بحلوله ضيفا على برنامج تلفزيوني، اختار لوران فابيوس، رئيس الدبلوماسية الفرنسية إغراق سمكة الأزمة التي تسببت فيها استفزازات فرنسية تهدد بقطع حبل الود بين الرباط وباريس. "صمت دهرا ونطق كفرا"، هكذا يمكن وصف "التحايل" الذي تحراه لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي، خلال برنامج تلفزيوني، وفي معرض حديثه عن الأزمة التي هزت أركان العلاقات بين المغرب وفرنسا. وكان فابيوس حل ضيفا، صباح أمس الأحد، على برنامج "لوكران رونديفو" الذي بثه قنوات "أوروبا1" و "إ-تيلي" وصحيفة "لوموند"، إذ تطرق للعديد من المواضيع التي تؤثث الساحة الدولية من قبيل الوضع في أوكرانيا والتهديد الروسي، وتداعيات الهجوم "الإرهابي" في الصين الذي خلف ثلاثون قتيلا فضلا عن شؤون تتعلق بالقارة الإفريقية والوضع الاقتصادي في فرنسا... وفي سؤال عرضي، تطرق الصحفي "مايكل دارمون" إلى الأزمة القائمة بين المغرب وفرنسا، وهو ما حذا برئيس الدبلوماسية الفرنسية إلى الرد بسرعة تنم عن غياب قناعات إزاء الجواب الذي حاول من خلاله الإيحاء بوجود نفحة وردية تكتنف العلاقات بين البلدين. والملاحظ أن سؤال الصحفي المذكور احتمل وجهان على الأقل: أحدهما يتعلق ب"الاستدعاء الشهير" الذي وجهته السلطات الفرنسية إلى عبد اللطيف الحموشي بصفته المدير العام ل"المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني" بخصوص حالات تعذيب مزعومة، والثاني يتعلق ب"الافتراء" الموجه ضد المغرب من لدن سفير فرنسا لدى هيئة الأممالمتحدة. ماذا عن الصداقة المغربية الفرنسية؟ جواب لوران فابيوس جاء كالتالي: "إن العدالة في فرنسا مستقلة، لكن كان يتعين إحاطة المعنيين بالأمر وتسليمهم إشعارا بالموضوع وأن يتم ذلك بطريقة أكثر دبلوماسية". هل هذا يعني أن عبداللطيف الحموشي انتقل إلى فرنسا دون إشعار نظرائه الفرنسيين بهذه الزيارة، وهو يصطحب رسميا وزير الداخلية محمد حصاد؟ أو أكثر من ذلك هل دخل الحموشي فرنسا خلسة؟ مما كان سيجعل أي تنسيق في هذا المجال صعب المنال. ورغم هذا وذاك ينبغي التذكير بأن الدولة المغربية لم تعترض يوما على مسألة استقلال القضاء التي يتحجج بها فابيوس. تفسير لا يصمد أما التحليل إن التفسير الذي رطن به وزير الخارجية الفرنسي، لا يستطيع الوقوف في وجه أي تحليل ولو كان موجزا، لأن مدير الاستخبارات، بهذا الفعل لم يعد بإمكانه التحرك في بلد صديق، تربطه بالمغرب علاقات تعاون وثيقة في مواجهة الإرهاب المتربص بالبلدان عند الحدود. واقع الأمر يفيد بصعوبة فهم هذا الطرح من لدن شخص يوجد على رأس الدبلوماسية الفرنسية. وإذ كانت فرنسا ترغب في صون العلاقات "المتينة" التي تربطها بالمغرب، فكيف تفسر عدم قدرتها على عدم إزعاج "البلد الصديق" وكذا الخوض في قضية غامضة تتعلق بانتهاكات مزعومة شهدتها أقبية السجون المغربية. سفير فرنسا لدى الأممالمتحدة يفند وفي معرض الجواب عن السؤال الثاني، ذكر فابيوس بأن الواقعة تعود إلى سنة 2011، وهي الفترة التي كانت فيها عهدة الحكم بيد الحكومة السابقة على حد قوله، مشيرا إلى أن السفير الفرنسي نفى جملة وتفصيلا "افتراءه" على المغرب، وأن للأخير شهودا يعززون حسن نيته في هذا الشأن. وقال فابيوس "إن العلاقات بين البلدين توشك على الاستقرار، وأنه يعمل مع نظيره المغربي لإيجاد مخرج من هذا الحادث "، وقد شكل هذا الجواب، لمنشط البرنامج، مطية للقفز عن موضوع العلاقات المغربية الفرنسية، والتطرق لمواضيع أخرى تهم سوريا ولبنان بدعوى ضيق الوقت. هذا "التمرين الماهر" من قبل لوران فابيوس، لم يعكس حقيقة المعارضة المتجذرة ل"صداقة أسطورية" تربط بين المغرب وفرنسا، والتي تتربص بها الدوائر. الأسئلة المحرجة إن حقيقة الواقع الساطعة هي كالتالي: * كيف يمكن تفسير استضافة خافيير بارديم، الممثل الإسباني، المعروف بموالاته لجبهة "البوليساريو" الانفصالية، في "بلاطو" برنامج "كران جورنال" بقناة "كنال بلوس" وفي ساعة الذروة، وذلك من أجل الحديث بإسهاب عن الوثائقي الذي أخرجه والذي يتناول مخيمات العار بتندوف؟ * وكيف يمكن تفسير لجوء الصحيفة الباريسية "لوموند" إلى الترويج لهذا الفيلم الوثائقي خلال نهاية الأسبوع المنصرم؟ * ثم ما هي "الأخبار الساخنة" التي قد تحبل بها هذه القضية المتجاوزة لتجعلها مبرمجة بشكل قوي في صدر الإعلام الفرنسي ما لم تكن بدافع التشويش على الزيارة الملكية لدول إفريقيا؟ صراحة ووفق ما سلف، فإن الزيارة الملكية للبلدان الإفريقية، والود الموصول مع بلدان الجنوب، أصبح يقض مضجع الكثيرين الذين يحتفظون لأنفسهم بمطامع في القارة السمراء. وما يجب التنويه به، أن ردود الأفعال المغربية إزاء الاستفزازات الفرنسية جاءت مواتية في الزمن وملائمة في الفعل، فبينما سلك المغرب مختلف السبل الدبلوماسية قرر تجميد جميع اتفاقيات التعاون القضائي بين المغرب وفرنسا مع استدعاء قاضي الارتباط المغربي الذي ينسق المسائل القضائية من هناك. إن هذه الإجراءات هي جزء من نهج وقائي يمكن أن يضمن حسن النية ( المفترضة ) للشريك الفرنسي. استقلالية القضاء: قضية الفنان الساخر "ديودوني". وفيما يتعلق ب"الاستقلالية المقدسة" للقضاء ووسائل الإعلام في فرنسا، لا ضير من الرجوع قليلا إلى الوراء وبالضبط إلى الجدل المتعلق بالاحتجاجات التي واجهت الفنان الساخر ديودوني واتهامه بمعاداة السامية، وحينها رأينا كيف أن مانويل فالس، وزير الداخلية الفرنسي وجد لنفسه أكثر من طريقة للدفاع عن المحرقة (الهولوكوست)، وتوجيه القضاء للحكم ضد ديودوني. وهذا ما جعل أصواتا في فرنسا تتعالى منددة ب"الإدارة الإرشادية والإدارية" التي يرزح تحتها قطاع العدل الفرنسي من لدن الماسكين بزمام الأمور هناك. وليس من خلاصة تبدو أكثر جدوى لما سبق، غير إسداء النصح إلى الحكومة الاشتراكية الفرنسية التي ينتمي إليها لوران فابيوس، بضرورة البحث عن حجج أقوى لإقناع المغاربة إزاء انتهاك شرفهم وكذا تحديد نوعية العلاقات الثنائية المبنية على الاحترام المتبادل، حتى لا يشكل الأمر سبة في المستقبل.