لقد كان لتفشّي جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد19"، تداعيات كثيرة انعكست سلبا على جميع القطاعات الحيوية للدّولة، خاصة قطاع التربية والتّعليم، الّذي سأخصّ به مقالي هذا. فبعدما قرّرت الوزارة إغلاق باب المدارس، وتعويض الدّروس الحضورية بالدّروس عن بعد، بوصفه إجراءً طارئا من أجل، سلامة المتعلّمين،وإنقاذ السّنة الدراسية. خلق قرار الوزارة هذا، العديد من ردود الأفعال، وأسال مداد أقلام كثيرة، كل نظر إلى الموضوع،وتناوله من زاويته الخاصة.فتشاءم البعض من هذا القرار، وتساءل آخرون عن الكيفية التي سيتم بها هذا التّعليم، خاصة في ظلّ غياب الوسائل التعليمية، والتكنولوجية في جلّ المؤسّسات التعليمية؟ غير أنّي سأحاول في هذه الأسطر مقاربة الموضوع من خلال الإجابة عن سؤال جوهري ألا وهو: هل يمكن للتّعليم عن بعد أن يقوم مقام التّعليم الحضوري؟ أم أنّه تكريس للطّبقية، وضرب لمجّانية التّعليم؟ لقد ذهب البعض ممّن تفاعل مع مسألة "التّعليم عن بعد" إلى القول إنّ اعتماد الدولة لهذا النوع من التعليم، سيعمّق الهوّة بين طبقات المجتمع الّتي ينتمي إليها المتعلّمون، ويضرب مبدأ تكافؤ الفرص بينهم، وذلك بحرمانهم من حقّهم في التّعليم. خاصّة وأنّ ظهور "التّعليم عن بعد" اقترنت في بداياتها بالمساواة، وذلك بتقديم الخدمة التّعليمية للأفراد المحرومين من الحصول عليها، وغير القادرين على الوصول إلى الأماكن الخاصة بها، إمّا بسبب البعد الجغرافي، أو وضعهم الاجتماعي أو إعاقاتهم الجسدية، أو أسباب أخرى تحول دون حضورهم. كما أنّ فكرة "التّعليم عن بعد"، كان الهدف الأساس من وراء اعتمادها عند الدّول الّتي كان لها شرف السّبق إليه، هو توسيع دائرة الاستفادة من الخدمات التّعليمية، وتحقيق مبدأ ديمقراطية التّعليم، وتكافؤ الفرص التعليمية والمساواة بين المواطنين دون التّمييز فيما بينهم لأي سبب من الأسباب. هذا بالإضافة إلى اعتماد هذه الدّول، على اختيار أنظمة التّوصيل والتّنويع من طرق تقديم هذا التّعلّم؛ فاعتمدت (المراسلة، والحاسوب، والبرمجيات الهوائية، واللّقاءات...)، تبعا لاختلاف أنواع المتعلّمين، وطرق تعلّمهم، السّمعي، والبصري، والحسّي الحركي. إذا كان "التّعليم عن بعد" في هذه الدول هكذا، فإنّه في وطننا الحبيب، وبعد محاولة استقراء الوضع الذي عليه التعليم من يوم، اعتماد الدّولة لحالة الطوارئ الصّحّية، وبداية العمل وفق برنامج "التعليم عن بعد"، يتّضح بالملموس عدم استعداد الدّولة في شخص، الوزارة الوصيّة على قطاع التّعليم لخوض غمار هذه التّجربة الحديثة؛ -التّعليم عن بعد-، وذلك راجع إلى أسباب عدّة، لا يسع المقام لذكرها والتفصيل في مستوياتها. و "التّعليم عن بعد"، في ظل هذه الأزمة، - تدبير مرحلي - ،لا يعدو أن يكون إجراءً تربويا لا بدّ منه، وليس خيّارا استراتيجيا، عمدت الوزارة إلى تنزيله، ليكون بديلا عن التّعليم الحضوري، ولا يمكن أن يقوم مقامه بالمطلق. وأما إذاسلّمنا به خيارا تربويا بديلا، فإنّه سيصبح تكرّسا للطّبقية، وضربالمبدأ تكافؤ الفرص، ومجّانية التّعليم التي ما زالينعمبها أبناء هذا الوطن الحبيب. ولعلّ أبرز تجلّيات هذا التّكريس، ومظاهره، ذلك التباين الكبير بين الظّروف الاجتماعية والمعيشية الموجودة بين متعلّمي التعليم العمومي في الوسطين. الحضري؛ ممن لهم القدرة، وتوفّرت لهم الوسائل التكنولوجية الحديثة، ولاءمتهم الظروف، على مواكبة اللون التعليمي الجديد. والقروي؛ الّذي لا تتوفر له أدنى متطلّبات الحياة، لا من حيث ملاءمة الوسط الّذي يعيش فيه، وامتلاكه لوسائل التعليم عن بعد، ومدى وصول صبيب الأنترنت إلى بعض القرى النّائية الّتي يسكنها هؤلاء المتعلّمون. وحتّى إن سلّمنا بوجود كل ما ذكرت جدلاً، فهل لأولياء أمور هؤلاء التّلاميذ قدرة على تعبئة هواتف أبنائهم باستمرار لمواصلة التّعلم عن بعد؟. تجيبنا الأرقام على هذا السؤال، فنسبة المتعلّمين الذين انخرطوا في عمليّة التّعليم عن بعد، قليلة بالوسط الحضري، وقليلة جدا بالوسط شبه حضري، وتكاد تنعدم إن لم نقل منعدمة في الأوساط القروية والنّائية الّتي لا يصلها صبيب الأنترنيت. هذا بالنسبة للمنخرطين أمّا المواكبين لهذه العملية فهم قلّة قليلة جدا، ممّن لقوا دعما وتحفيزا أسريا على ذلك. لا يسعني في النّهاية، غير القول إنّ هذه الجائحة وما صاحبها من تدابير وقرارات استثنائية، قدّمت إلينا الكثير من الدّروس، وكشفت لنا جملة من الحقائق التي كنّا نجهلها أو نتجاهلها، وعلّمتنا كيف نقدّر الأشياء ونزنها بموازينها، وعلّمتنا أن المساواة وتكافؤ الفرص ليست مجرّد شعارات رنّانة، يكفي التّنصيص عليها في الوثائق، وتأكيدها في الخطابات الرّسمية لتصبح سلوكا راسخا لدى أفراد المجتمع.بل إنّ تحقيقها يتطلّب، وجود بيئة فكرية، وسياسية، وثقافية، واقتصادية، واجتماعية سليمة، صالحة لتنزيلها.