يرى مراقبون ان اتساع دوائر الاحتجاج في المجتمع ضد قرارات حكومية, على مدى الشهور الماضية, هو تعبير عن تغييرات جذرية تجري بين مختلف الفئات الشعبية على خلفية تردي الاوضاع المعيشية بعد الازمة الاقتصادية العالمية وتأثيراتها السلبية على الاقتصاد الوطني, التي ظهرت في قرارات رفع الضرائب ووقف التوظيف والانفاق الرأسمالي. ويرى آخرون ان الاسباب الحقيقية لهذه الاحتجاجات هي سياسية بامتياز, مستشهدين بقرار الاخوان مقاطعة الانتخابات ومواقف المتقاعدين العسكريين واحتجاجات المعلمين التي لم تضعفها استجابة الحكومة لبعض مطالبهم المتعلقة بالرواتب وبالعلاوات, حيث يصرون على انشاء نقابة لهم, يعرف الجميع انها ستعزز مقر النقابات في الشميساني, الذي ظل على الدوام, خلية عمل سياسي في القضايا الداخلية والعربية. الاوساط الحكومية تقلل من اهمية هذه الاحتجاجات, مرة بالاستعانة بلغة من الماضي, يسهل فيها وصف كل محتج ومعارض بانه يعمل لاجندة خارجية, ومرة اخرى, بتصوير التحركات الاحتجاجية بانها محدودة لا تمثل كل العاملين في القطاع المعني, وان الطريقة المثالية لمواجهة هذه الاحتجاجات هو بشقها الى نصفين, وهكذا ظهرت لجان موازية في صفوف المعلمين والمتقاعدين. كما تقلل هذه الاوساط من اي رأي يقول بان ما يجري على الساحة المحلية هو افراز جو عام ضاعت فيه الثقة بين الاوساط الشعبية وبين الحكومات, فما ان يُطرح هذا الرأي حتى يسارع ممثلو الحكومة الى الدفاع عن انجازاتها, وخطابها الداعي لاوسع مشاركة شعبية في الانتخابات والتعهد باجراء انتخابات شفافة ونزيهة, فأمام هذا الانفتاح الحكومي يطرح المسؤولون تساؤلات الدهشة والاستغراب من قيام هذه الاحتجاجات التي تفتقر الى الموضوعية على حد قولهم. في الواقع, على ارضية المشهد السياسي في البلاد, قد تجد اوساط الدولة انه من السهولة انكار وجود مناخ شعبي عام يعيش حالة من التوتر. والاستمرار بالادعاء بان ما يجري من احتجاجات للمعلمين والقضاة والمحامين وعمال المياومة والمتقاعدين العسكريين والصحافيين انما هو بفعل فاعل, اي بتحريض من قوى محدودة هدفها معارضة الحكومة وشخص رئيسها ليس إلا. لكن حتى لو سلمنا بصحة هذا التحليل الرسمي, فان ما لا يستطيع احد انكاره ان مظاهر الاحتجاج التي تتسع دوائرها في كل شهر قد ادت بالفعل الى تشكيل, او تهيئة الظروف لتشكيل مناخ عام بات يميل الى التشكيك بالسياسات الحكومية ولا يثق بوعودها, ومثال ذلك, ان (مزاج) المقاطعة للانتخابات بدا يتسع بين صفوف المجتمع, فيما لم تفلح سياسات العصا والجزرة في وقف احتجاجات المعلمين ولا بيانات المتقاعدين. في المحصلة, ليست المرحلة صالحة لجدل عقيم بين طرف حكومي واطراف شعبية, ولا هي مهيأة لتقبل حوارات تدخل اليها الحكومة بنوايا احتواء الطرف الآخر والالتفاف على مطالبه, انما البلد في مرحلة تتطلب من الحكومة ان تتصرف بوصفها صاحبة الولاية والسلطة والقرار, واولا واخيرا انها المسؤولة عن امن واستقرار وتقدم المجتمع. سياسات (التقليل من اهمية) المطالب الاجتماعية والشعبية لم تعد تفيد, ومن حسن الاداء وحكمة المسؤولية ان تبدأ الحكومة بفتح الملفات الساخنة بدافع البحث عن حل يلاقي القبول من المعلمين والقضاة وغيرهم وغيرهم وان لا تذهب بالبلد الى الانتخابات في ظل هذه الاجواء السلبية التي ستفتح شهية منظمات حقوق الانسان الدولية لاصدار التقارير التي تمس سمعة النظام وسلامة الانتخابات والتي لا تتأثر ب "اهازيج العرس الانتخابي". الحكومات الديمقراطية (تنصاع) واكرر كلمة "تنصاع" الى إرادة الجماهير عبر صناديق الاقتراع, وليس عيبا ولا يقلل من هيبة حكومة لم تأت بالانتخابات ان تستجيب ولا اقول تنصاع, الى مطالب الفئات الشعبية وتصلح جسورها مع المعلمين ومع الاعلام والصحافة, ومع القضاة والمحامين ومع عمال المياومة ومع القوى السياسية التي تم تجاهلها عند صياغة قانون الانتخاب فاذا لم يكن هؤلاء هم الشعب فمن هو الشعب!.