أسس المخرج داود أولاد السيد من خلال أعماله الإبداعية لتجربة ذات خصوصيات تستنبط أحداثها ومخيالها من الهامش والمنسي ثقافيا ومجاليا،وقد أكد على ذلك في حوار له مع موقع الخبر الإلكتروني حين قال بأن المغاربة في حاجة إلى سينما تشبههم ،وهو بذلك يعني أن المغرب دولة تعيش الكثير من التناقضات والمشاكل المعقدة وعلى السينما كفاعل ثقافي أن تقف عندها مثلما تفعل أجناس إبداعية أخرى فمن غير المعقول أن تعكس لنا سينمانا مثلا مغرب الأحياء الراقية والفنادق الفخمة في حين نجد فئة من المغاربة لا زالت تسكن الكهوف وأخرى تتساقط عليها كتل إسمنتية تكون قاتلة في الكثير من الأحيان بما فيها مدن المركز . يربطنا شريط الجامع الذي أخرجه داود أولاد السيد بالجنوب الشرقي للمغرب حيث تعانق الشمس الحارة أشجار النخيل و تتيه نظرات العيون في امتدادات الكثبان الرملية. يحكي الشريط قصة موحى المواطن البسيط الذي يقع في ورطة بسبب السينما وذلك عندما اكترى أرضه لمخرج سينمائي لتصوير شريطه ولسوء حظه بني ديكور المسجد فوق أرضه وعند نهاية التصوير تم هدم الديكورات باستثناء ديكور المسجد لأن سكان القرية اعتبروه مسجدا حقيقيا ،وبذلك حرم موحى من أرضه التي تحولت إلى مكان لإقامة الصلاة وتحفيظ القران وتغسيل الموتى ومع إصرار السكان على الصلاة في ديكور المسجد دخل موحى في متاهة حقيقية تحاصره فيها مواقف مختلفة لكنها في الغالب تدفع نحو تخليه عن أرضه واعتباره صدقة جارية وداخلها يصادف من يدعمه ويشجعه على هدم الديكور .وفي النهاية ترك المخرج الفرصة للمشاهدين ليقرروا بأنفسهم مصير الديكور غير أن المشهد الأخير يصور موحى في طريقه إلى مخفر الأمن معتقلا لكنه يلتقي بالفقيه سلام فوق الجرار متجها نحو القرية لتنفيد وعده. نجح المخرج داود أولاد السيد في شريطه الجامع في الانطلاق من السينما نفسها لخدمة إبداعها وهو ما قام به في شريطه الأخر " في انتظار بازوليني "و ما قام به مخرجون آخرون مثل الإيراني عباس كيروستامي والمغربي مصطفى الدرقاوي وأخرون . ظل داود وفيا لتيمة أعماله الأولى وذلك من خلال الاشتغال على الجانب المنسي والمهمش والتأكيد على أن الانطلاق من الأشياء البسيطة يمكن أن يؤسس لإبداع هادف قوي سواء في الديكور أو الممثلين ويصر على الاستمرار على نفس النهج في أعماله المستقبلية من خلال عمله القادم والذي يتناول قضية "كناوة" ،فالمخرج داود يفضل التعمق في كنه الأشياء والاستماع لنبضات الهامش وآهاته لكي يثير انتباه المسؤولين على الشأن السياسي والثقافي بالمغرب إلى وضعيته والتفكير فيه من زوايا أخرى. ويدعو كذلك إلى تجاوز النظر إلى المركز كمصدر للسلطة والجاه والإبداع والفكر أيضا ، وهذا ما يؤكده مثلا الحوار بين موحى والفقيه حول هوية الأستاذ أنوار الذي ترشح بالقرية في شريط الجامع . موحى : شكون نتوما بالسلامة . الفقيه : شكون هذا هذا الأستااااذ أنوار ،وراه جا من الرباط فالرباط هنا إحالة على المركز القوي الغني القادر على حل كل المشاكل لكن بمعنى أخر الرباط كمصدر للبطش والبيروقراطية. سأحاول من خلال هذه القراءة المتواضعة لشريط الجامع أن أتتبع تجليات المنسي والمهمش وطريقة حضوره سواء في مستوياته المادية أو الرمزية عبر قراءة تركز على مستويين : 1_ مهن وحرف تصارع من أجل البقاء : ونقصد بها تلك الأعمال التي يقوم بها السكان في قرى الجنوب الشرقي لضمان قوتهم، توقفت كاميرا المخرج عند الكثير منها في سياقات مختلفة وذلك لتكثيف جماليات الفيلم ومن هذه المهن نجد مهنة الإمامة واستحضرها المخرج في وضعيات مختلفة فهناك الإمام غير المتفقه في الدين المتملق والذي يحابي السلطة في شخص المقدم والمرشح أنوار .ثم إمام مسجد تامكروت الأول ذو التوجه الرسمي والذي اعتبر أرض موحى صدقة جارية والإمام الثاني الذي ذهب لمعاينة الأرض لكنه كرر موقف الإمام الأول وذهب لمشاركة فقيه ديكور المسجد في وجبة الطعام ،والوضعية الثالثة هي الإمام المتمرد في لباسه التي لا تشبه ملابس باقي الفقهاء ومواقفه المعارضة لهم فيما يتعلق بهدم ديكور المسجد ويبرر ذلك بكونه متفقها في الدين لأنه تلقى تعليمه في أحسن المدارس القرآنية وبسبب مواقفه تم نفيه خارج الدوار ويسكن أحد الأضرحة ويعيش ظروفا مزرية اقتصاديا، اجتماعيا ونفسيا . من بين الفئات الاجتماعية التي تعاني الكثير في صمت فئة الأئمة بالمساجد خاصة غير التابعين لوزارة الأوقاف وتدفعهم ظروفهم المزرية اجتماعيا واقتصاديا إلى امتهان حرف أخرى كالشعوذة أو التسول باسم الدين وقد عبرت هذه الفئة عن سخطها من الوضع سنة 2012 في إطار الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب وذلك عندما تظاهرت في الرباط لكنه تم تهديدها وقمعها نظرا لمكانتها الرمزية بالنسبة للمخزن، فالفقهاء والأئمة أخر من يجب عليه التظاهر في مملكة السلطان لأنهم رعاة للشرعية والمدافعين عنها. بالإضافة إلى مهنة الإمامة برزت في الشريط مهنة أخرى ذات أهمية كبرى في مناطق الجنوب الشرقي وهي البناء التقليدي هذه المهنة ومهن أخرى لجأ إليها موحى لضمان قوت أبنائه عندما لم يفلح في الحصول على أرضه لأنها أصبحت في ملك القبيلة وفي تصويره لعملية البناء أعطى المخرج الفرصة لجمهوره لمعرفة إحدى الطرق التقليدية في البناء التي اكتشفها الإنسان منذ القدم ولا زالت تقاوم كل إغراءات البناء العصرية ، وقد ركز على "المعلم" ثم مساعديه وطريقة لباسهم ،لكنه أغفل مسألة هامة وهي الصوت الذي يقوم به "معلم البناء" ثم بعض الأغاني يتم ترديدها بالمناسبة وهي فرصة أخرى لتوثيق جزء من ذاكراتنا و تراثنا المهني بالصوت والصورة عبر الإبداع السينمائي . تتميز منطقة "درا " أو درعة كما يشاع بالعديد من المقومات الفنية والثقافية والتي تجعلها متميزة عن باقي مناطق المغرب ومنها على المستوى الفني نجد رقصة "أقلال" وهي كلمة أمازيغية تعني القدر الطيني وتسمية هذه الرقصة بهذه التسمية يؤكد قدمها ما دام أن صناعة الفخار التي لم يغفلها المخرج أيضا تعتبر من بين أقدم الصناعات في تاريخ البشرية وتربط المنطقة بفترة تاريخية قديمة تعود إلى ألآلاف السنين خاصة إذا علمنا بوجود نقوش صخرية قديمة مكتوبة بخط تيفيناغ الأمازيغية بقرية تنزولين غير بعيد عن مكان تصوير الجامع و لم يركز المخرج على البعد الأمازيغي لمكان التصوير ومقوماته الثقافية واللغوية والحضارية واكتفى بذكر أربع أو ثلاث كلمات بالأمازيغية علما أن بعض الدواوير في درا تتحدث بلغة تزاوج بين الأمازيغية والدارجة المغربية وهنا يمكن أن نتحدث عن المنسي داخل المنسي . تدور أحداث الشريط حول المشكل الذي يعاني منه أحد الممثلين الثانويين في فيلم سينمائي أو ما يعرف ب" الكومبارس" وهو ما يعني استمرار تيمة فيلم " في انتظاربازوليني" في شريط الجامع ،ويعني أيضا ارتباط المخرج بمحنة هذه الفئة التي تفرح بقدوم المنتجين السينمائيين ولا تتردد في التوسل إليهم لإشراكها في أفلامهم غير أبهة لظروف العمل أو قيمة التعويضات المالية المقدمة لهاوهو ما قدمه في لقطات كثيرة مع بداية الشريط . 2_ تراث معماري مهدد بالاندثار : ضمن المخرج داود أولاد السيد شريطه صورا جميلة للقصبات والبنايات الطينية وأزقتها ودروبها معتمدا على الكثير من الأحيان على الإنارة الطبيعية ومن الجوانب التي ركز عليها في هذا الجانب نذكر : الأضرحة والزوايا : التقطت لنا كاميرا المخرج صورا كثيرة في إطارات متنوعة للضريح الذي يسكنه الفقيه سلام وهو بناية منعزلة مثل شخصية سلام في بيئته،تطل على الواحة وتحيط بها مقبرة مترامية الأطراف ولم يقدم لنا المخرج صورا له من الداخل . كما حضرت الزاوية الناصرية بتامكروت أيضا بقبتها الخضراء وبمرافق مسجدها الداخلية التي لا تعبر عن أصالة تلك الزاوية وتاريخها العريق فمثيلاتها في المركز تم تزيينها بالرخام. قرية تيمتيك : وهي قرية تبعد عن مدينة زاكورة بالجنوب الشرقي بحوالي 10 كلمترات تتميز بمؤهلات سياحية هائلة، لم يقدم لنا المخرج صورا عامة عنها لكنه أبرز لنا زاويا مختلفة من دروبها وبناياتها وهو ما كشف عن وضعية كارثية تعيشها تلك القرية وهي دعوة إلى ضرورة ترميم هذا الإرث الحضاري المشترك لكل المغاربة والحيلولة دون اندثاره ليس فقط في تيمتيك ولكن في كل قرى الجنوب الشرقي لأنه أولا يمكن استغلاله في إطار ما هو سياحي، كما أن خصوصياته تلائم المناخ الذي تعرفه منطقة زاكورة وكل مناطق الجنوب الشرقي ثانيا . قدم المخرج من خلال شريطه بعض المشاكل التي تعاني منها ساكنة الجنوب الشرقي في ارتباط بالإنتاجيات السينمائية التي تصور بتلك المناطق لكنه لم يغفل الإشارة إلى المشاكل الأخرى المرتبطة بالبنية التحتية كالطرق غير المعبدة و ضعف تأهيل الموارد البشرية السياحية من خلال نموذج المرشد غير المتمكن من اللغة الفرنسية ثم لم ينس أيضا تهميش الإعلام لها انتشار الفكر الخرافي والإيمان ببركة الأولياء والتوسل إليهم لحل مشاكل دنيوية لا علاقة لها بالآخرة. كانت هذه بعض الجوانب التي أثارها الشريط بشكل مباشر أو غير مباشر وبذلك يتضح أن المخرج نجح في الانطلاق من مجال منسي ليقدم لنا عملا إبداعيا سينمائيا مكنه من الفوز بعدة جوائز داخل المغرب وخارجه ويشكل أيضا إضافة نوعية لتجربته السينمائية وللسينما المغربية عامة . محمد زروال: منسق نادي البوعناني للسينما والصحافة بثانوية القدس التأهلية تغسالين .