منذ 20 فبراير ..يوم الكلمة الجريئة ، والبوح الصريح ؛وسقف المطالب يرتفع إلى مستويات غير مسبوقة في الزمن المغربي المعاصر. فلا مجال بعد اليوم للحديث عن مطالب
الحد الأدنى . فالنقابات والأحزاب أصبحت اليوم في مفترق الطرق ، فإما أن تكون أو لا
تكون . والبيانات التي ظلت تدبج في السراديب المظلمة للمكاتب النقابية إياها ،
والتي يستجدي بها مناضلونا الأشاوس فتات ماتجود به "حكوماتنا الموقرة" لم يعد لها
أي معنى ولا جدوى . فالتغيير لن يكون ، بعد اليوم ، إلا شاملا ؛ لأن الأزمة شاملة ،
والإشكالات بنيوية وعميقة ...
التغيير سيأتي من القوى الحية التي تكتوي بنار الظلم الاجتماعي والسياسي والحقوقي
... لا ممن يجأرون من هكذا ظلم وهم منه في منجاة !!. فالعاطل والمطرود من عمله
والمضطهد في كرامته وخبزه اليومي... هم من يجيدون التعبير بأجسادهم وأفواههم
وكُلِّهِم عن مطالبهم ، لا أنا ولا أنت أيها المناضل النقابي أوالحقوقي أوالسياسي أ
والجمعوي من سيَصْدُق في التعبير ، ويصدق عند اللقاء والمواجهة...فالبوعزيزي لم يكن
مناضلا معروفا ولا سياسيا مرموقا ، ولكنه كان كادحا توفق في التعبير عن مطالبه
بجسده ، وكانت حركته شعلة أضاءت الآفاق ، وعرت أوراق التوت المتداعية من على عورات
من يسبون المخزن بالنهار ووسط الحشود ، ويسامرونه في الليل وبين الخدود..!!!!
لقد ظهرت هذه الحركة منذ بزوغها الأول يوم 20 فبراير كحركة شعبية جماهيرية لاقت
التأييد والنصرة من جميع أبناء هذا البلد الحبيب، لأن الجميع كان يرى فيها الحركة
المنقذة من براثن الظلم والاستبداد و"الحكرة" .كما أنها جاءت كامتداد للحراك العربي
الذي أثلج صدور الكادحين لما حققه من انتصارات غير مسبوقة في الشارع العربي منذ
عقود من الزمن . لكن الخطأ الفادح والقاتل الذي ارتكبه قياديو هذه الحركة هو حينما
ظنوا – وهم يعلنون عن فصائلهم - أنهم يستطيعون تهريب الهبَّة الشعبية الجماهيرية
للشعب المغربي لصالح هيئاتهم الحزبية والنقابية والجمعوية التي يصدرون عنها ،
فكانت هذه هي قاصمة الظهر التي أتت بجزءكبير من الرصيد النضالي ،والزخم المطلبي ،
لهذه الحركة المباركة ، من القواعد ؛ فخر عليهم السقف !.
فالشعب المغربي الكادح ،الذي شكل الأرضية الجماهيرية لهذه الحركة والذي هبَّ عن
بكرة أبيه يوم 20 فبراير لنصرة المطالب العادلة التي رفعتها ، لم يكن يعلم أنه مقود
من قبل هيئات سياسية ونقابية وجمعوية ذات أجندات خاصة ، بل كان يظن ، على غرار
الشعبين التونسي والمصري ( مع فارق جوهري على مستوى السقف المطلبي الذي رفعه
الشعبان)، أنه هو صاحب المعركة ، وهو من سيحدد سقف مطالبها ، وهو من سيسير بها إلى
بَرِّ الانتصار . لكن خاب ظنه فيها حينما اكتشف أنه مَسُوق فقط "لتعمار الشوارج"
؛ليكون قراره الذي قره أن ينفض من حولها ، وينضم إلى الحراك المضاد أو في أحسن
الأحوال أن يكتفي بالمراقبة من بعيد..
وهذا ما وقع بالضبط في الكثير من المدن المغربية ؛ فبين 20فبراير و 20 مارس ،فقط،
عرف عدد المشاركين تدنيا كبيرا جدا ، كما استمر هذا النزيف إلى يومنا هذا رغم بعض
الاستثناءات الطفيفة ؛ والسبب يعود - حسب اعتقادنا- إلى ظهور هذه "الفصائلية"
النتنة التي أهلكت هذا المولود المبارك .
لقد ساهمت الجماهير الشعبية ، التي ضاقت ذرعا ببعض المطالب الشاذة والغريبة على
حسها الوطني والديني والتي سوَّقت لها بعض الفصائل المنضوية تحت جناح هذه الحركة
بشكل مبالغ فيه ، في إيقاف الزحف المستمر لها، ووأد سيرورتها الحتمية نحو التغيير
المأمول ؛ فكانت النتيجة هذا العزوف الذي عرفه الشارع المغربي ، وانضمام الغالبية
العظمى من المنسحبين من هذا الحراك إلى "الحركات الشعبية "المناهضة لحركة 20 فبراير
والتي أصبحت تحتل مساحات مهمة في الساحة "الكفاحية" الوطنية وإِنْ بأجندات مختلفة.
أما السلطة فقد ظلت في منأًى عن أي احتكاك مباشر مع هذا الحراك ، خلا بعض
الاستثناءات القليلة التي عرفتها بعض المدن المغربية ، لأنها كانت تراهن بقوة على
سقوط الحركة في مَطَبِّ "الاقتتال" الداخلي ، و"الموت الجماهري" التدريجي ، خصوصا
وأن التركيبة المذهبية /الإيديولوجية للفسيفساء المشكل لهذه الحركة ركامٌ من
التناقضات لا يجمع بينها أي رابط عقلي ولا فلسفي ولا مذهبي .(فكيف يمكن أن نجمع –
مثلا- بين العدل والنهج وحركة مالي في هذا الخضم النشاز؟ !!).
وهذا هو المصير الحتمي – في اعتقادنا- الذي ستسير إليه هذه الحركة إن لم يُعِدْ
قادتها ترتيب أوراقهم بتطهير صفوفهم من العناصر المقلقة ذات الأجندات الخارجية ،
ويكفوا عن لعب دور "النيابة النضالية " عن الشعب المغربي الذي يعرف – جيدا- ماذا