شكل التقسيم الجهوي إحدى الإشكالات العويصة التي واجهت السلطة السياسية بالمغرب،خلال فترة الحماية، وبعد الاستقلال ، وهكذا يمكن ربط أصل الحديث عن مفهوم الجهوية بسياق صدمة الحداثة أو الغزو الاستعماري. وبعد أن كان المجال المغربي خاضعا لتقسيم خاص في إطار ما عرف ببلاد السيبة وبلاد المخزن، وهذه المفاهيم تم تشويه دلالتها عند المغاربة وأصبحت السيبة مرتبطة بالفوضى، لكن المؤرخ عبدالله العروي يرى أن بلاد السيبة كانت تطلق على المناطق التي تعترف بالسلطة الدينية للسلطان فقط، بينما بلاد المخزن تطلق على المناطق التي كانت خاضعة للسلطة الدينية والدنيوية للسلطان المغربي. إن طرح النقاش حول تدبير المجال المغربي ظل حاضرا دائما في أدبيات المسؤولين السياسيين بالمغرب منذ فترة الحماية، وفي كل مرحلة تظهر هنات ومزالق التقسيم الجهوي المتبع، أو تظهر للمخزن استرتجيات و مصالح أخرى لا يخدمها ذلك التقسيم، و يتم اقتراح مداخل بديلة للدخول في تجربة أخرى. لم يختلف الطرح المخزني عن الطرح الاستعماري في عملية التقسيم حيث استحضرت الأبعاد الأمنية في كل التقسيمات الجهوية خلال فترة الحماية، ولم تعط القيمة للجوانب الثقافية والاقتصادية مثلما يتم في دول أخرى. فإذا كانت فرنسا قد قسمت مجال نفوذها بالمغرب إلى جهات مدنية وأخرى عسكرية، فإن السلطات المغربية قسمت المجال المغربي بعد الاستقلال إلى جهات إدارية غير متجانسة ثقافيا، جغرافيا واقتصاديا لخدمة أهداف سياسية وتنظيمية بعيدة عن مصالح المواطنين وحقهم في التنمية الحقيقية. بدأ الحديث في المغرب عن مفهوم الجهوية الموسعة مع بداية الألفية الثالثة، وهو نقاش لا يمكن فصله عن المتغيرات الداخلية، خاصة ما يتعلق بإشكالات التنمية المحلية وعجز الدولة المركزية عن تسطير سياساتها التنموية بشكل فعال انطلاقا من المركز. بالإضافة إلى قضية الصحراء المغربية التي فرض اقتراح المخزن حلها بتطبيق نظام الحكم الذاتي التفكير في تغيير التقسيم الجهوي وفلسفته في باقي جهات المغرب، كما ساهمت الحركة الأمازيغية خاصة في الشمال والجنوب بمطلب الحكم الذاتي لباقي المناطق في تكثيف هذا النقاش. كما أن المتغيرات الدولية دفعت في اتجاه تغيير الوضع خاصة ما يتعلق بتنامي ظاهرة الإرهاب بالغرب الإفريقي بقيادة تنظيم القاعدة. وكذا التطورات الخطيرة التي يعرفها القرن الإفريقي. بالإضافة إلى تلمس إيجابيات التنظيم الفدرالي بالكثير من الدول الغربية. كل هذه الإكراهات الخارجية والداخلية حتمت على المغرب تعيين لجنة خاصة لتسطير مشروع جهوية جديدة يراعي الخصوصية المغربية في شتى الجوانب. أعتقد أن اقتراح المغرب سياسة جهوية جديدة كان استجابة لتحولات خارجية وداخلية ، وهذه السياسة يمنكها أن تلعب دورا هاما في التنمية الثقافية بالخصوص، طبعا إذا تحققت الأجرأة الفعلية للمشروع، وذلك بتجاوز مثالية النصوص وفوضى التطبيق. يمكن للتقسيم الجهوي أن يقوي الثقافة المغربية بكل مقوماتها، وسيجعلها تستعيد البريق الذي فقدته ، وسيتم ذلك باهتمام كل جهة بموروثها الثقافي وخصوصياتها في إطار تصورات متفق عليها دون تمييز أو انحياز لمكون ما، مثلما يتم اليوم، فالأمازيغية عمق ثقافي يختلف وضعها عن وضع مكونات ثقافية أخرى بالمغرب، وهذا ما يجب أن تقطع معه السياسة الجهوية الجديدة وتؤسس بذلك للمساواة الثقافية داخل المجال المغربي. هنا تحضر لي التجربة اليونانية رغم قدمها إبان فترة المدن الدول حيث كان التنافس في بناء الحضارة شديدا بينها" اسبارطة كريت..." . وهو ما أعطى في النهاية ذلك البريق والازدهار لليونان كحضارة متوسطية وعالمية. وعلى السياسيين المغاربة أن يستوعبوا مثل هذه النماذج الحضارية ويتجاوزوا مصالحهم الذاتية لخدمة الوطن أولا. لا يهمني في هذا المقال الشكل الذي اقترحته اللجنة الملكية مؤخرا للجهوية في المغرب بقدر ما يهمني أن أتحدث عن ما يمكن للثقافة المغربية أن تستفيده من التقسيم الجهوي الديمقراطي، و أنطلق من المهرجانات الفنية التي أصبحت لها خريطة خاصة بالمغرب. خريطة تعكس الوضع الاجتماعي الذي يعيشه المغاربة داخل مجال جغرافي ننتمي إليه بالاسم فقط، فمهرجانات المركز وطنيا وجهويا تستفيد من إمكانيات مادية ولوجيستكية كثيرة ، و لا يمكن مقارنتها بما تحصل عليه مهرجانات الهامش، فلماذا تخصص الملايير دون مراقبة للمركز؟ في حين يستحضر التقشف والحكامة في تدبير المال العام عندما يتعلق الأمر بمهرجانات الهامش. إن الورش الأول الذي يجب الانخراط فيه هو توفير البنية التحتية الثقافية في كل التجمعات السكنية بالمغرب، فلا يعقل أن تشيد وزارة الشباب والرياضة دارا للشباب في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ببلدة تونفيت بإقليم ميدلت منذ ما يقارب ثلاث سنوات أو أكثر، والموظفة المسؤولة مستقرة خارج البلدة وتعيش في عطلة مستمرة. وبالمقابل نجد نفس البنايات تشتغل بشكل متواصل في جغرافيا أخرى من المغرب. وما نقوله عن المهرجانات الفنية ينطبق على كل التظاهرات الثقافية الأخرى مثل ملتقيات القصة القصيرة والعروض المسرحية، السينمائية، اللقاءات الفكرية و أمسيات قراءة الشعر ... كل هذه الأنشطة يتضاءل حضورها كلما اتجهنا صوب الهامش جهويا ووطنيا. يمكن للتقسيم الجهوي الديمقراطي أن يخدم تقوية الثقافة الوطنية انطلاقا من تغذية كل روافدها ومكوناتها، وهنا أركز على الثقافة الأمازيغية كمعطى تم تهميشه منذ الاستقلال، بسبب مركزية القرار الثقافي ونظرة المسؤولين إلى كل ما هو أمازيغي نظرة الدونية و الفلكلرة. ما يتم القيام به في مجال كرة القدم عند البحث عن المواهب في المناطق البعيدة عن المركز يمكن الاشتغال عليه في مجالات متعددة في الثقافة لخدمة مشروع الثقافة المغربية في كل أبعادها وذلك باتخاد الخطوات التالية: _ تفعيل أدوار دور الشباب وتوفير كل شروط الاشتغال والاهتمام بالعنصر البشري. _ دعم الشراكة بين جمعيات المجتمع المدني الجادة مع المؤسسات التعليمية . _ الاهتمام بالإعلام الجهوي، وتوفير كل إمكانيات تطوره. _ الاحتفاء برموز الثقافة المغربية الشعبية بما فيها رموز الثقافة الأمازيغية من شعراء وفنانين و حكواتيين ومخرجين .... _ تشجيع الإبداع الفني والأدبي في صفوف الشباب والأطفال، وتنظيم مسابقات دورية بشكل مستمر لتحفيزهم على الخلق والتميز. _ تتبع الشباب المبدع بالتكوين والتأطير الضروري، والاستعانة بالطاقات البشرية المغربية المتخصصة والأجنبية إذا اقتضى الحال. _ الانفتاح على كل أشكال الإبداع الفني كالسينما ،الرقص ، الفنون التشكيلية و الموسيقى... _ تتبع كل المشاريع والمظاهرات الثقافية بالمراقبة لضمان احترام دفاتر التحملات وقطع الطريق أمام جميع أصناف الارتزاق و الريع الثقافي. يعتبر المخزن مسألة الثقافة خاصة تلك المرتبطة بالشعب شيئا ثانويا لا يستدعي الاهتمام، ويتجلى ذلك في حجم الدعم المقدم للثقافة بشكل عام في الميزانية العامة، فما يصرف على الشأن الثقافي في المغرب بعيد جدا عن ما يصرف في بلدان الجوار في الضفة الأخرى من المتوسط. وسيأتي يوم يعرف فيه السياسيون أن اللوبي الذي كان متحكما في الشأن الثقافي في المغرب منذ الاستقلال قد ارتكب جريمة في حق الوطن بتهميشه مظاهر الثقافة الشعبية خاصة الأمازيغية، سيأتي يوم نكون فيه بدون هوية وسط دول العالم . سنفقد كل ما يعبر عن انتمائنا العميق وستتشكل لدينا، هوية ممسوخة منفصلة عن جذورنا الإفريقية. وسنصبح معها كالغراب الذي عجز عن تقليد مشية الحمام، ونسي مشيته الأصلية فأصبحت مشوهة عوجاء مثلما تقول الحكاية الشعبية. محمد زروال/ تونفيت.