في مثل هذا اليوم، 17 يونيو من سنة 2008، ألقيت النظرة الأخيرة على صديقي عبد الرحمن طحطاح. كان ذلك بمقبرة أجدير قرب الحسيمة. ولأن ذاكرتنا قصيرة أريد اليوم بالضبط أن أكسر دائرة النسيان لأن شخصية من طينة عبد الرحمن طحطاح لا ينبغي أن تنسى. ذات يوم كان عبد الرحمن صديقي. ذهب عبد الرحمن لكن أفكاره ما زالت ترافقني مثلما ترافقني أفكار صديقي قدور قاضي. بالأفكار نبني صداقات، وبما أن الأمر كذلك، فالأصدقاء لا يموتون! لا أعرف شيئا عن طفولة عبد الرحمن فكلانا عاش طفولة مختلفة: هو ابن قاض، تربى في جو محافظ، بينما أنا ابن عامل، تربيت في جو إلى حد ما ليبرالي. بغض النظر عن طفولتنا، التقينا ذات مرة، ربما بالصدفة، في مدينة تبحث عن نفسها بقلق شديد ضمن خريطة موزعة بين ريف مهمش منسي وبين دولة كانت تأكل أولادها. التقينا في مدينة الناظور حيث عين منذ البداية لتدريس التاريخ والجغرافيا بالثانوية الوحيدة التي كانت موجودة آنذاك. تعرفت عليه شيوعيا بالانخراط في حزب التحرر والاشتراكية (التقدم و... فيما بعد)، وتعرف علي شابا متحمسا بالانخراط في مسار عمل فكري-اجتماعي-نقدي يرفض التعليب. اقترح علي تنظيم دروس في فلسفة المادية الجدلية لصالح العمال والطلبة في مقر شبيبة حزبه. قبلت الاقتراح رغم بعض التباعد الفكري وتحولت هكذا إلى جورج بوليتزر الناظور! تلك كانت بداية علاقتي بعبد الرحمن طحطاح. لم يكن الحزب يجمعنا لكنا استطعنا أن نبني معا فضاء أرحب يجمعنا: فضاء مفتوح لكل فعاليات المدينة، فضاء سميناه "الانطلاقة الثقافية". في هذا الفضاء تحررت من فضاء "الشبيبة" الضيق، وانطلقت، كما أراد ذلك صديقي، بدون "عقدة نقص"! عبد الرحمن كان ذكيا للغاية. فهو، بتوريطه إياي في فضاء العمل الثقافي، انصرف إلى العمل النقابي يؤطر العمال والفلاحين عبر عشرات النقابات (عمال المناجم، عمال النقل، عمال صناعة السكر، عمال البناء، عمال الخدمات... العمال الزراعيون، عاملات التصبير...). بالنهار كان يربي التلاميذ ويؤطر العمال، بالمساء كان يلهو، بالليل كان يطالع. يوما عن يوم كان يناضل بقناعة وإيمان. لم يكن انقلابيا ولا وصوليا. كان يؤمن أن التغيير مرتبط بفلسفة عمل دؤوب من أجل "إنضاج" شروطه. وبالرغم من اطلاعه على أهم الأدبيات الماركسية التي كانت تؤطر كل مناضل يساري آنذاك، وبالرغم من تعلقه بأممية مصير الكادحين، فقد كان يصغي باهتمام لتعابير وطموحات من كان يعيش معهم من عمال وفلاحين، لذا كان من السباقين بالاهتمام بلغة الشعب المهمشة (الأمازيغية) وبثقافته، كما كان أشد الارتباط بتجربة عبد الكريم التحررية. خلال عقدين من الزمن تقريبا كتب عبد الرحمن، الأممي بطبعه، صفحات رائعة من النضال والتضامن في الجبهة الداخلية. كان يساريا مبدعا وملتزما ومسؤولا. جعل من الناظور، وهو الآتي من "الجرح الحسيمي" أرضية لنضاله القوي والمتماسك من أجل الحلم بناظور آخر وريف آخر ومغرب آخر أحسن. نسج صداقات مفتوحة على كل الفعاليات بعيدا عن "تصلب مفاصل" الانتماء الحزبي ونسج بذلك لنفسه صورة المناضل المندمج. وفي لحظة ما من حياته، حزم أمتعته وهاجر كما فعل الكثير من أبناء جلدته. هاجر من أراضيه المرتفعة التي أنتجت مقاومات عنيدة، إلى الأراضي المنخفضة التي بدأت تلوح لبعض أبناء بلده كبديل لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه في أرضهم: العيش الكريم والمشاركة الداعمة لتحقيق الذات. لكن هجرة صديقي عبد الرحمن لم تدم طويلا. فذات يوم 17 يونيو 2008 طارت روحه من الأراضي المنخفضة (هولاندا) إلى الأراضي المرتفعة (الريف) لتستقر في نفس التربة التي ترعرع فيها. لعبد الرحمن الآن أصدقاء كثر في الناظوروالحسيمة ومناطق أخرى من المغرب. وحتى لا تكون ذاكرتنا فعلا قصيرة، علينا أن نعمل جميعا من أجل اعتراف "الأرض" بأبنائها: لنسمي إحدى شوارع الناظوروالحسيمة بشارع عبد الرحمن طحطاح.