عزمت الجهات المنظمة لموسم "سيدي حماد أولمغني" هذه السنة على صياغة عنوان بارز : "الموروث الثقافي والاجتماعي قاطرة التنمية المستدامة"، بمناسبة الدورة الاعتيادية للموسم الذي سينطلق يومه الخميس، والمتأمل للعنوان الفاحص لبنيته المفاهيمية سيجد أن هنالك علاقة انبنائية بين الموروث (التراث الثقافي) والتنمية المستدامة، وهي علاقة ما فتئ الخطاب الرسمي للدولة يدافع عنها باستماتة تثمينا لجوانب ثقافية قد تساهم في تنمية محلية تنطلق من الشعب وتعود إليه، خاصة بعد توصيات من منظمة اليونسكو بعد مؤتمري "ريو دي جانيرو" و "جوهانسبورغ" وما ترتب عن ذلك من مفاهيم تتجاوز التنمية النمو، نحو آليات جديدة لتدبير التراث الثقافي وتثمينه، وفي هذا السياق تأتي مساهمتنا المتواضعة هذه للنبش قدر المستطاع في جوانب هذا الموروث الإشكالية، ولنقد العلاقة الاعتباطية بين تراث انساني في المنطقة ومحاولات أدلجة بادية لسياقاته السوسيوتاريخية والأنتروبولوجية والأدبية.... إن منطقة إملشيل لا تعرف فقط بموسمها أو مهرجانها السنوي الذائع الصيت: موسم "سيدي حماد أولمغني" ((الخطوبة))، بل أيضا بثرائها الشديد في مجال التراث الشعبي الأمازيغي التقليدي. فهي تشمل العديد من عناصر التراث المادي الذي يتجلى في العمارة والأضرحة والأزياء والحرف اليدوية من صناعة النسيج والحدادة وغيرها، وتشتهر أيضا بغنى زاخر في مجال التراث الشفهي من شعر وأساطير وحكايات وأمثال لا يزال السكان يتداولونها بشكل واسع جدا. إلا أن أغلب الفاعلين المحليين لا يركزون إلا على الموسم والمهرجان وما يتعلق بهما من أساطير وتقاليد وأعراف احتفالية، وذلك نظرا لما تحظى به هذه التظاهرة من سمعة وطنية ودولية، ولما لها من انعكاسات اقتصادية مباشرة على المنطقة في أبعادها "التسييحية" (ولو لمدة لا تزيد عن ثلاثة أيام)، ولا يهتمون إلا نادرا بباقي العناصر التراثية الأخرى، رغم أنها أكثر ارتباطا بحياة الساكنة اليومية، وأكثر علاقة بالحياة الاجتماعية لهذه الساكنة بكل ما تشمله من قيم أخلاقية وسلوكية عامة، وما تتضمنه من أعراف وتقاليد تشكل ثقافتها وهويتها. ولذلك تبقى الصورة العامة للحياة الثقافية والاجتماعية للمنطقة ذات طابع نمطي مرتبط بالصوة السياحية المروجة للموسم. هذا وتحتاج المنطقة إلى دراسات علمية متعددة المناهج والتخصصات لإظهار حقيقة الموروث الذي تزخر به هذه المنطقة، ولمعرفة طبيعة العلاقات المتعددة والمتسعة التي تربط بين هذا الموروث وبين مختلف أوجه الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لأهاليها والدور الذي يلعبه في صناعة هويتها الخاصة، وهذا بالرغم من أن هناك بعض المجهودات التي حاولت دراسة التراث بشكل ظلت فيه في أغلبها محدودة وحبيسة عمليات الجمع والتدوين، وظلت مركزة على عناصر معينة، لا سيما وضعية المرأة داخل المجتمع (خاصة دراسة ميشيل كاسرييل ودراسات الأستاذ لحسن آيت الفقيه). ولا يمكن إظهار الصورة الكاملة لهذا التراث إلا إذا كانت هذه الدراسات شاملة وعميقة، تبدأ بالجمع والتدوين والوصف، وتمر إلى التصنيف والتحليل والتأويل، ثم تقوم بالربط بين مختلف الأنساق وسياقاتها التاريخية والاجتماعية لتصل إلى استنتاجات مرضية وذات مصداقية علمية تروم تنمية المنطقة بشكل فعال، سواء أكانت تنمية اجتماعية وما يشكله التكتل والاتحاد المحليين من رأسمال بشري هام، ومن قدرة بشرية أساسها المجال وأسها العمل، أو كانت تنمية اقتصادية تستثمر التراث في أبعاده الاقتصادية دون الزج به في متاهة التمييع والتحريف. إن السبيل الأنجع لدى الساعي إلى التعرف على مختلف أشكال التراث الثقافي في منطقة إملشيل هو التقصي الميداني الذي يتيح له أن يقف مباشرة على مختلف مظاهر هذا الموروث الغني بالعادات والتقاليد، وبالأغاني الشعبية والأساطير والآداب الشفهية، وبأفانين الزي والهندسة المعمارية، والذي يسمح له أيضا بمعرفة طبيعة العلاقات القائمة بين كل هذه العناصر ونمط الحياة الانسانية بالمنطقة، وبينها وبين المحيط الطبيعي من حولها. فمن السهل على الباحث الميداني أو الزائر أو السائح أن يدرك مثلا أن البيوت التقليدية والأزياء بالمنطقة لها خاصيات متينة الصلة بالطبيعة المحلية وثقافة أهلها. فالهندسة المعمارية في هذه البيئة المتسمة بالبرودة الشديدة لا تعرف ترفا في الزينة والبناء، وإنما هي تخضع للشروط المناخية والجغرافية من حولها، ويصاحب ذلك أدبيات الرمز والخصائص الجغرافية والبيئية وغيرها. وكذلك الأزياء، بأنواعها المتعددة، فهي أيضا لا تنفصل بدورها عن إكراهات الطبيعة في شكلها ومضمونها معا، سواء في المواد المستعملة أو في الألوان المختارة والأدوات الموظفة، فهي كلها ترتبط بما يوفره المحيط لذات الغرض من إمكانيات مادية ومعنوية تشكل بوثقة تراثية تنطق المحلي والذاتي بلسان حديديوي محض. كما أن البحث العميق في المنطقة يمكّن من اكتشاف ما تعبر عنه الآداب الشفهية وما تعكسه من تجارب فردية أو جماعية لأهل المنطقة، من خلال ما يمتزج فيها من أسطورة وواقع، ومن خيال وحقيقة، ومن متخيل بمعيش. ويعرف أيضا ما تختزنه هذه الآداب من حقائق تاريخية واجتماعية عاشتها المنطقة ولم تسجلها الوثائق والكتب، إضافة إلى خصائصها اللغوية في الأصوات والتراكيب والقاموس، وكذلك الخصائص الفنية والجمالية التي تهيمن عليها وتعكس طبيعة الذوق الجماعي السائد. إن البحث الموسع في هذه المظاهر والأشكال المتعددة للموروث الثقافي بهذه المنطقة التي تنطق بالثقافي وتتنفس به، لا شك وأنه سيكون أعم وأشمل من تلخيصه في مهرجان أو موسم أو أسطورة مبنية على الوهم لا يمكنها ك"موروث" أن تختزل التراث في حلته الراهنة، كما وأنه سيكون ذا أهمية بالغة في مجال التعريف بجزء هام من ثقافتنا الوطنية وهويتها الحقيقية والأصيلة، وسيكون كذلك عاملا مفيدا في المشاريع التنموية التي تخص المنطقة، باعتبار أن الدراسات التنموية الحديثة، خصوصا تلك التي توصي بها منظمة اليونسكو تصر على الربط الوطيد بين التراث الثقافي وبرامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، في ظل كل ما يصطلح عليه ب"التنمية المحلية" و"التنمية الشاملة" و"التنمية البشرية" وغيرها من أشكال "التنميات" الأخرى التي اختارت الجهات المنظمة تلك "المستدامة" كجزء من عنوان لموسم هذه السنة، فما المقصود بالتنمية المستدامة؟ وكيف يمكن للموروث (التراث) أن يساهم في تنمية المنطقة بعيدا عن التسييح والتشريح؟ وهل يمكن الحديث عن تنمية شاملة في دائرة متناثرة الأطراف، ظاهر موروثها غني غير متجانس وسياقه المحلي يروم التناص ؟ ..............الإجابة عن هذه الأسئلة في المحاولات المقبلة.................يتبع