إن الحرب الدائرة رحاها في بلاد الشام وما خلفته من مواقف رسمية وردود فعل شعبية متباينة عمقت الهوة بين النخب المثقفة ،التي وجدت نفسها أمام اختبار سياسي إيديولوجي عسير ؛فرصة لتسليط الضوء على ما يجري في سوريا من خلال استعراض مقتضب لمسلسل الأحداث التي شهدتها منطقة الخليج منذ حوالي ربع قرن حتى يتسنى لنا الكشف عن ضبابية الصورة واستعراضها في شموليتها بدل الأخذ بفصولها الضيقة ؛ كما يتم التسويق والترويج لها ؛في أفق صياغة مقاربة متأنية وموضوعية وتحليل يلامس الواقع ويسمح باستنتاجات منطقية ومقبولة نسبيا. بعد أن وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها ودخول القضية الفلسطينية منعطفا جديدا بفعل التجاذبات الإيديولوجية ،محليا وإقليميا، مباشرة بعد غزو العراق ومحاولات استغلال الظرفية من طرف دول الخليج وفتح الباب على مصراعيه أمام القوات الغربية...وفي ذات السياق تم التخطيط لأحداث 11من شتنبر لتسييج منطقة الخليج العربي بالكامل واقتحامها بقوة الحديد والنار والقنابل الذكية وهي الخطوة التي تمت عبر تنزيل مشروعين أمريكيين أساسيين: الحرب على الإرهاب واستئصال الأنظمة البعثية الممانعة والمحسوبة على المعسكر الشرقي ووأد القوى الموالية لإيران ، ذريعة كافية لأمريكا للإنزال بثقلها الحربي واللوجستي لاحتلال العراق معلنة بذلك بداية عهد جديد تمتلك فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية وحدها القرار الإستراتيجي في منطقة تتربع أنظمتها على نصف الإحتياطي العالمي من البترول. مشروع الشرق الأوسط الكبير وفرض التبادل الحر بين الدول العربية وإسرائيل ،وهو المشروع الذي يترجم بوضوح مفهوم النظام الدولي الجديد الذي سيفرض قيودا جديدة على الأنظمة العربية بما يضمن عدم تعرضها أو تحرشها بالدولة الصهيونية الوهمية. معطيات محورية وبوصلة ضرورية قد تمكننا من فك الخيوط المتشابكة في الحرب الدائرة بسوريا ؛بعيدا عن دوغمائية الإعلام وتجنبا للسقوط في شراك الشعارات المضللة وابتلاع الطعم الذي قد يوقع بالشعوب العربية والإسلامية في شباك المخطط الرامي إلى إسقاط العملاق الشيعي بمعاول ودماء آلسنة وشرعنة الحرب الطائفية المرتقبة وهو ما يفسر تاييد الغرب للاحزاب الإسلامية السنية لبلوغ سدة الحكم في عدد من الدول العربية وحملات التطهير الطائفية في كل من البحرين والسعودية و الكويت... ودخول الأزمة العراقية منعطفا جديدا وبات هذا الوضع يرشح لبنان للعودة الى اجواء الحرب الأهلية. لكن، لماذا لبنان بالضبط؟ تدخل لبنان في جوهر السياسة الامريكية التي رسمتها لمنطقتي الشرق الأوسط و الخليج العربي نظرا لموقعها الجيو-سياسي: انطلاقا من القاعدة اللبنانية يتم التخطيط لاحتواء عدد من دول الجوار التي يصنفها البيت الأبيض الامريكي ضمن محور الشر و القضاء على كل الفصائل المسلحة التى تزعج الكيان الصهيوني و تهدد وجوده وتربك تكتيك الولاياتالمتحدة على الرقعة المرشحة لتكون البديل عن الحرب الباردة، وهو ما سبق و اكد عليه سبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتيل (76/80) في كتابه الشهير: رقعة الشطرنج الكبرى (1997) و الذي تناول فيه بالدرس و التحليل الوضع العام في الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة. هناك اذن عاملان اساسيان يدفعان حتما الى هاته الخلاصة: الصراع العربي الإسرائيلي و المشروعين الأمريكيين وهما العاملان الأساسيان اللذان التقت حولهما مصالح كل من إسرائيل و أمريكا. بعد إخضاع العراق عن طريق القوة وتسييج دول المنطقة ياتي الدور على لبنان ليكون قاعدة خلفية تمكن من إقتحام مثلث الشر: إيران ، سوريا و حزب الله، انطلاقا من هذا البلد بالذات الذي التقت فيه تاريخيا مصالح و اهداف الثلاتي المزعج و التي تعززت بشكل كبير ابان الحرب الأهلية اللبنانية وهو ما يفسر حملة التحريض الواسعة اتجاه النظامين السوري و الإراني عبر صك مجموعة من الإتهامات تارة بامتلاكهما لاسلحة دمار شامل او مساعدة حزب الله في تطوير آليته العسكرية وتارة اخرى بدعمهما للإرهاب و الجماعات المتطرفة.وقد اتخذت هاته الحملات منحنى خطيرا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري (المحسوب على التيار السني) وصدور القرار الأممي 1559 الذي تلته حملة غير مسبوقة على سوريا و على سلاح المقاومة وعودة امراء الحرب المناهضين للتواجد السوري بلبنان... باختصار شديد لقد عرفت الإمبريالية منذ السبعينيات من القرن الماضي كيف تستغل التباين الإثني و الديني و التقافي للمجتمع اللبناني وتوظيفه في مخططاتها وحربها على الخصوم وتمكنت في اكثر من مناسبة من نقل المعركة من إطارها السياسي الى الإطار الطائفي العنصري. وبناء على ما سبق عرضه يمكن الجزم بأن الصراع في سوريا لم يرتبط بالإرادة الحرة لشعبها في التحرر وإقرار الديمقراطية والعدالة الإجتماعية ؛إلا في حدود ما يسمح به السيناريو الأمريكي الذي تم رسمه للمنطقة ؛وإلا فهو إنكار لوجود الفعل الأجنبي فيما حصل وفيما يتوقع حصوله وتبرئة للإحتلال الإسرائيلي والغزو الأمريكي من جرائمهم التاريخية..