ماذا كان سيقع في البيت الداخلي لحزب الاستقلال لو اختار عباس الفاسي عدم ترشيح نفسه لولاية ثالثة عوض ولايتين كما ينص على ذلك قانون حزبه في المؤتمر الاستثنائي للحزب، وهي الولاية التي تشبث بها لكي يجمع بين قيادة الحزب وقيادة الحكومة..؟ ربما كان سيطفو على السطح اسم آخر ليقود سفينة الاستقلال؛ ربما محمد الخليفة الذي أعلن وقتها منافسته لعباس قبل أن ينسحب في الوقت بدل الضائع، وبشكل أثار الاستغراب؛ ربما كان سيظهر اسم آخر من الأسماء الاستقلالية التي كان يتم التحضير لها لوراثة القيادة، وعلى الأخص الأسماء التي كانت تدور في محيط الفاسي.. والبحث لها عن قُبُول في أوساط الحزب. لم يكن اسم حميد شباط رائجا بما فيه الكفاية وإن كان وجوده في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، وزعامته لنقابة الاتحاد العام الشغالين، إضافة لترؤسه مجلس العاصمة العلمية(فاس)، يعطي الانطباع بأن الرجل قادم. كان فقط ينتظر فرصته. وكانت في المؤتمر الأخير للحزب الذي عرف، لأول مرة في تاريخه، شوطا ثانيا لحسم الأمور. وذاك ما حصل بانتخاب شباط أمينا عاما للاستقلال. لا أحد يجادل في أن هذا الانتخاب كان في حد ذاته حدثا مُهِماً على أكثر من مستوى، خاصة أن رياح التغيير هبّت بقوة على حزب يعتبر من الأحزاب العتيدة بالمغرب، فكان لا بد من التغيير الذي ظل شباط ينادي ويدعو له في كل مناسبة، معلنا، بكل صراحة، أنه ضد التوريث، وأن حزب الاستقلال هو حزب جميع المغاربة، وأنه لا بد من إعمال الديمقراطية في انتخاب منصب الأمين العام واللجنة التنفيذية، وجميع الهيآت والمنظمات التابعة للحزب. لقد جاء تَوَلِّي شباط زمام قيادة الاستقلال في وقت كان فيه الحزب فيما يشبه السكتة القلبية من دون أن يتجرأ أحد من الاستقلاليين على الاعتراف بذلك، وإن كان بعضهم يتحدث في المجالس والصالونات الخاصة عن قُرْب وقوع انشقاق.. وبلغ "البوليميك" أوْجَهُ خلال الحملة الانتخابية بين حميد شباط وعبد الواحد الفاسي.
الآن شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال، شهدت بذلك أعلى سلطة حين حظي باستقبال من طرف الملك محمد السادس، وبرسالة تهنئة منه وصفه فيها ملك البلاد ب"المناضل والمثابر"، كما اعترف له بذلك مختلف الفرقاء السياسيين، خصوما وحلفاء. لا شك أن أمام شباط "الظاهرة" عمل كثير ينبغي القيام به من أجل تشحيم وتزييت دواليب الحزب التي تعرض الكثير منها لعدة أعطاب جعلها تعاني من كثير من الخلل بفعل عَدْوَى الروتين والتسَيُّب والبيروقراطية والمحسوبية والزبونية التي أصابت تلك الدواليب خاصة في عهد عباس الفاسي الذي تَحَوَّلَ فيها مركز حزب الاستقلال إلى نقط جذب تسيل لُعَابَ الانتهازيين والوصوليين والباحثين عن المواقع؛ عهدٌ جعل الباب مشرعاً أمام كل من هبَّ ودَبّ ليدخل ب"سبّاطه" كيفما شاء وفي أيّ وقت شاء. من أولى الأعمال التي نصب شباط نفسه للقيام بها، تصفية تركة الحزب، وهو ما شرع فيه فعلاً من خلال تعيين عادل الدويري للإشراف على فحص هذه التركة. وهي عملية ليست سهلة. ثانيا، عليه أن يقوم بتطهير صفوف الحزب مما عَلقَ به من طحالب خاصة في العقدين الأخيرين، يتجلى ذلك على الخصوص في الاجتماع العاجل الذي دعا إليه لاجتماع المفتشين (وما أدراك ما جهاز المفتشين، الأقوى والأخطر في الحزب). ثالثا ، إعادة الروح لتنظيمات الحزب ومنظماته وروابطه التي تشكو أعضاؤها من الترهُّل. رابعا، إعادة النظر في علاقات الحزب مع محيطه، سواء تعلق الأمر بأحزاب الأغلبية، وحزب الاستقلال جزء أساسي فيها، أو أحزاب الكتلة حيث ما فتئ شباط ينادي بضرورة إحيائها، أو باقي الأحزاب الأخرى التي تؤثث المشهد السياسي الوطني.
لقد استطاع شباط أن يكسِّر القاعدة التي ظل حزب الاستقلال يعمل بها في سائر مؤتمراته، والمتمثلة في الحصول على اتفاق في الكواليس حول اسم الأمين العام الجديد قبل عرضه لعملية تصويت تحظى بالإجماع والتصفيق وترديد نشيد الحزب في محاولة لطمس أو لحجب الأصوات القليلة التي تنادي بالديمقراطية، كما استطاع شباط أن يضع حدا لهيمنة طائفة على مسار الحزب ومصيره لعدة عقود وحَوَّلَته لما يشبه الزاوية التي لا يقصدها إلا مُرِيدوها وحواريوها..
يبقى العمل الكبير الذي ينتظر الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال يتمثل في السؤال التالي: إلى أيّ حد يمكن فيها لشباط أن يواجه "خرجات" رئيس الحكومة وأمين عام حزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، بخرجات مماثلة أو أقوى؟ وهل سيكون في مقدوره (شباط) خلخلة التوليفة الحكومية الحالية، بتعديلها أو الانسحاب منها..؟ أسئلة كثيرة وعمل أكبر أمام شباط لا شك أنه سيضع قدرة الرجل وصلابته على المحك. فليس أمامه خصوم من خارج الحزب، بل حتى من داخله. أضف إلى هؤلاء وأولئك مجموعة المحيطين به، أقصد الذين خاضوا إلى جنبه حملة انتخابية ضارية من أجل إقصاء آل الفاسي من قيادة الحزب: هل سيبقى نفس الحماس الذي خاضوا به معركتهم، أم أن الفتور وأشياء أخرى ستدبّ في أوصالهم ويستسلم كل واحد لمزايا مصالحه وإغراءات مواقعه؟