ما النتائج المستخلصة من أحداث 57-85 ؟ ، تلك هي العبارة التي عنونت المحاضرة التي جمعتنا بالأستاذ علي الإدريسي بالرباط، والتي تفرع فيها النقاش وتشعب ، وحال الوقت دون أن نستوفي الموضوع حقه، لكن الأهم من كل ذلك هو أن هذه الندوة دفعتنا للتفكير في بعض القضايا التي تهم الريف، وبالخصوص لمواصلة النقاش في الإعلام مع الأستاذ الإدريسي ، لعل الأمر سيكون أكثر فائدة ولنشارك معنا أكبر عدد ممكن ممن له اهتمام بهذا الشأن. ونظرا لأن موضوع الندوة كان هو استخلاص النتائج من أحداث مضت، فقد استمعت للأستاذ الإدريسي بإمعان، لأرى ما استخلصه من الأحداث التي شهدها الريف، لكني وجدتني مع احترامي للأستاذ أمام خطاب روج له كثيرا وتكرر على أسماعنا مرارا، ولم يجعلنا نفهم أو نتبين بشكل واضح حقيقة ما يقع في الريف، وهو نفس الأمر يقع لغير الريفيين عندما يحاولون تفسير هذا الغليان والاحتقان الذي تعرفه مناطق الريف، إذن هناك ثغرة ما وجرح ما لم نضع عليه اليد بعد. طبعا الإدريسي أكد على ضرورة الميل إلى العمل السلمي، لأنه لا شيء يميز الريفيين عن المغاربة، بل ورفض قولا لي بوجود هوية ريفية قائمة بذاتها، كما دعا إلى العمل من خلال الأحزاب، لان الريف كباقي جهات المغرب، وان ما يعرفه الريف من أحداث أليمة هي مجرد نتاج لتصفية الحسابات من طرف الدولتين اللتين كانتا مستعمرتين للمغرب بالتحديد فرنسا واسبانيا، وأقام كلامه هذا على أساس انه لا وجود لحقيقة مطلقة في التاريخ، بل كل ما نفعله أننا نقدم قراءتنا الشخصية للتاريخ. هنا فكرت وقلت مع نفسي ربما هناك قراءة أخرى لهذا التاريخ، ليس بالضرورة هي قراءة أستاذنا الإدريسي، وتنطلق هذه النظرة الأخيرة من محاولة تحديد المصطلح المستعمل لاستخلاص نتائج أحداث الريف الأليمة، ولعل أبرز هذه المصطلحات هو مصطلح "الريف" باعتباره المسرح الحاضن لهذه الأحداث، و"الريفيين" باعتبارهم الفاعل الأساس المعني بهذا الموضوع. فنقول ماذا نعني بالريف، وتبعا بذلك نتساءل عن المقصود بالريفيين؟ هل نعني به لغة، هي اللغة الريفية؟ هذا افتراض، إن حاولنا التفكير من خلاله في الريف واستعمالاته المختلفة سنجد انه يتعدى ذلك، نظرا لكون فئات واسعة من الناس لا تمتلك أو لا تتحدث باللسان الريفي لكنها بالرغم من ذلك فهي تعتبر نفسها ريفية أو تسكن الريف، أو تعتبر الفضاء الذي تقطنه تابعا للريف، وهذا حال بعض مناطق جبالة وغيرها، إذن ربما هناك معنى آخر. لنفترض أن لفظة الريف يقصد بها فضاء جغرافيا، لكن هذا الفضاء أشبه ما يكون بفضاء هلامي، ذا طبيعة مطاطية، يتمدد حينا فيغطي مجالا أوسع، ويتراجع أحيانا ليقتصر على فضاء مخصوص، وذلك حسب الظروف التاريخية، وحسب فهم معين للفاعلين السياسيين بالريف وغيره، كما أن الريفيين تقال على أناس يقطنون خارج هذا المجال المذكور، ونتعامل معهم بنفس المعنى، كريفيي المهجر مثلا. إذن فالبعد الجغرافي لا يفي بالغرض، على الأقل وهو مختزل. لنتخيل الريف كمرادف لعرق معين، ستكون النتيجة غير محمودة أيضا، أو ربما لن نصل إلى النتائج التي نتوخاه، وهي الفهم، فهم ما حدث ويحدث في الريف، ذلك أننا لسنا بصدد القيام بتحليل للدماء، لنقول هذا صاحب دماء زرقاء، وآخر ذا دم أحمر كباقي المخلوقات، لان هذه نظرة ذوي الأفق الضيق، ذلك لان الأمر لا يعني الريف فقط، بل كل الأمم الأخرى ينطبق عليها هذا الأمر. هل نقصد بالريف إذن تاريخا ما مشترك لجماعة إنسانية ؟ لاشك أن هذا الأمر كذلك لحد ما، لكن هذا التاريخ المشترك الذي نتحدث عنه لا يخص الريفيين وحدهم، بل اشتركوا فيه في أحد جوانبه مع أمم أخرى، مع الأوروبيين، مع أهل الشرق، مع المغاربة، وكذلك مع أهل إفريقيا، إذن فالتاريخ المشترك هو مقيد بالفترة الزمنية التي نتحدث عنها، وهو تفاعل مستمر يصعب الإمساك به، بالرغم من وجود تاريخ مشترك يجمع أهل الريف على رموز وقيم وملاحم سطروها بدمائهم معا دفاعا عن شيء ما يجمعهم ضد الأجنبي. هل نقصد بالريف جماعة دينية أو جماعة بشرية تدين بدين معين مخصوص؟ العقيدة ليست شيئا ثابتا في التاريخ، فقبل أن يكون هناك الإسلام، كانت هناك أنماط أخرى من الاعتقاد، وبعد مجيء الإسلام، ظلت هناك رؤى مختلفة يأخذ بعض من يطلق عليهم بالريفيين، ولم يسقط عليهم ذلك هذا الاسم، أي كونهم لا يدينون بدين الأغلبية، لا يجعلهم شيئا آخر غير الريفيين، إذن لاشك أن الأمر فيه قصور، وان الدين لا يمكن مرادفته بلفظة الريفيين أو الريف. لعلنا نقصد بالريف تلك الإرادة الجماعية لجماعة بشرية تقطن حيزا مطلا على البحر المتوسط، أي إرادة سياسية في العيش المشترك وفق تصور يستعير مشروع محمد بن عبد الكريم الخطابي والذي يعود إلى بدايات القرن الماضي، وهذا أمر نخبة، أو على الأقل ليس أمر عليه إجماع، ولا يفترض أن يكون كذلك، بل ما نريد أن نقوله هو انه غير كاف للقول بأنه هو الذي يملأ لفظة الريف بدلالتها المقصودة في خطابات الفاعلين السياسيين،ذلك انه بالإضافة إلى ما سبق فالريف كان قبل أن يكون مشروع مولاي موحند. هل نقصد بالريف والريفيين نمطا من السلوك الحياتي، وأسلوبا في الحياة، حيث يتميزون فيه بغيرهم في اللباس والمعمار وطرق الرقص وفن العيش..الخ؟ لاشك أن الأمر جائز لحدود معينة، وهو أنه ثمة ثقافة مشتركة لجماعة إنسانية تسمى بالريف أو الريفيين، لها طريقة في العيش متميزة عن غيرها وزائر الريف سيلاحظ ذلك، أو على الأقل أن ساكنة الريف يلاحظون أمور غريبة عن عاداتهم وسلوكهم في الحياة عندما يأتي شخص أجنبي - أو خارج جماعتهم الثقافية- عما ألفوه في حياتهم اليومية. بأي نتيجة خرجنا من كل هذا؟ لاشك أننا رأينا أن كل هذه المحددات التي أتينا على ذكرها سابقا ترادف لفظة الريف والريفيين في جانب منها، وإن كانت لا ترادفها –أي لفظتي الريف والريفيين- جملة وبشكل جامع ومانع، وهذا ما يجعلنا نقول بأنه ثمة مصطلح عام وشامل هو الوحيد الذي يمكن أن يفسر لنا ماذا نقصد بالريفيين أو بالريف، يجمع كل هذا الشتات الذي لا تجمعه إحدى الخواص التي ذكرناها، وهو مصطلح " الهوية ". نستطيع إذن الآن القول بأنه ثمة "هوية ريفية"، مثلما هناك هويات أخرى لباقي الجماعات الإنسانية، هوية لها خصوصيتها ومميزاتها عن غيرها، وتستطيع ان تفسر لنا ما يحدث في الريف أكثر من غيرها، ومن خلالها سنستخلص نتائج أوضح وأكثر دقة من تاريخنا في الريف، وهي التي تترك الريفيين مع كثرتهم ليسو إلا هم. فالصراع الدائر في الريف، هو صراع هوية من أجل الوجود، فمحاربتنا للأسبان والفرنسيين كانت على أساس الذود عن هوية مهددة بالمسخ الأجنبي الذي أتى محاولا فرض طرقه في العيش والحياة ورؤيته للعالم وللإنسان، ولخصها في مقولته التي زعم انه لم يأتي غازيا إلا لنشر الحضارة، وقد رجع الأسبان والفرنسيين من حيث أتوا، لتجد "الهوية الريفية" نفسها أمام هوية أخرى أو بالأحرى أمام هويات أخرى بصيغة الجمع، تحاول كل منها تقديم نفسها أنها الأحق بالتعبير عن هذه الجماعة الإنسانية -الريفيين- التي دافعت بالأمس عن نفسها، وذلك من خلال استعمال الدين أو فرض لغة أجنبية على الريفيين في المؤسسات المستحدثة أو من خلال قتل الإرادة السياسية للريفيين، أو من خلال تزوير تاريخهم، أو تنصيب أبطال ورموز وهميين..الخ. هذا ما ولد ولا يزال صراعا، أرى انه أبدي وباق ما بقيت أسبابه، صراع بين هوية اشتعلت فيها غريزة البقاء وتستعمل كل الطرق من أجل الحفاظ على ذاتها أمام الهويات المتصارعة على هذا المجال الجغرافي، لذلك لا داع لان نكذب على أنفسنا قبل غيرنا بان هذه الأحداث افتعلها المخزن أو بعض الأطراف لتصفية الحسابات، لان ذلك تسفيه لتضحيات رجال ضحوا بحياتهم من اجل الريف والريفيين، ويجعل نضالات الريفيين كأنها مجرد تهريج أو تصور الريفيين كمجرد لعبة في أيدي غيرهم تحركهم متى شاءت ولأغراض خارجة عن مصلحة الريف والريفيين، كما انه لا داع للتخويف من أن البعض يستغل دفاعنا عن حقوقنا، لان أي فعل قمنا به أو مبادرة أو أي شيء من هذا القبيل، فانه سيتعارض أو سيذهب في مصلحة طرف معين في كل الأحوال، ومع ذلك لا يعد هذا أبدا كسبب للوقوف وقفة متفرج ، الوضعية التي يدعونا إليها الأستاذ الإدريسي قائلا بان ذلك اضعف الإيمان. فالعصر ليس عصر ضعيفي الإيمان، لان ذلك مدعاة لموتنا ولخروجنا من التاريخ، إنما العصر هو عصر الذود عما يشكلنا نحن، والإيمان بقضيتنا العادلة، وإلا فعلى أستاذنا الإدريسي ان يكف عن الحديث عن شيء اسمه الريف أو الريفيين، وليتحدث عن مغاربة فقط ويشطب على مصطلح الريفيين من قاموسه، إن كان الأمر كما يقول بأنه لا وجود لتمايز بين الريفيين وغيرهم، ولا هوية لنا في الريف، لان ذلك سيكون منسجما أكثر مع خطابه. إن الدفاع عن هويتنا الريفية لا يعني بالضرورة إذكاء نار الفتنة، أو حمل السلاح، أو نصب العداء للهويات الأخرى التي نتقاسم معها فضيلة الجوار كما قد يضن البعض أو يحاول أن يجعل الناس يضنون الأمر كذلك، بل إننا فعلا جيل يؤمن بالعمل السلمي، وبالنضال الديمقراطي من اجل حق عادل ومشروع، وهو أن نحيا كما نحن، بتاريخنا، بأحلامنا، بلغتنا، وثرواتنا،..الخ. كما أنها ليست دعوة للانفصال، بل هي دعوة لاحترام خصوصيات الشعوب، فليس من الضروري أن يفهم العالم فلسفتنا في الحياة بالريف، لأننا لسنا مطالبين بفهم أنماط عيش كل شعوب العالم، بل من الضروري أن يحترموا تلك الفلسفة، كما نحترم نحن أسلوب حياة الشعوب الأخرى، وندافع عن حقهم في ذلك، أي الرفع من قيمة الاحترام كعامل مساعد لتعايش أفضل بين الشعوب. وكفى من القراءات التي تزيد الغموض غموضا، ولنحمل المسؤولية لمن تقلدها حقيقة، ذلك أن إلقاءها على الآخر ليس في كل الأحوال هروب من مسؤولياتنا، بل نحن نعترف أننا مقصرين في حق قضيتنا، لكن هذا لا يزكي ما اقترفه الآخرون في حقنا. وأنا أسجل بعد كل هذا أن اكبر نتيجة مستخلصة مما عرفه الريف من أحداث، هو أن الفاعلين فيها لم يرافق عملهم الفعلي مجهود نظري، لدرجة أننا عندما نقرأ عن تلك الحقب من زمن الريف، لا نجد في الغالب إلا أحداثا ووقائع متفرقة، ولا نجد إرثا نظريا صاحبها، عكس ما نجده لدى الجماعات الإنسانية الأخرى التي بنت مشروعها نظريا واصلت له فكريا قبل الانتقال إلى تطبيقه عمليا وامتحانه واقعيا. وفي الأخير أقول أن الدفاع عن "هوية الريف" هو فعل ديمقراطي، يقوم على فلسفة حقوق الإنسان سواء الفردية منها أو التي تخص حقوق الجماعات، وهو فعل له سنده في الواقع أيضا، فبالرغم من أن الهوية كما يقول درويش "هي بنت الولادة" إلا أنها أيضا كما يقول هو نفسه "صناعة صاحبها"، لان مجهودنا وعملنا اليوم هو هوية الأجيال القادمة، إذن فلنصنع الإنسان الريفي، وان لم نستطع فلنحاول الحفاظ على ما تبقى، لا الدعوة إلى الانحلال في الآخر حتى يرضى عنا، لأننا سنكون حينها غير راضين نحن عن أنفسنا قبل غيرنا. هذه انطباعات أولية حول مداخلة الإدريسي، ولنا عودة. *[email protected]