الصورة التي ظهر بها السيد عبد الإله بنكيران في الجلسة الشهرية الأخيرة بمجلس المستشارين، يوم الأربعاء 17 يوليوز 2013، تكشف أن الرجل يوجد في حالة نفسية سيئة جدا. وهذه الحالة لا تخص شخص الرجل، بل تلقي بظلالها السلبية على المؤسسة الدستورية التي يرأسها وعلى باقي المؤسسات الأخرى. ولعل كثيرين من مُشاهدي الشريط الذي تتداوله هذه الأيام مواقع التواصل الاجتماعي يتساءلون عن مدى أهلية بنكيران للاستمرار في رئاسة الحكومة والإشراف على تدبير شؤون المغاربة. ظهور بنكيران هذا كان أول ظهور له، عمومي وعلني ومباشر وبالكلام، أمام المغاربة وأمام العالم، بعد تفعيل حزب الاستقلال لقرار انسحابه من الحكومة، وبعد عزل الرئيس المصري وحكومة جماعة "الإخوان المسلمين"، التي تربطها (أي الجماعة) بحزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة المغربية أواصر القرابة. وكان السياق مناسبة ليبرهن الرجل عن الحكمة المطلوبة من رجل دولة في مثل هذه الظروف، مثلما كان مناسبة ليستخلص العبر والدروس من تجربته وتجربة الآخرين. لكن بنكيران أصر على أن يؤكد أنه بعيد عن الحكمة، وأنه غير معني لا باستخلاص الدروس من تجربته ولا باستخلاص العبر من تجربة الآخرين. نجح فقط في أن يزيد الطين بلة. في مشهد واحد، عاش الرجل أطوارا متناقضة وغريبة. فحين تناول الكلمة للرد على تدخلات المستشارين، حمد الله على "ما أضفاه رمضان على هذه الجلسة من هدوء"، وتمنى "أن يكون هدوءا مستمرا". وهنا، بدا الرجل منشرحا ومرتاحا. لكن بمجرد أن تدخل رئيس مجلس المستشارين، بهدوء وبلطف وباختصار وبصوت خفيض، ليدعو رئيس الحكومة إلى "العودة إلى الموضوع" (وينبغي أن نتذكر هنا أن للرجل سوابق في الخروج عن الموضوع والابتعاد عنه بالصراخ وإطلاق الاتهامات الفضفاضة، التي كانت تتسبب في خلق أجواء التوتر)، حتى انتفض بنكيران بهستيرية حادة وبشكل مثير للشفقة عليه وعلى حاضر المغرب الذي شاءت أقداره أن يرأس بنكيران حكومته. عدت إلى التسجيل، وإليكم بعض مما أطلقه بنكيران بهستيرية فاجأت وأفزعت من كان يتابع تلك الجلسة: "لا.. تَتْكلم مع رئيس حكومة كيعرف آش كيقول، ما عندكش الحق تْكْلّم معايا، صافي، هاذا هو، ها كذاك، آيوا، هاكاك، التشويش، التشويش (قالها مرتين)، لا تنضافوا للجهات التي تشوش على هذه الحكومة فقد كثرت، ماشي شغلك انت، هاذ الشي اللي كاين، غادي نتكلم ولكن إلى قاطعني شي واحد ما يلوم إلا راسو، أنا ماشي حيط قصير، ماشي شغالك السيد الرئيس، أنا عندي الحق نتكلم، أنا ما محتاج نتكلم (قالها ثلاث مرات)، هاذ الحكومة كيساندها الشعب إلى تكلمات أو كيساندها إلى سكتات، باش تكون على راحتك أ السيد الرئيس، إلى أنا رئيس حكومة وعندي الحق نتكلم نجي لهاذ الغرفة، والو، لا يُشوَّش علي، وأنا ما محتاج نتكلم، الشعب يعرفني ويعرف خصومي ويعرف من يواجهني وكلامي قد سمعه من قبل وقد آمن به وصوت بسببه وأعطى المرتبة الأولى للحزب ديالي، ما محتاج نتكلم، ويلا بغيتوا انتخابات سابقة لأوانها تفضلوا حنا موجودين من غدا، راه المغرب هاذا. انتهى الكلام، ما تخلعونيش، والله ما نتكلم إلى ما رْدِّيتوش لِيَ التوقيت ديالي...". إنه كيس من الألفاظ والعبارات المُخَزَّنة في ذاكرة بنكيران يظل يرددها ويهرقها على المغاربة كلما أتيحت له فرصة الإطلالة عليهم من التلفزة. ولا أظن المغاربة إلا أنهم سئموا الاستمرار في سماع مثل هذا القاموس، الذي لا يحقق نموا اقتصاديا، ولا يخلق تنمية اجتماعية، ولا يبشر بنهضة ثقافية، ولا يرفع من شأن السياسة، ولا يحارب فاسدين، ولا يشغل معطلين، ولا يجلب سياحا... مضى عام ونصف العام، ولم ينجح بنكيران إلا في الدعاية لقاموسه ونشر ألفاظه وبثها في المغاربة. على الأقل لن يخرج الرجل "خاسرا"، فسيترك رصيدا يتذكره به المغاربة بعد مغادرة منصب رئيس الحكومة. المنظر الأخير الذي ظهر به بنكيران يسيء إلى منصب رئيس الحكومة المغربية وإلى الحكومة والبرلمان، ويسيء إلى من انتخبه وحتى إلى من عينه. وبالنهاية، فإنه يسيء إلى المغرب، بلدا ودولة. ما يهمني هنا هو الضرر الذي يُلحقه بنكيران بمنصب "رئيس الحكومة المغربية" وليس بشخصه. فشخص بنكيران سيذهب، ولكن "رئيس الحكومة المغربية"، الذي بذل مناضلون مغاربة ومازالوا نضالات طويلة من أجل أن يتمتع بالاختصاصات الكاملة التي يتمتع بها رؤساء الحكومات في الدول الديمقراطية، سيكون قد تعرض لضرر كبير، وعبره سيتضرر المغرب برمته. رئيس الحكومة، منصبا أو صفة، ليس ملكا للشخص الذي يشغله، يفعل به ما يشاء ويعبث به كيفما يشاء، بل هو منصب يوجد على رأس سلطة دستورية، وتنظم عمله قوانين وقواعد وكذلك أخلاقيات وآداب. وأشدد هنا على الأخلاقيات والآداب. فالشخص الذي يشغل مثل هذا المنصب قد يخدم صورة الدولة في الداخل والخارج وقد يسيء إليها. ولا أظن أن الحالة التي كان عليها رئيس الحكومة المغربية أمام المستشارين البرلمانيين وأمام أنظار المغاربة وأنظار العالم، يوم 17 يوليوز 2013، ستخدم صورة المغرب، وستسهم في جلب الاستثمار، الذي كان موضوع الجلسة!! (للتذكير، فمحور الجلسة كان هو "تطوير السياسات المتعلقة بالاستثمار والصناعة والتجارة والخدمات"). عام ونصف العام قضيناه مع بنكيران، وهو يلوك نفس الألفاظ ويستعمل قاموسا لا يليق بمقام رئيس الحكومة. نعم، قد ينجح في جلب انتباه جمهور واسع من المشاهدين، قد ينفعه أسلوب كلامه في التواصل مع فئات وشرائح كثيرة وتحقيق "الشعبية"، التي لا يفتأ يزهو بها هو وأنصاره، قد يفيده الظهور بمظهر المظلوم، المحارَب والمستهدَف، في جلب تعاطف قد لا يختلف عن التعاطف الذي تثيره بعض المشاهد الدرامية في المسلسلات التي تبثها القنوات التلفزية في نفوس مشاهديها... قد يجني بعض المكاسب، لكن الأمر، في البداية والنهاية، يتعلق برئيس حكومة جاء وجاءت لتنفيذ برنامج تم التعاقد بشأنه مع الناخبين قبل الانتخابات، ومع ممثليهم في البرلمان بعدها. رئيس الحكومة مسؤول أمام المواطنين على تنفيذ ما التزم به. وهو محاسَب، أمام المواطنين والوطن والتاريخ، عن هذا وليس عن غيره. ولن يشفع له في ذلك وجود التماسيح أو العفاريت أو المشوشين أو حتى "الدولة العميقة"، هذا المفهوم "المشرقي" الذي انتقل إلينا من عند "الإخوان" المصريين، والذي يسعى "الإخوان" المغاربة إلى أن يعوضوا به المفهوم المغربي الشهير "المخزن". عام ونصف العام مضى على بنكيران خلف آثارا سلبية في الداخل ولم ينفع المغرب في الخارج. المسؤولية والأخلاق تفرضان على بنكيران أن يعترف بأنه فشل كرئيس للحكومة. فقبل أن نتحدث عما حققه اقتصاديا واجتماعيا ودستوريا... إلخ، فإن الفشل في حفظ أغلبيته الحكومية كان عنوان هذا العام والنصف. لقد فشل بنكيران سياسيا، حين عجز عن حفظ الأغلبية التي تعاهد وإياها أمام المغاربة على تصريح حكومي خوله التصويت عليه الانطلاق في تنفيذ مضامينه وليس إطلاق أسماء لكائنات حيوانية وخرافية على خصومه. الأخلاق السياسية تلزم بنكيران بأن يعترف أمام المغاربة بأنه فشل في إكمال ولايته الحكومية بالأغلبية التي دشن بها تجربته في قيادة الحكومة. والأخلاق السياسية تفرض عليه أن يتحمل وحده المسؤولية وألا يلصقها بكائنات يتحدث عنها دون أن يحددها بالاسم. يحق لنا أن نتساءل: هل مازال السيد بنكيران مؤهلا ليقود الحكومة المغربية؟ بغض النظر عن موقفي السياسي من هذه التجربة برمتها، بدءا من دستور 2011، مرورا بالانتخابات التشريعية، ووصولا إلى تشكيل الحكومة، فإنني أجيب بكل وضوح واطمئنان: إن بنكيران لم يعد مؤهلا لقيادة الحكومة المغربية. وأنا أستند في جوابي على ما عشناه خلال هذا العام والنصف. وموقفي هذا لا ينسحب على حزب العدالة والتنمية، وإنما على شخص بنكيران. فحين يبذل الرجل كل ما في وسعه ويكد ويجتهد من أجل خلق "أزمة" لحكومته هي أصلا في غنى عنها، فهل سنطمئن معه على وضع البلاد وعلى تعامله مع أزماته القائمة وتلك التي تلوح في الأفق؟! أدعو فقط إلى مشاهدة الحالة التي كان عليها السيد عبد الإله بنكيران بمجلس المستشارين يوم 17 يوليوز 2013، لتجيبوا عن هذا السؤال.