... ثم مكثت عاما كاملا بعد تلك المٌشاهدات ! أنتظر المزيد ولا مزيد ! ورجعت إلى وطني أنتظر الاذن بالرحيل مرة أخرى إلى بلاد النور! (تركيا) *** ما بين طنجة وجبل طارق , يرقٌد بوغاز الأحزان ! ... لم تزل نوارسه كل مساء تحكي بنشيجها مأساة المورسكيين ! لا شيئ يحمل البوغاز على تغيير عادته , فأحلامه تٌرسل موجة نحو الشمال , لكن مواجعه تردها كسيرة نحو الجنوب ! والحيتان بينهما تغدو خماصا وتروح بطانا من لحم الانسان ! كنت أسير حافي القدمين ما بين طنجة وتطوان , لعلي ألتقط صوت حمام زاجل , قيل لي إنه لم يزل ههٌنا مٌذ عبر أمير غرناطة الأخير طريدا من جنته ! فرثاه هذا الحمام الغريب بكنوز من أسرار الحكمة ! قيل لي : إن له هديلا كلما انطلق شجاه اقشعرت له صخور الشاطئ ! وبكت النوارس واهتاجت الأمواج ! ... قيل لي : هذا زمان موت الجغرافيا وانبعاث التاريخ ! ... كلمة السر يا ولدي هي في نٌطفة من نور , تخرج من بيت النبوة ! وإنها في شرق الأناضول فارحل ! *** هذه اسطنبول مرة اخرى .. ! ناداني خاطرٌ حزين ! قال لي : مقامك حيث أقامك ! لامكان لك اليوم يا صاح إلا بمنزلة الاستغفار ! فصرت أسمع صوتا من أعماق فؤادي , يتكسر على شط لساني : رب اغفر لي .. ! رب اغفر لي .. ! ها أنا ذا محمول على سيارة , كنت مريضا جدا ! لكن كنت على وعي بما أسمع وأشاهد ... هذا مستشفى "سماء" مرة أخرى !.. وهنا أدركت للتو مقامي ! وعرفتٌ أنني أخفقت في الامتحان الأول ! فاستأنفت دروسي بفصول المدرسة الأيوبية من جديد ! سنة كاملة يا سادتي وأنا أجري بين غروب وشروق ! سنة كاملة وأنا أظن أني كنت أغسل أدران الروح عن بدني , ولكن اكتشفت الآن أنني لم أبرح مكاني ! فعٌدت مٌثقلا بكل ذنوبي ! لقد أخطأت الطريق إذن ! فكان الحٌكم أن أعد الدرس من البداية ! فالرحمة الرحمة يا الله! كان رأس السرير مٌيمما نحو القبلة , وكانت النوافذ الكبيرة مٌشرعة الأحضان على بحر مرمرة , والجٌزٌرٌ الخمسٌ وسطه كلها تنتصب أمامي كالأعلام ... كانت الشمس على وشك الغروب خلف قدمي , وكانت أشعتها تطرٌز مرمرة بمرثية الأشجان ! وتٌرسل إلي أهازيج من أذكار المساء , مٌرتلة عبر أوراق شجرة الدٌلب المٌنتصبة خلف نافذتي ! حتى إذا مات النهار شاهدت جنازتي ترتفع أمامي في أٌفق البحر الغارب , وتذكرت صلاتي ! أديتٌ العشاءين جمعا وقصرا , استباقا للحظة الوصول , ثم بكيت ! كان الليل قد أشرقت مواجيدٌه سٌرٌجا في جٌزر البحر , وكانت مصابيح الساحل تحلٌم خافقة بشئ ما ... وغمرني الحنين إلى أورادي , فما إن شرعت في ترتيل مواجعها حتى , حتى انهمرت على قفاي صفعات الرحمة تترى ! هي رحمة لكنها صفعات !وكان الألم يا سادتي شديدا ! ثم تذكرت ... آه! واسترجعت الدرس : لاميلاد إلا بألم ! فآظفر بثاني المولدين تربت يداك ! ثم ناديت في ليل البحر الساجي : الرفقة الرفقة ! يا نعم الأمير أميرها , ويا نعم الجيش جيشٌها !... ألم يقل لي : هذا زمان نهاية الجغرافيا وميلاد التاريخ !؟ نعم ولكن رفقا بقلبي الضعيف عن الطيران ! فإنما شأني أن أحتضن مواجيد المكان منزلة منزلة , عسى أن أبحر في موانئها بعدٌ في مقامات الزمان , ذلك ما يقتضيه عجزي الحالي , فليس للمريد مثلي إلا أن يجلس مٌتعلما بمقام الأدب ! هذه واردات النور تتدفق جداولها بين يديك الأن يا صاح !... فاحمل عصاك على كتفك , وارحل سائحا نحو شرق الروح , بحثا عن منابعه الأولى ! تدخل زمان الفتح , وتكتشف سر بٌكاء فتح الله , فتٌشفى !