ذكرت صحيفة جزائرية نقلا عن مصادر لم تُسمّها أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أبلغ وزراء في حكومته أثناء اجتماع عُقد يوم 29 غشت أن الجزائر "ستحترم القانون الدولي في كل القضايا المتعلقة بالصراع في ليبيا". وقالت يومية "الشروق" الواسعة الإنتشار في موقعها على شبكة الإنترنت "إنه اذا حاول القذافي دخول الأراضي الجزائرية في ظل الحديث عن إحكام الثوار قبضتهم على المعابر الحدودية مع تونس ومصر فإن الجزائر ستلقي القبض عليه وستسلمه إلى المحكمة الجنائية الدولية امتثالا للإتفاقيات الدولية"..
وأضافت "الشروق" أن القرار ليس ردّ فعل على إسقاط نظام القذافي لكنه يأتي اتساقا مع مذكرات اعتقال أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق القذافي وابنه سيف الاسلام ورئيس مخابراته بسبب اتهامات بارتكابهم جرائم ضد الانسانية.
وفيما لم يتسن الحصول على تعقيب فوري من الحكومة على الأمر، لا زال الجزائريون متفاجئين بالموقف الذي اتخذته سلطات بلادهم، التي تحولت إلى واحدة من الدول القليلة في المنطقة والعالم، التي قد لا تعترف بالمجلس الوطني الإنتقالي في ليبيا، والسبب المعلن هو "وجود مقاتلين لتنظيم القاعدة في صفوف الثوار"، لكن مراقبين كثيرين يرون أن الموقف الجزائري يُخفي الكثير من الألغاز.
أول هذه الألغاز هو اكتشاف قطاع عريض من الرأي العام المحلي، أن رأس الدولة ممثلا في عبد العزيز بوتفيلقة، وأجهزة الأمن العسكري المرتبطة به، لا ترغب - حسبما يبدو - في وجود نظام تكون الغالبية البرلمانية فيه للإسلاميين كما هو محتمل أن يكون في ليبيا في حال تنظيم انتخابات تشريعية، ستكون الأولى في تاريخ هذا البلد منذ أكثر من 42 عاما.
في الأثناء، علمت swissinfo.ch من مصادر عليمة أن الرئاسة الجزائرية، قد تكون وجّهت دبلوماسييها حول العالم، بضرورة إفهام الدول الغربية أن "خطرا عظيما يتهدد المنطقة" بعد ذهاب معمر القذافي، بسبب الإسلاميين "المتواجدين بكثرة مع المقاتلين، وليس فقط بسبب تنظيم القاعدة".
ويرى مراقبون أن تصرف الحكومة الجزائرية تجاه المجلس الوطني الإنتقالي الليبي، يُعزى بالأساس إلى "تمسك بعلمانية الدولة"، وهي قناعة ترسخت حسبما يبدو لدى أصحاب القرار وخاصة بعد إلغاء المسار الإنتخابي في موفى عام 1991 عندما كادت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (المحظورة منذ نحو 20 عاما) أن تفوز بالإنتخابات البرلمانية، وتغير االطابع العلماني للدولة الجزائرية، فألغى الجيش الإنتخابات واندلعت حرب أهلية دامية قتل خلالها أكثر من 150 ألف شخص.
التحدّي العقدي في سياق متصل، ترى كتابات صحافية جزائرية، أن الدولة الوليدة في ليبيا ستشكل "التحدي العقدي العلماني" للدولة الجزائرية، التي أعلنت - وبشكل لم يسبق له مثيل - أنها حليف استراتيجي للولايات المتحدة في مجال محاربة تنظيم القاعدة. وقد أبلغت السلطات الجزائرية هذا الأمر صراحة للقياديين الثوريين الليبيين الذين لم يفهموا هذا الموقف من الأساس.
وفيما يرى البعض أن ظهور الدولة الجزائرية بهذا المظهر، دليل واضح على نقص الخيال السياسي، والإبداع الدبلوماسي (وكأن الجزائر هي البلد الوحيد في العالم الذي تفطن لحقيقة ما يجري في ليبيا)، جاء الرد على تحذيرات المسؤولين الجزائريين من خطر القاعدة في ليبيا، في شكل تحذير مُواز من طرف وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون وجهته إلى المجلس الوطني الإنتقالي الليبي "بضرورة محاربة التطرف"، ما يعني بكلمة أخرى أن سقف التحذيرات الجزائرية "التي لم يفهمها المجتمع الدولي"، انحسرت في مواجهة بعض التطرف الذي يبدو على بعض المسلحين الناشطين في صفوف الثوار الليبيين.
استفراد بالقرار في مقابل ذلك، يذهب بعض الجزائريين، الذين يزعمون القدرة على قراءة ما بين السطور فيما تكتبه صحافة بلادهم، إلى أن "المسؤول الوحيد" على ما يجري هو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (!).. ولكن كيف؟
في الحقيقة، لا تتوقف الصحف الجزائرية المعارضة لسياسة الحكومة تجاه ما يجري في ليبيا، عن التذكير بمعلومة بديهية تؤكد أن صاحب القرار الأوحد في السياسية الخارجية في الجزائر، هو رئيس الجمهورية، الذي هو في نفس الوقت "رجل مريض جدا.. لا يقوى على اتخاذ القرارات السليمة.. ولا يتمكن من فهم ما يجري بشكل جيد"، حسب رأي إعلاميين ومعارضين وقطاعات من الرأي العام في الجزائر.
في الأثناء، علمت swissinfo.ch من مصادر دبلوماسية غربية في الإتحاد الأوروبي تتابع بانتباه ما يجري في الجزائر، أن تبرير ما يحدث بمرض بوتفليقة، قد يمثل "مخرجا" للراغبين في تحسين العلاقات مع ليبيا والإعتذار لها (في قادم الأيام)، إذ سيُلقى كل اللوم على بوتفيلقة الذي "أخطأ وعمل المستحيل من أجل إنقاذ صديقه الدكتاتور الليبي".
من ناحيتهم، يرى أساتذة في علم الإجتماع داخل الجزائر، أن الموقف الجزائري "تراكبي"، فمن جهة هناك التطرف العلماني، ومن جهة أخرى، هناك انفراد الرئيس بالقرار الدبلوماسي، وأخيرا هناك الإغترار بعدم إمكانية حدوث تغيير في الأوضاع القائمة واندلاع ثورة في الجزائر، بسبب ترسخ قناعة لدى الحكام الجزائريين مفادها إمكانية رشوة الشعب عبر الأموال التي تملكها الحكومة من مداخيل الغاز والنفط المتصاعدة.
إضافة إلى ذلك، يعزو البعض موقف بوتفيلقة إلى تسارع الأحداث وعدم تمكنه من مسايرة وتيرتها. فمن جهة، اختفى من الركح كل أصدقاءه الدكتاتوريين من الجهة الشرقية (تونس وليبيا ومصر)، ومن جهة ثانية تبخرت جهود قرابة خمسين عاما من "الشرعية الثورية" التي لا ترى إمكانية لقيام أي نوع من أنواع التعاون الإستراتيجي مع القوى العظمى ولو كان محسوبا ومخططا له.
عزلة دبلوماسية؟ في هذا السياق، تشير مصادر إعلامية جزائرية، إلى أن بوتفليقة "غاضب جدا" من فرنسا التي حاصرته في ليبيا وشجعت المغرب على أن تفعل نفس الشيء. ويبدو - حسب نفس المصادر - أن الجزائر ستصبح (إن استمرت الأمور على ما هي عليه) جزيرة منعزلة عن محيطها الخارجي، إذ أن كل ما تم تنظيمه من مؤتمرات ولقاءات دولية تتعلق بليبيا ومصير المغرب العربي تخلف عنها بوتفيلقة، وغابت عنها الجزائر.
ولكن هل يمكن أن تتهم فرنسا لوحدها، خاصة أنه من المشروع في عالم الدبوماسية أن نتحرك وأن نبادر، لذا فإن الإعتماد على هذا المعطى الدبلوماسي غير كاف لتبرير الموقف الجزائري، ويرى متابعون للشأن الجزائري، أن الأمر قد يكون أبسط بكثير من كافة التحليلات الدبلوماسية والدراسات الاجتماعية، فقد يكون الأمر مرتبطا بمرض الرئيس وعدم قدرته على السفر، فبنيت بالتالي كل القرارات الدبلوماسية على هذا الأمر.
لا يهم في الوقت الحالي، التأكد من دعم الحكومة الجزائرية للعقيد الليبي المطارد، لأن الدولة الجزائرية، قد أعلنت أكثر من ذلك بكثير، وهو عدم الإعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي، حتى يقدم مجلس الثوار الليبيون تعهدا كتابيا بمحاربة تنظيم القاعدة، وهذا أمر لم تُعرف له الكثير من السوابق في عالم الدبلوماسية..
و ليس هناك شك، في أن الموقف الحكومي الجزائري، يخالفه في القوة والإتجاه موقف الجزائريين كشعب، إذ أنهم لم يفهموا موقف دولتهم، التي عادت أقرب الناس إليهم في المغرب العربي، وما زاد من دهشتهم بقاء الدولة الجزائرية وحيدة في دعم البوليزاريو، ولن تجد أحدا بعد الآن وفي كامل المنطقة العربية، من يوافقها على مبدأ حق تقرير المصير للشعب الصحراوي، وهو واقع جديد يشكل "انتصارا مدويا" للمملكة المغربية، بعد صراع دبلوماسي وعسكري مرير حول هذا الملف استمر لأكثر من خمسة و ثلاثين عاما.
يبدو أن كل شيء في طريقه إلى ما يُشبه الإنهيار في حال ما لم تتسلم ملف العلاقات الجزائرية - الليبية جهة لا تخشى تداعيات الربيع العربي، وقد يكون الملف الليبي سببا من الأسباب الرئيسية في بداية تغيير جذري في مؤسسات الدولة الجزائرية السياسية والأمنية، لأن من الأسرار المكشوفة في كواليس الحكم في الجزائر، هو بغض أصحاب القرار الشديد للعزلة الدولية.. ولأيّ سبب كان.