بعد عام أو أكثر، و بعد انتهاء مرحلة جمع فيها الزعيم الإسلامي كل ما يحلم به سياسي من عبارات و إشارات الرضى الملكي على النوايا و السلوك، ها هو رئيس الحكومة المرضي عنه رسميا و مخزنيا أمام نفس الباب الذي وقف عنده السابقون. إنه التاريخ يعيد نفسه. يتميز بنكيران و منذ انفصاله عن حركة الشبيبة الاسلامية قبل ثلاثين سنة أو يزيد، بأنه الرجل الأكثر بحثا عن رضى الأجهزة الرسمية، و الذي فعل الممكن و المستحيل من أجل ذلك. ضحى بشبابه و جل أيامه ليؤكد لمن له الأمر أنه الزعيم الأوفى و القائد الأكثر تشبتا بكل ما يجلب الرضى. رضا الدوائر العليا و أعلاها القصر. من أجل ذلك تبرأ من الزعيم الانقلابي عبد الكريم مطيع و من قتلة عمر بنجلون، و من أجل ذلك أسس جمعية الجماعة الإسلامية، و مارس الدعوة سلميا، علنيا في ظل القوانين كل القوانين المكتوبة و المسكوت عنها. و لأجل نفس الغرض فصل السياسة عن الدين، و التحق بالسياسة و ترك الدعوة، التحق بحزب الدكتور الخطيب، ثم تغير الاسم إلى العدالة و التنمية، و قبل العمل السياسي بشروط المخزن كلها، الشروط المعروفة و غير المعروفة. و من أجل الرضى قبل المشاركة في الانتخابات عام 2003 دون اكتساح، تماما كما طلبوا منه هو و من معه. نفس الأمر عام 2007. لتتوج مسيرة الزعيم من انقلابي إلى دعوي إلى سياسي إلى إصلاحي إلى جليس و دود لطيف بجوار غيره في دار المخزن الكبرى، حيث المحظوظ فيها هو المرضي عنه علنيا رسميا. و جاءت رياح الربيع العربي، فلم يجد الزعيم بنكيران ما يعبر به عن حسن النوايا سوى تجاهل موجة 20 فبراير و الاصطفاف التام العلني الصريح ضد الحركة و المناداة بشعار " الإصلاح في إطار الاستقرار"، و كأن حركة 20 فبراير حركة مسلحة أو مقدمة لأمواج الثوار الزاحفين على الناس، كل الناس. الآن وقد توج الزعيم بعبارات الرضى و الامتنان من أعلى مستويات الدولة، و ما تلا ذلك من إسناد رئاسة الحكومة كتجسيد لثقة ملكية سامية في شخص الرجل، ها هي اللحظة العصبية ترخي بظلالها على القائد الرئيس، لحظة الإجابة على أسئلة الوقت و مجابهة الرأي العام، فالرأي العام ما هو في الأخير سوى جبل من المطالب، بعضها طارئ و جلها متراكم متوارث منذ عقود. الشيء الذي لا أعتقد أن بنكيران يدركه تمام الإدراك هو أن هذه الحالة، سببها اعتقاد خاطئ بأن القصر يستدعي إلى جواره الحزب لكي يحكم و يخطط و يبرمج و ينفذ فإذا الأزمة تبخرت تماما. في النظام السياسي المغربي السلطة و الحكم بيد الملك و القرار قراره و لا يوجد أي تقاسم للسطلة، و لكن هناك فقط تفويض. للأحزاب السياسية في المغرب وظائف مسكوت عنها غيرما هو معروف في القانون الدستوري و مواد العلوم السياسية. و ظيفة الأحزاب بالمغرب خصوصا الموجودة في " الحكم " تأمين الاستقرار و التوازن داخل المشهد السياسي أما الحكم بمعنى الحكم، فليس ذلك شغل أي حزب سياسي. مثلا حزب الاستقلال كان " حاكما " و مهيمنا و مسيطرا فترة ما بعد الاستقلال، و حينما كان "القصر" يواجه طروحات مضادة لرجوعه المبكر إلى مكانه الشرعي، جر إليه حزب الاستقلال و رجح به كفته. و بعد بضع سنين كان " الاستقلال " بعيدا عن الحكومة كأيها الناس. لقد أمن استقرارا و عليه أن يعود إلى أصله. نفس المصير، بل مصير أكثر مأساوية لحق " جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية " تأسست عام 1962 لمواجهة المد الاشتراكي المتصاعد، و تأمين التوازن، و تبخرت الجبهة بعد أقل من ثلاث سنوات. الدائم هو الله. رضي عنها المهندسون للمشهد، فحازت نصف عدد مقاعد البرلمان ثم رحلت. حزب آخر نال الرضى عام 1978 إنه " التجمع الوطني للأحرار " اكتسح الميدان و حصد الأصوات و جنب المشهد السياسي هيمنة المعارضة " الوطنية" . و ترك المكان لحزب آخر هو " الاتحاد الدستوري". دائما الوظيفة خدمة الاستقرار، و المصير واحد، الرجوع إلى الصف. صف خدام المملكة. نقفز مباشرة إلى عام 1997، تم استدعاء عبد الرحمن اليوسفي إلى حكومة التناوب و نال برنامجه رضا القصر لكن تبين فيما بعد أن رجل الدولة من صنف اليوسفي لم يسلم من آلية التوظيف.لقد وظفه المخططون لتأمين استقرار عرش كان يستعد لاستقبال ولي العهد آنذاك الأمير سيدي محمد. وظيفة أخرى تجلت في مواجهة تصاعد نفوذ الإسلاميين، و بالضبط تنظيم " العدل و الإحسان " لا حليف دائم ووحيد " للقصر ". كل حزب ووقته، كل حزب ووظيفته، و الحكم و السلطة بنص الدستور و التقاليد و ما قعدته القرون من ممارسان هو لأمير المؤمنين وحده. مسلسل " التناوب" كان شعارا و كفى، و حكومة " التغيير " كانت عنوانا، مجرد عنوان من العناوين. بعد خمس سنوات من 1998 ذهب كل شيء. لا تناوب لا تغيير و لا هم يحزنون. فالعبرة بالحدث و ما يؤديه من خدمة، لا بالكلام. و علينا أن نتذكر أن أسلوب استخدام الأحزاب السياسية لغير ما تهدف هي إليه، أسلوب لا يخلو من مخاطر. فأحزاب الإدارة تستسلم لكن أحزاب الرفض و الاحتجاج خرجت من تحت معطفها العجائب و المغامرات. فأمام الانقلاب الذي حصل على " حزب الاستقلال " تحول شقه الثوري الغاضب إلى مسبح كبير تعوم فيه خلايا الثوار و الحالمين بقلب الأوضاع، هجمت على المملكة انطلاقا من الجزائر في شكل موجات منذ 1963 الى غاية 1973، سالت فيها دماء و سيق كثير من زعماء تلك الأحداث إلى منصات الإعدام. و لا نعتقد أن الظاهرة سوف تتكرر و هذا موضوع آخر. لكن من المحتمل أن يؤثر هذا الأسلوب على ثقافة الساسة كما حصل للزعيم عبد الرحمان اليوسفي حينما اكتشف أن انقلابا على " المنهجية الديمقراطية " و قع بعد ولاية حكومتيه الأولى و الثانية. و إن كان المخيال الثقافي المغربي يطوي بين سجلاته ملاحظة أنه لا ثقة في المخزن، تماما مثلما لا ثقة في البحر و النار. هذا واقع ربما غاب عن قادة الاتحاد الاشتراكي يوم نودي عليهم للحكم إذ إن تصريح اليازغي الذي قال حينها أن " المخزن مات " تذكره الاتحاديون جميعا بعد انتقال الحكومة من التنصيب إلى الجد. و على ذكر المخزن فلابد من تمييزه عن شخص العاهل في النظام السياسي المغربي. فممارسات المخزن و مناوراته و سلوكياته لا تعني العاهل في شيء، فهو يستفيد منها، لكن لا يتورط فيها. فرضى العاهل شيء، و انقلاب المخزن شيء آخر. ( هند عروب. المخزن في الثقافة السياسية المغربية ص 12 ). هذا التمييز هو ما يفسر أن التقرب من العاهل لا ينجى صاحبه من نيران الدسائس و المؤامرات، البحر الذي يسبح فيه محترفوا السياسة. فتاريخ المخزن حافل بروايات عن كيف كان الأعيان و القواد و الباشوات و عناصر النخبة، و في كثير من الأحيان، يسافرون لملاقاة السلطان في المناسبات محملين بالهدايا و الأموال، يدخلون التصرف في عزة و حبور، ينعم عليهم العاهل بالرضى و القبول، ثم يخرجون من حضرته معزولين، تلاحقهم لعنة الشريك و التنكيب ( من النكبة ). لأجل هذا لا ثقة في المخزن، و لأجل هذا لا يزال الإنسان المغربي، و ليس بنكيران وحده، يعي جيدا منافع الرضى و ويلات السخط، و لأجل ذلك اتخذ من الوصول إلى السلطة ملاذا و ملجأ مما كان يطارده من أشباح و كوابيس مغرب السبعينات و ما تلاها، فهو طول مساره ما فتئ يؤكد للخاص و العام انه برئ من تهمة التآمر ضد النظام، الصفة التي لاحقت تنظيم الشبيبة الإسلامية إلى اليوم. الآن و قد تبخرت الكوابيس و الأشباح، أشباح زوار الليل و طارق الشؤم، الان و قد صار مرضيا عنه و عليه ما عليه سوى أن يعلم أنه استدعي لمرحلة و لأداء وظيفه. تم فيها للمخزن ما أراد و عليه أن يفكر في الباقي. هذا الباقي لن يكون سوى الرضى بالحجم الأصلي لحزبه، كحزب مثل باقي الأحزاب. و في مطلق الأحوال فإنه قاد جماهير عريضة بعد الغليان الشعبي فترة الربيع العربي، إلى مصحة الهدوء و الانتظار، فحزبه عامل أساسي من عوامل الاستقرار الذي عرفته المملكة إبان فترة الغليان. و هو عمل كاف لينعم بالرضى. و أما الأزمة فمن المشكوك فيه أن هناك نية جادة لتجاوزها، من طرف الذين هم فوق، فوق الحكومة و البرلمان. طنجة24