إلى أصول الإسلام:
وهو حفظ قواعد الدين، أي عقائده من أن تزلزلها شبه المبطلين. وهذا مقصد شرعي عظيم.
رابعا: بالنظر إلى فروع علم التوحيد:
وهو أنه تبنى عليه العلومُ الشرعيةُ كُلهَا، إذ هو أساسُهَا، وإليه يؤولُ أخْذُهَا، واقتباسُهَا، إنه بدونِ معرفةِ الخالق عز وجل بصفات الجلال والجمال، وأنه أرسل الرسلَ وأنزلَ الكتبَ لم يُتَصَورْ وجودُ علمِ التفسيرِ وَعِلْمِ الْحَديثِ وَلاَ عِلْمِ الفقهِ ولا أُصُولِهِ، ومن ثَم تَظهرُ فائدةُ علمِ التوحيد وأنه مرجعُ جميع العلوم الإسلامية.
خامسا: بالنظر إلى الشخص في قوته العملية:
وهو تصحيح النيات والإخلاص في العمل، إذ بصحة النية والاعتقاد يُرْجَى قَبُولُ العملِ وَحُصُولُ الثوابِ.
إن هذه الفوائد تنتهي كلها بالإنسان إلى تحقيق الفوز بسعادة الدارين، وهذا الفوز مطلوب لذاته، وهو منتهى الأغراض والنيات، وغايات الغايات.(3)
ثم إن معرفة الله تعالى كما يقررها الشرع الحكيم من أول ما يجب على العاقل البالغ معرفته شرعا، لأنه لا يمكن أن يأتي الإنسان بشيء من المأمورات امتثالا، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات انزجارا إلا بعد معرفة الآمر الناهي عز اسمه.
لقد أرسل الله جميعَ الرسل، ونزلَ جميعَ الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى:"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 25] وقال عز وجل:"وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ " [الزخرف: 45] وقال سبحانه وتعالى:"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل: 36]
وقال سبحانه وتعالى :"يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" [المؤمنون: 51-52]
وقد جاء الإسلام يقرر أن الدين الحقَ واحد، هو وحيُ الله تَعَالَى إلى جميع أنبيائه، وهو عبارة عن الأصول التي لا تتبدل بالنسخ، ولا يختلف فيها الرسل، وهي هدىً أبداً. (4)
إن علمَ التوْحيدِ بالصورَةِ التي يُقررهَا الإسْلامُ عظيمُ الفائدةِ للجنسِ البشري، لأنه يَجْمَعُ البشرَ كلهم حول إله واحد، وفي ذلك توحيد اتجاههم وغرس نظام الأخوة بينهم. وأما تفرقُ الآلهةِ فمعناه تفرقُ البشرِ، وذهابُ كل فريقٍ إلى التعصبِ لما وجه إليه قلبَه، وفي ذلك خسارة للبشرية وفساد للنظام.(5)
ليس هذا فحسب، بل من مقاصد علم التوحيد العظيمة تحرير الإنسان من العبودية لغير الله تعالى، وتحرير العقل من التقليد والأوهام والخرافات، والإسهام في تربية الضمير وتهذيب السلوك والأخلاق، ومن شأن هذه الثمار أن تجعلَ الإنسانَ المسلمَ صالحاً لأمته ووطنه، بعيدا عن ثقافة الغلو والتنطع التي حذرَ منها الدينُ الإسلامي الحنيفُ.
إن الإيمانَ بالله سبحانه وتعالى الذي يعني التصديقَ بوجوده سبحانه، يقوم على ثلاثة أسس وهي: العلم بما يجب له سبحانه وتعالى من صفات، والعلم بما يستحيل عليه سبحانه، والعلم بما يجوز في حقه سبحانه وتعالى. (6)
ثم إن مضمون هذه المعرفة الشرعية بمستوياتها الثلاثة السابقة ترشدنا فقط إلى التعرف على الله تعالى من خلال صفاته، دون الإحاطة بذاته سبحانه وتعالى، لأن معرفةَ حقيقة الذات الإلهية كما هي في واقعها الوجودي المتعالي أمر لا ترقى العقول إلى إدراكه. إننا نستطيع أن نثبتَ بالأدلةِ العقيلةِ والشرعيةِ الوحدانيةَ المطلقةَ لله تعالى، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نُحِيطَ بحقيقة الذات الإلهية، لأن حقيقةَ الذات المقدسة أكبرُ وأعظمُ من أن تحيط بها عقولُنَا القاصرةُ بطبيعتها.
إن الإنسانَ المسلمَ يكفيه في هذا الموضع الخطير أن يردد قوله تعالى:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" [الشورى : 11]. وقوله جل شأنه : "وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً" [طه: 110]
إننا في دراستنا لقضايا التوحيد، وبالضبط في الجانب الإلهي منها لا نطمح أبدا إلى معرفة حقيقة ذاته سبحانه وَكُنْهَهَا على نَحْوِ ما هي عليه، ذلك أن طبيعةَ إدراكاتنا وقصور عقولنا لا تسمح لنا بولوج عوالم الغيب والإحاطة بها، بل كل ما في الأمر أننا نتعرف على الذات العلية للخالق عز وجل من خلال صفاته وإبداعه وخلقه. إن العقل – كما يقول ابن خلدون- " ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمح أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثل رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يُدرك، على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه، وتفطن في هذا لغلط من يقدم العقل على السمع، في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه وضمحلال رأيه..."(7)
والذي ينبغي للمسلم اعتقاده في هذا الموضع على سبيل الإجمال هو أن يعلم " أن ذات الله تعالى توصف ولا تدرك، فالله سبحانه وتعالى خالق الكون، وطبيعة الخالق مخالفة لطبيعة المخلوق، كما يختلف النجار عن الباب الذي يصنعه، وعلى هذا يرشدنا القرآن إلى معرفة الله بآثاره الدالة على صفاته، وكمال جلاله وجماله، وتنزهه عن المماثلة لخلقه، أو الاتحاد أو الحلول في شيء مما خلق، وأوصد أمام الإنسان بابَ التطلع إلى معرفةِ حقيقته وذاته، وصرفه عن محاولة التفكير في هذا الباب ... والعجز عن إدراك حقيقة الذات الأقدس عقيدة من عقائد الإيمان بالله، وهو نفسه برهان على سمو الألوهية الحقة عن الدخول في دائرة التفكير العقلي المحدود بطبيعته، والذي لا يجد مجالا لتخطي ما وراء الكون.(8)
وقد جاء القرآن الكريم مقررا هذا المعنى، قال تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وقال جل شأنه:" لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " [الأنعام: 103]. وقال أيضا: "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً". [طه: 110]
وإلى هذه المعاني السامية المتعالية يشير ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة رسالته بقوله:" لا يبلغ كنه صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته، ولا يتفكرون في مائية ذاته" يقول القاضي عبد الوهاب بن ناصر البغدادي في تعبيقه على هذا النص:" فأما اعتبار المتفكرين بآياته: فهو استدلالهم على وجوده بأفعاله وآثار صنعته، وتقدمه على إحداثه لخلقه..." (9)
ويقول العلامة المغربي جَسوس في شرحه لعبارة ابن أبي زيد القيرواني:"... وبالجملة فعجز الخلق عن الإحاطة بعظيم كبريائه، وباهر جماله، وعلي جلاله، بل عجزها عن عجائب صنعه في مخلوقاته يكاد أن يكون معلوما من الدين ضرورة، فإذاً لا يعرف اللهَ إلا اللهُ كَمَا قال سفيانُ وقاله الجنيدُ وَمَضَى عَلَيْهِ مُحَققُو الأُمةِ..." (10)
وَصفوةُ الكلامِ فَإن العُمْرانَ الذي يتأسسُ على الإيمانِ يكونُ لهُ فضل كَبير عَلَى العُمْرانِ الذي يَنْشَأُ بَعِيداً عَنْ قَواعِدِ الدينِ الحَق، التي تَجْعَلُ الإنسانَ المؤمنَ يُقبلُ على العملِ الصالِحِ مِنْ أَجْلِ الحُصُولِ عَلَى الثوَابِ، وَهَذَا الْعَمَلُ تَكُونُ لهُ انْعِكَاسَات إيجابية عَلَى المجتمع. لقد تحدثَ الإسلامُ عن أمورٍ بسيطةٍ، ولكنها في الوقت نفسه تؤسسُ لأمورٍ عظيمة، تتمثل فِي الرغْبَةِ فِي إسْعَادِ العُمْرَانِ البشري. إن الدعوةَ إلى إمَاطَةِ الأذَى عَنِ الطرِيقِ، وهو الشعبةُ الأخيرةُ من شُعَبِ الإيمان، وثمرة من ثماره. قد يبدو أمرا بسيطا، ولكنه في الواقع يُعبرُ عَنْ مستوىً حضاري لأُمٌَةِ الإيمانِ، حيث يُسْهِمُ كُل فردٍ من أفرادِ الجماعةِ المؤمنةِ بِدَافِعِ الإيمانِ في الحِفَاظِ عَلَى طَهَارَة الْعُمْرَانِ البشري.
الهوامش:
(1) صحيح مسلم 2/6 الحياء شعبة من الإيمان.
(2) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس3/1283 تحقيق د عبد الحميد لحمر، طبعة دار الغرب الإسلامي بيروت الطبعة الأولى 2003.
انظر أيضا الذخيرة للقرافي 13/223 تحقيق الدكتور محمد حجي طبعة دار الغرب الإسلامي بيروت الطبعة الأولى 1994 .
(3) كتاب المواقف للإمام عضد الدين عبد الرحمن الإيجي بشرح الجرجاني 1/41 تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة دار الجيل بيروت، الطبعة الأولى 1997
(4) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية الشيخ مصطفى عبد الرازق، ص 269.
(5) رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، الصفحة: 138.
(6) التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في تفسير الكتاب العزيز، لأبي علي عمر بن محمد السكوني 1/65
(7) مقدمة ابن خلدون 3/968 تحقيق د. علي عبد الواحد وافي.
(8) مقارنة الأديان الإسلام أحمد شلبي ص 105.
(9) شرح عقيدة بن أبي زيد القيرواني، ص 165
(10) شرح توحيد الرسالة للشيخ محمد بن قاسم جسوس 2 /387 دراسة وتحقيق الأستاذة إحسان النقوطي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.