يوميا تطالعنا وسائل الإعلام بما تسجله الطرق من حوادث على امتداد خريطة الوطن، وما تخلفه من ضحايا، حتى أضحت المقارنة عادية بين ما تخلفه الطرق من ضحايا، وبينما تخلفه الحروب. وفي كل مرة تتم الإشارة باقتضاب إلى أسبابها عبر وسائل الإعلام، التي لا تخرج عادة عن السرعة المفرطة، أو الحالة الميكانيكية للحافلات، أو السياقة في حالة سكر، أو النوم، أو حالة الطرق المتردية. السائق من جهته، يحمل مسؤولية ما يقع للملاكين الكبار لأساطيل النقل البري، على اعتبار أنه لا يهمهم غير المدخول اليومي غير منقوص، وإلا فالتهديد بالطرد كما تطرد أية حشرة، لأن عشرات السائقين في لائحة الانتظار. وإذا سئل عن الحمولة غير القانونية، يرد ببرودة دم، بأنه مضطر لذلك اضطرارا، وإلا سيؤدي من جيبه الخاص ضريبة الطريق. هذا دون الحديث عن الحالة المتدهورة للطرقات، وخاصة جنباتها المحطمة كليا أو جزئيا، فضلا عن الحفر الخطيرة، تباغتك بين الفينة والأخرى، خاصة مع أولى قطرات المطر. من جهتهم الملاكين لأساطيل النقل البري، يتهمون الجهات الوصية، بإغراق السوق بالرخص حتى اكتظت الخطوط، ولم يعد بين الحافلة والأخرى سوى بضع دقائق، إلى جانب ارتفاع قيمة الضرائب. أصحاب الحال في الطرقات، لن تعوزهم الأسباب لتوقيف الحافلات، إذ جلها يستحيل أن تكون تمام التمام. إن من جهة الأوراق أو الحالة الميكانيكية أو الحمولة الزائدة أو السرعة. وهكذا يصعب أن تمسك بطرف الخيط وسط هذه الشبكة العنكبوتية المعقدة، ليبقى الضحية الأول والأخير، هو المواطن البسيط، الذي لا محيد له عن هذه المقاتلات، بما أنها تحصد يوميا أرواح عشرات المواطنين. أمام هذا الوضع الدموي، وأمام تشابك المسببات وتعقدها، وأمام استحالة معالجتها مجتمعة، آنيا أو في المدى القريب، حتى لو استوردنا آخر تقليعات مدونات السير العالمية. لأن الخلل ببساطة في العقليات وليس في القوانين. أليس هناك إمكانية للبحث عما يمكن البدء به، والتركيز عليه، للحد من هذا النزيف الدموي. وما ينجم عنه من ترمل، ومن يتم وفقر وتسول ودعارة والسلسلة معروفة؟ فالذي يصعب فهمه، وإذا تم فهمه يصعب هضمه، كيفية إسناد مهمة سياقة سيارة نقل أو حافلة لكل من هب ودب. يتولى حاملها يوميا مسؤولية نقل آلاف المواطنين. لا يشترط فيه غير رخصة سياقة، لا يخفى على أحد، كيفية الحصول عليها من قبل المصالح المختصة. الكفاءة المهنية، و الأهلية المعرفية، والشروط الأخلاقية، لا محل لها من الإعراب، إلا فيما نذر. والنتيجة هي ما تتناقله وسائل الإعلام يوميا من مشاهد الموت المرعبة، على الطرقات الرئيسية والثانوية. أما ما يقع في الطرق غير المصنفة، وفي المسالك والمنعرجات والفجاج بالمناطق الجبلية، مما لا تصل إليه وسائل الإعلام، فحدث ولا حرج. كل هذا وغيره مما يتعلق بالنقل البري، مقارنة بالنقل الجوي والبحري. السؤال المحير، ما الفرق بين النقل البري من جهة، والجوي والبحري من جهة تانية؟ فلِم يتم التشديد في اختيار من تسند له مهمة قيادة الطائرة والباخرة؛ مستوى دراسي رفيع، وتكوين نظري وتطبيقي متين، يستغرق سنوات، ومؤهلات معرفية و أخلاقية ونفسية قبل أن يحصل عليها. فضلا عن المراقبة اليومية، قبل القيام بأية رحلة بحرية أو جوية، في الوقت الذي لا يتطلب من سائق النقل البري بكل أنواعه، أي شيء على الإطلاق إذا استثنينا الفحص على العينين والدم، خلال الإستعداد لتسلم الرخصة. إذا بان السبب بطل العجب. إذا استحضرنا نوعية بشر أنواع النقل، ندرك المغزى. فنحن أمام صورتين غاية في التناقض. فزبناء البر، كالسندباد البري المعروف بفقره وفاقته عكس السندباد البحري، يمثلون الأغلبية الملتصقة بالتراب،المخصوصة بكل المظاهر السلبية، من بؤس وأمراض وسطو وبراريك وكاريانات ومداشر ودواوير... نضالها اليومي كسرة خبز تحفظ لهم وقوفهم على أرجلهم، و أقراص دواء مشكوك في مدى صلاحيتها، ومقعد خشبي بمدرسة عمومية، لم تعد تؤمن لمرتاديها الحد الأدنى من التعليم ... في مقابل رواد النقل الجوي والنقل البحري، فهم عادة من الطبقة المصنفة، المتمتعة بكل وسائل الرفاه. فهل يستوي الفريقان؟ لعله السبب وراء الميز البين بين النقلين، إن على مستوى إسناد مهمة السياقة، وإن على مستوى تجهيزات وسائله وطرقه. فحال النقل البري يعرفها حق المعرفة المكتوون بنارها، لما تفرض ضيق ذات اليد، على المواطن البسيط اللجوء إليه. و خاصة خلال المناسبات الدينية، لما يجد نفسه تحت رحمة السوق السوداء وكأنك في أرض خلاء، بلا رقيب أو حسيب. أما حاله بعد ركوبها فحدث ولا حرج، من ازدحام و خصام، والكارثة لما لا يحلو للبعض تدويخ الرأس بالدخان، سوى في هذا الجو الدائخ أصلا، وفي مقدمة هؤلاء المدخنين عينة من السائقين ومساعديهم، في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي حول تفعيل قانون منع التدخين في الأماكن العموميى فضلا عن وسائل النقل. أما من كتب له ليجرب النقل في العمق المغربي، حيث المسافة تحتسب بالساعات وليس بالكيلومترات، ليروي لك عن نوعية الحوادث التي تقع، لما تنزلق من المنحدرات، مقاتلات النقل السري حيث يتسابق الناس لأخذ مواضعهم على ظهورها، بدل قطع المسافة داخلها. لا أجد ما أشبهها به غير ناقلة غسان كنفاني في رائعته الروائية "رجال تحت الشمس" فهل يتصور العثور على نقط التقاء بين هؤلاء وغيرهم، في النقل المصنف عبر الطائرة أو الباخرة، حيث وسائل الراحة آخر طراز. علما بأنهم لا يقضون بها سوى أوقاتا معدودات؟ فهل من جمعية تتولى الدفاع عن زبناء النقل البري، على الأقل التحسيس بمعاناتهم اليومية، في المحطات كما في الطرقات، كما هو الحال بالنسبة لأرباب النقل، فلديهم من يذود عن مصالحهم. وكما لدى السائقين نقابات تدافع عنهم، وتهدد بشل الحركة، إن لم يتم الاستجابة لمطالبهم المنحصرة أساسا، في التخفيف من الغرامات المادية والعقوبات الحبسية؟ من المفارقات، إنه في الوقت الذي نجد فيه قاتل ما، تسبب في إزهاق روح واحدة، يحكم عليه بسنوات سجنية، نجد بالمقابل من يتسبب في قتل العشرات، وكأنه دهس حشرات، لا قيمة لها. فلم لا يتم التحري الدقيق عقب حوادث السير لتحديد المسؤولية، حتى يتم متابعة الجاني، الذي قد يكون السائق إذا خرق قانون السير. وقد تكون الجهات الوصية والمسؤولة عن صيانة الطرق إذا كانت السبب لما يعتو رها من حفر وكسور على جنباتها. وقد يكون جهاز المراقبة بما أن من مهامه مراقبة الحالة الميكانيكية للحافلة والسرعة وحالة السائق ما إن كان في حالة سكر. وقد تكون هذه الأسباب مجتمعة. فينال الجميع جزاءه على قدر المسؤولية، بدل ما نراه اليوم، مختزلا في خبر بارد، على أمواج الإذاعة و شاشة التلفزة في الوقت الميت، وكأن شيئا لم يكن؟