لقد أكدنا في الجزء الأول من هذا المقال (مشروعية خطاب المغرب على ضوء باراديكمات الجيوسياسية الدولية) أن المغرب أصبح يشكل الاستثناء في محيط إقليمي يغلي، بحيث أصبحت الجغرافية السياسية لشمال إفريقيا أكثر احتقانا عبر بوابة سيناء وعبر صحراء ليبيا التي تشكل بوابة جديدة لمافيا داعش الدموي الذي حقق امتداداً سريعا جدا في اتجاه شمال إفريقيا بما في ذلك جنوبتونسوجنوب ليبيا ثم جنوبالجزائر. وأزعم أن توقف تدخل حلف الشمال الأطلسي في ليبيا وغياب الولاء للدولة؛ وقوة الولاء للقبيلة، مع ما كان يتوافر من أسلحة فتاكة لم يعمل حلف الناتو على حمايتها. كلها معطيات تلحق المجال الإقليمي لدول شمال إفريقيا بخط النار الطويل الممتد من كزاخستان إلى الزويرات وبالتالي يعمق الخطورة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولا مندوحة أن المغرب كان دقيقا في تقديراته لدرجة الخطر المحدق به، وبناءا عليها وضع خططا أمنية جد احترافية لحماية التراب الوطني وضبط الحدود، وبتالي حماية التميز من خلال مخطط حذر الذي اثار احترام، ليس المغاربة فحسب، بل بلدان شمال الحوض المتوسطي. وإذا كنا نعترف بقوة ونجاح حذر وما يرافقها من استنفار أمني للكشف عن الخلايا النائمة /اليقظة للتنظيمات الإرهابية فوق التراب الوطني، فإن السياق الجيوستراتيجي لمنطقة الساحل والصحراء وضعف التحكم في منطقة جنوبالجزائر (شمال مالي) مع ما ينضاف إلى ذلك من احتقان سياسي بالجزائر بعلة الغياب الواضح للبنات الأمن الاجتماعي وهشاشة الولاء الشعبي والعسكري لسعيد بوتفليقة خاصةً مع إحالة بعض الجنرالات للتقاعد بشكل يعكس صراع الأجنحة من داخل النظام؛ كلها معطيات تبين حجم الخطورة بمنطقة الصحراء الكبرى، هذا ناهيك عن أداء الكثير من الجماعات المتطرفة الولاء للدموي أبي بكر البغدادي، بليبيا مثلاً "جند الخلافة" (داعش ليبيا) علاوةً على امتداد بوكو حرام غير بعيد من المنطقة. وإذا أخذنا مثل هذه المعطيات بعين الاعتبار واستحضرنا طبيعة العلاقة بين المغرب والجزائر وكذا حالة "الستاتيكو" مع موريطانيا فإن النتيجة البديهية لكل ذلك هي دقة الظرفية وضرورة رفع درجة اليقظة إلى الدرجة الثالثة. وللإشارة فهنالك عامل أخر يستحق الانتباه إليه في مضمار الواقع الإقليمي الصعب وهو مناصرة المغرب للشرعية باليمن ودعم دول الخليج العربي. ولعل مباركة التدخل في اليمن لإرجاع الشرعية عبر التحالف الذي تتزعمه المملكة السعودية والمشاركة في تقليم أظافر الحوتيين ومن معهم من قوات المعزول صالح في اليمن، كحديقة خلفية لحلف طهران/ موسكو، كلها إذن معطيات تؤكد صعوبة المرحلة ودقة الواقع الذي تعيشه منطقة شمال إفريقيا كامتداد جيوسياسي للشرق الأوسط، إننا إذن أمام جغرافية سياسية خاضعة لأجندات أمنية/عسكرية دولية صعبة تفرض على المغرب مزيدا من اليقظة والانتباه حيال حدوده من أقصى الشمال الشرقي في اتجاه الجنوب الشرقي. وإذا كنا نثمن قوة الاحتياطات المتخذة لحماية حدود المغرب إلا أننا نقترح عدة مداخل لضمان الاستثناء المغربي، ولتقوية الوضع الاعتباري للمغرب كرقم مهم أمنياً في معادلة الأمن الإقليمي بالبحر الأبيض المتوسط، وبالتالي ضرورة تقوية الوضع التفاوضي للمغرب مع أوروبا من جهة ومع بلدان الخليج العربي من أجل كسب نقاط قوة لصالح الوحدة الترابية للمملكة، وكذا من أجل الوقوف بالمرصاد أمام مختلف السيناريوهات التي قد تستهدف الأمن الداخلي : المغاربة درع هذا الوطن إن أية نظرة لطبيعة التحديات التي استهدفت المغرب في محطات تاريخية كثيرة تبرز مدى مروءة المغاربة وحبهم الكبير لتراب وطنهم ومدى قدرتهم على الوقوف بتبات ضد أية مخاطر تسعى إلى إرباك الاستقرار الوطني. فالمغاربة مشهود لهم مند القديم بقدرتهم الكبيرة على التضحية من أجل الوطن، أليس المغاربة هم من قدموا دماءهم بسخاء للدفاع عن التراب الوطني عندما اندلعت شرارة المقاومة الباسلة في جميع ربوع الوطن بمجرد ما حط الاحتلال رحاله فوق التراب الوطني لتخرج جميع فئات الشعب معبرة عن مقاومة الإمبريالية؟؟ أليس المغاربة هم من انخرطوا بشجاعة وأقبلوا مسجلين أنفسهم في لوائح الراغبين في المشاركة في المسيرة الخضراء غير مبالين لا بحجم القوة العسكرية الاسبانية ولا مكترثين بالألغام المزروعة في رمال الصحراء المغربية؟؟ ألم يواجه المغاربة احتلال إسبانيا لصحرائهم بالأرواح الغالية التي جعلوها فدية للوطن فحققوا الإستتناء؟؟ ألم يدرف المغاربة الدموع وسكن الحزن قلوبهم وخرجوا من كل حدب وصوب يبكون ويرثون رحيل المشمول برحمة الله تعالى الحسن الثاني؟؟... إنها مؤشرات شهامة شعب لا يستحق إلا الاحترام والتقدير. لقد انطلقنا من هذه المعطيات بغية التأكيد أن الحرص على حماية اللحمة الوطنية وتقوية الجبهة الداخلية والانتصار للمغاربة يشكل أهم أدوات حماية الوطن والوقوف بالمرصاد لمختلف التهديدات التي ترنو إلى إرباك استقرار المغرب. والأكيد أن أول درس يجب أن يُستفاد من مرحلة "الربيع العربي" هو أن الانبطاح في حضن الغرب والبحث عن الحماية عبر التضحية بالداخل من أجل كسب رضى الخارج وصفة أتبث التاريخ فشلها الذريع. إن المغاربة حتى في أوج "الربيع العربي" رفعوا شعارات تعبر عن رفض الفساد وتمظهراته و ألحوا على المطالبة بالعدالة الاجتماعية والكرامة والإنصاف، لكن بحكمة عالية اقتنع الجميع بضرورة الانتصار للحملة الداخلية في حكمة رائعة تؤكد على ضرورة الإصلاح وفي الوقت نفسه عدم المغامرة باستقرار الوطن.إن الاصلاح كان في ظل تقديس ثوابت الأمة بما يعكس ذكاء جماعياً جميلا ونضجاً مغربياً يستحق كامل الاحترام والتقدير. وهكذا يتضح أننا كمغاربة في أمس الحاجة إلى ثورة ملك وشعب جديدة تؤكد على وحدة المصير وتنتصر للوطن الغالي وترفع درجات الوعي العام لتقدير دقة المرحلة وطبيعة السياق التاريخي الذي تعيشه منطقة شمال إفريقيا. ومن أجل المساهمة في لفت الانتباه لبناء الثقة وخلق لحمة وطنية متماسكة في ظرفية حافلة بالتقلبات الأمنية والجيوسياسية الكبرى على مستوى العالم وعلى مستوى المحيط الإقليمي، وكل ذلك من أجل وطن قوي يتحدى العواصف والأوبئة السياسية الخطيرة ويقف صفا واحداً ضد كل خطر محدق عبر وطنية في غاية العمق والتشويق، ومن أجل كل هذا نقترح عدة أدوات : الأداة الأولى : لا ثقة في الخارج ولا في الولاء للمؤسسات العالمية الصانعة للقرار الاقتصادي ولا في وعود الدول الكبرى، المنتجة "للمساسونية الاقتصادية" كشكلٍ من أشكال النيوامبريالية، التي تكون دائما في أتم الاستعداد للتضحية بكل شيء من أجل ضمان المصالح. إن الثقة والرهان يجب أن يكونا للوطن وللحمة الداخلية. فوحدهم المغاربة قادرين على حماية ثوابتهم وأمن وطنهم. الأداة الثاني : على الحكومة أن تعمل جاهدة لترميم الثقة و الانتصار لقضايا الشعب الوفي، مع ضرورة الحرص على حماية المكتسبات وعدم المس بالاستقرار النفسي والاقتصادي والاجتماعي للمغاربة. فهاجس التوازنات الماكرو اقتصادية (ضبط العجز، رفع معدل النمو، ضبط مستوى العملة) لا يجب أن تكون، رغم أهميتها، على حساب قوت المغاربة، فأية أهمية عند تلك التوازنات إذا لم تعود نفعا لصالح المغاربة ولصالح الوطن. الأداة الثالثة : إن ما يقع حالياً على مستوى تدبير السياسات العمومية والتراجع الخطير عن المكتسبات التي راكمها المغاربة بفضل نضالات سنوات الجمر والرصاص وما تلالها من تفاوض جماعي وبناء الثقة عبر الانصاف والمصالحة، يُشكل تهديداً مباشراً للسلم الاجتماعي وللاستقرار الوطني. وعليه يجب الجلوس عاجلاً إلى طاولة المفاوضات مع الفرقاء الاجتماعيين الذين كانوا دوماً على موعد مع الوطن في محطات حاسمة، يكفي أن نذكر بالمؤتمر الاستثنائي الذي عقدته الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمدينة العيون، عاصمة الجنوب المغربي، وهو مؤتمر يعكس موقع القضية الأولى للمغاربة في أجندة الكونفدرالية التقدمية. إذ يجب فتح الحوار المؤسساتي عاجلاً مع الأطباء ومع الأساتذة المتدربين لأن هذه الفئة تُشكل أساس الطبقة الوسطى والتي تشكل صمّام الأمان في التعبئة لصالح قضايا الأمة. الأداة الرابعة : ضرورة الحرص على احترام وتقدير جميع الهيئات و المؤسسات الوطنية. فالمغرب منذ الاستقلال وهو كله عزمٌ لبناء المؤسسات. ومن باب الامتنان والعرفان نذكر الحكومة الموقرة أنا النقابات في المغرب كانت دائما مستعدة لحماية الوطن والدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة، ومن غير المقبول عدم إشراك النقابات الوطنية الجادة في تدبير الحوار الاجتماعي والدفاع عن حقوق الطبقات الاجتماعية المقهورة، وعلى الحكومة أن تعرف أنها مغربية وأنها جاءت لتلبية مطالب الشعب وتحصين السلم الاجتماعي. والمغرب حقق التميز بفضل تجديد التعاقد الديمقراطي، والذي تأكد عبر ما جاء من مواد وفصول في ثنايا الوثيقة الدستورية، والتي اعترفت للفرقاء الاجتماعين وللمجتمع المدني بالشريك الحقيقي في صناعة النبل وتحقيق مصداقية الفعل الديمقراطي. فمن غير المقبول إرباك استقرار الوطن بسياسات لا شعبية تقدس توجيهات صندوق النقد الدولي على حساب تدمير القدرة الشرائية للطبقات الشعبية وللسواد الأعظم من المجتمع !! الأداة الخامسة : على الأحزاب السياسية والفاعلين السياسين أن يتجاوزا لغة الخشب والشعبوية والأداء الرديء واللعب على أوتار المواطن والعنف اللفظي الذي يسيء لهيبة المؤسسات ويخدش الوقار اللازم إزاء سلطة القضاء ويستفز مشاعر المواطنين. بالمقابل على الفاعل الحزبي أن يفهم أن ممارسة السياسة تجسد النبل الأخلاقي لمن يضحي بمصالحه الشخصية من أجل المرافعة والتفاوض والدفاع عن القضايا الكبرى للأمة بدل استغلال نبل السياسة لتحصيل ارباح خاصة وحماية الامتيازات الشخصية والتموقع ضمن خريطة الريع مما يعمق بؤس السياسة ويخلق مناخ اللاثقة. أليس من الكاركتورية ومن البؤس السياسي أن يُدافع "الاشتراكيون" عن تحرير الأسعار وهم يتناسون أن هكذا مبدأ يُشكل أساس الفكر الليبيرالي منذ أدم سميث ودافيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل رغم أن الليبرالية الجديدة مع كنز اعترفت بالدور الدركي للدولة !! مؤسف فعلاً أن يرفع "الإسلامي" و"الاشتراكي- الشيوعي" شعار تحرير الأسعار بشكل يتماهى مع أطروحة الليبيرالية المتجاوزة حتى في عقر دارها على حساب القدرة الشرائية والاستقرار الاجتماعي للمغاربة. الأداة السادسة : على أغنياء هذا الوطن العزيز أن يضحوا بجزء من ثرواتهم لصالح مشاريع التنمية، ومن أجل المساهمة في إنصاف سكان المغرب المنسي، فالوطنية الصادقة تقتضي ضرورة الانتصار للمشترك؛ ولا مشترك أكثر من الوطن. وعلى المحظوظين كذلك أن يلتفتوا إلى حال البؤساء والمستضعفين من أبناء وطنهم الذين "لا يسألون الناس إلحافا" رغم الفقر والمعاناة. وعلى المستثمرين الكبار، الذين يستفيدون من صفقات مربحة ومضمونة النتائج، أن يخصصوا جزء من ارباحهم لصالح مشاريع التنمية البشرية في ربوع المغرب العميق، ولخلق فرص الشغل لأبناء وطنهم العزيز. أليس من تجليات البؤس السياسي أن يكون الوزير تقنياً ورجل إدارة لا يضبط إلا لغة الأرقام بدل أن يكون رجل دولة يسعى إلى الإبداع وإلى اكتشاف حلول ناجعة لصالح الوضعيات المطروحة ولصالح مجد الوطن. الأداة السابعة : على صانعي القرار السياسي و الاقتصادي أن ينصفوا الطبقة الوسطى التي تعاني ويلات التفقير عبر تداعيات مختلف أنواع السلف، بنسب فائدة جد مرتفعة، الذي أنهكها وجعلها عرضة لمختلف أنواع الأمراض الاجتماعية المزمنة. ففي جميع الدول نجد الطبقة الوسطى صمام الأمان والوعاء الاجتماعي الذي يجمع النخب القادرة على التفكير وحماية الأخلاق العامة وقيم المجتمع وضمان التعبئة لصالح القضايا المقدسة للأمة. وعلى الحكومة المحترمة أن تفهم أن منطق الإعالة يُشكل أهم أدوات حلحلة المشاكل الاجتماعية، فالموظف في المغرب يتحمّل مسؤولية أسرته وعائلته وأحياناً أهله وذويه، في الأفراح والأقراح، ولولا التضامن لأصبح الواقع الاجتماعي منذراً بكوارث حقيقية. الأداة الثامنة :على الحكومة ومختلف الفاعلين الانتصار لقضايا الوطن وحماية القدرة الشرائية، وسن سياسات اجتماعية منصفة للشباب وحماية المكتسبات. فمن غير المقبول أخلاقيا الهروب إلى الأمام عبر إرباك استقرار المجتمع وزعزعة امال السواد الأعظم من الشعب. فأبناء الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة هم من يلج المدارس العليا للأساتذة والمراكز الجهوية للتربية والتكوين ومدارس الطب في أحسن الأحوال... فرجاء لا تقتلوا الأمل، ولا تجعلوا جميع الأبواب موصدة أمام أبناء وبنات الوطن، والتفتوا إلى هذا الشعب الوفي المنتصر دائما للقضايا المقدسة للوطن في بطولة استثنائية... صفوة الحديث إن حماية اللحمة الوطنية وتقوية الجبهة الداخلية والانتصار للشعب الوفي لتواثبه والحرص كل الحرص على حماية التلاحم الاجتماعي وتقوية الجبهة الداخلية. وحدها الأدوات القمينة بضمان التميز والاستثناء؛ حتى يظل المغرب وطن آمن وأمان، وطن سلم وسلام، وطناً موحداً قوياً ومتماسكاً من الشمال إلى الجنوب. وبذلك ستهون علينا مصائب الدنيا، وسنضمن إنجاح مسلسل بناء المغرب القوي بكل أبنائه ولكل أبنائه وضمان التميز. إن حماية الوطن يستدعي بالضرورة الانتصار للمغاربة فهم وحدهم القادرون على حماية الوطن الغالي من كيد الكائدين ومن الوقوف جبهة موحدة ضد السياسات الكبرى التي تُنتج خلسة من لدن المافيات الاقتصادية الدولية ومن قبل الشركات العابرة للحدود. إن تكريس البناء الديمقراطي والمضي قدماً في درب إرساء مؤسسات الحكامة وتمتين حقوق الإنسان ومحاربة الريع والسماح بالتداول الديمقراطي للنخب وإنصاف المظلومين عبر إصلاح القضاء وتحفيز القضاة. كلها آليات جد مهمة للمساهمة في حماية المغرب. ونعود بالله من شرّ قد اقترب. فالمغاربة ذرع وطنهم والمغرب ملاذ أبنائه. وكل يوم وأنتم تصبحون على وطن قوي. وأخيراً أقول : إن حلفنا القسم **** أن لا نخون الوطن / وأن نجود بالدما ****للذود عن حمى الوطن. رايتنا من دمنا **** ولونها من لوننا / إن لم نموت عن أرضنا **** بؤنا بلعنة الوطن.