محمد القنور . عدسة : محمد أيت يحي. بائعات الرغيف في مراكش. عاجنات خابزات طاهيات يكافحن قهر الحياة. محمد القنور . عدسة : محمد أيت يحي . هكذا هي دائما المرأة المراكشية خصوصا والمغربية عموما، تترجم كل معاني الصبر ودلالات التحمل و عبارات عزة النفس، في مواجهتها لأعباء الحياة، عندما تترك وحيدة أمام عوادي الزمن، كأرملة إختطفت براثن الموت عائلها ، أو فتاة تكابد من أجل حصولها على اللقمة الحلال، في قناعة ورضا كاملين بالنصيب. ويبقى الكلام هنا ليس عن بائعة الخبز في رواية “كزافييه دو مونتبان” الشهيرة،وليس حتى على بائعات الخبز التقليديات والشهيرات في مراكش ب “الخبازات” ممن يؤثتن ساحة جامع الفنا، فرب سوق أجديد، وساحة باب دكالة، وحي الباروديين بحومة أسوال، وغيرها من فضاءات المدينة العتيقة. إنهن النسوة والفتيات العاجنات الخابزات الدالكات للفطائر التقليدية من “مسمن” و”ملوي” وبغرير” ممن يتموقعن على أبواب المقاهي والمطاعم الشعبية بمراكش، يعكسن نموذج المراة المراكشية المكافحة، في كسب قليل ورأس مرفوع نساء وفتيات في أعمار متفاوتة، إنهن نساء يكدحن، كل يوم إلى أوقات متأخرة من الليل، وخلال أيام العطل تجدها تخبز وتبيع ، وحتى في الأعياد بما فيها عيد الأضحى، هن دائما على نفس الحال، ..يكافحن بلا توقف ولا كلل، أو أدنى تفكير في العطلة بل راحتهن هي جنيهن للمال الذي يعلن به اسرهن.. “مراكش بريس “ كانت لها جولة عبر الكثير من المقاهي والمطاعم، لتلتقي هؤلاء النساء، وتكشف مساراتهن وواقعهن للقراء. زهرة 42 سنة ، مطلقة وأم لإبن وبنت أمضت 24 سنة في بيع الخبز من دون تقاعد، فكيف لها أن تتقاعد عن العمل وهي أم لثلاثة أبناء لازالوا يتابعون دراستهم ، توفى الزوج ولم يترك لها من حطام الدنيا أي شئ وليس لها من مصدر للعيش غير ما تربح من دريهمات عجن المسمن والرغيف البلدي، طلب بعضهم يدها للزواج فلم تتزوج ثانية على الإطلاق،لأنها تريد أن تسهر على مستقبل أبنائها، تعيش هذه السيدة رفقة عائلتها الصغيرة في بيت تكتريه بأحد دروب سيدي يوسف بن علي، ورغم قساوة البرد القارس بمراكش هذه الأيام، وحرارة الفرن الذي تقف وراءه صباح مساء بالمقهى الذي تعمل فيه المتواجد بأحد شوارع منطقة جليز، إلا أن ما يثلج صدرها، حسب تصريحها ل ” الأنباء المغربية ” كونها إستطاعت بهذه المهنة ، أن تضمن إستقرار عائلتها، وأن تتمكن من مساعدة إبنها يوسف من مواصلة دراسته الجامعية، حيث لاتخفي إفتخارها بكون هذه الحرفة وفرت لها ولعائلته العيش الحلال، وكانت قد عملت بكل المهن الشريفة من أجل لقمة العيش باعت بيض الدجاج، والخضر وباعت بعض السلع في الأسواق والشوارع ، كما اشتغلت سنوات خادمة بيوت. في حين تؤكد خدوج 45 سنة وأم لثلاثة أبناء، أن ظروف زوجها الذي يعاني من مرض مزمن، وعدم قدرته على مزاولة أي عمل، دفعتها لهذه المهنة كخابزة ل “المسمن” على بوابة أحد المقاهي في جامع الفنا، حيث كان السبب الرئيسي في ولوجها هذه المهنة منذ سنوات خلت هو مرض زوجها وعجزه عن الاستمرار في مهنته ك “حداد مختص في صناعة السبائك والدرابيز” والأبواب الحديدية، فهي المعيلة الوحيدة لأربعة أشخاص، بنتين في مقتبل العمر تتابعاتن دراستهما بإحدى كليات جامعة القاضي عياض، وإبن لايزال في عقده الأول بالصفوف الإبتدائية من الدراسة وزوج مريض. وأثناء حديث “الأنباء المغربية” مع خدوج لم تتمالك هذه الأخيرة نفسها لتنهمر دموعها حينما سألناها عن مدى مساعدة أقربائها لها، مشيرة أنه بعملها هذا، تحاول أن لاتتخلى عن بيتها وتترك عائلتها لعوادي الزمن، بل تحاول فقط رد الجميل ولو قليلا لزوجها، الذي عاشت معه في بحبوحة من العيش، عندما كان صانعا تقليديا يقام له ويقعد، حيث يبقى في نظرها ،الكدح الى وقت متأخر من الليل، علامة بارزة في مسارها عن مدى الحب الذي تكنه لزوجها ولأبنائها الثلاثة. مليكة 28 سنة، عازبة وفتاة عصامية،على قدر مميز من الجمال، تقدم “الرغيف البلدي ” و”المسمن” لزبائنها بأحد المقاهي الشعبية المتواجدة بحي الإنارة، في مراكش، تكد وتسعى طول النهار إلى ساعات متأخرة من الليل من اجل عائلتها، تقدم نفسها بكونها فتاة مراكشيةأصيلة، و شابة مكافحة ، ترفض اللقمة الحرام، وتعرف كيف تكسب ود زبائنها بتعاملها الطيب وكلامها الجذاب، الذي يجعل حتى تلاميذة المؤسسات التعليمية يتحلقون حولها، لتذوق متبدعه أصابعها من فطائر ومعجنات ومن “ملوي”، و”مسمن”، “حريرة”،و “شاي” وتؤكد مليكة أن كسب لقمة العيش بطريقة شريفة وحلال، ليس سهلا وخاصة في في مجتمع يتسم بالذكورية .. من جهة أخرى، رفضت السعدية 30 سنة، أرملة، الاستمرار في مزاولة عملها بأحد المؤسسات الفندقية ، بسبب ما وصفته بالمضايقات والتحرشات اليومية التي كانت تعيش تحت لهيبها يوميا، ورغم كونها سيدة لازالت في ريعان شبابها رحل عنها الزوج فجأة في حادثة سير مروعة، لتجد نفسها على حين بغتة تحمل مسؤولية الحياة وأعبائها، فمن أين ستطعم إبنها الوحيد، باكورة حبها لزوجها الذي لاتزال تتحدث عنه بأسى عميق، وتردد مودته بحزن بالغ. ولأن حفصة ذات عزة نفس فإنها لم تنكسر، أمام سهولة الكسب الحرام، ولم تلتجئ إلى ما قد يمكن أن تلتجأ له أخريات ممن لاحظ لهن من تربية ولا من أخلاق للإرتماء في أحضان الرصيف والليالي الملاح، إلى أن يأذن الله بالصباح، بل فضلت أن تستجلب ضروريات الحياة من مأكل وملبس وتمدرس،من عملها كخابزة ومعدة فطائر على بوابة أحد المقاهي بجليز. عن هذه الوضعية، تقول السعدية : عندما توفي زوجي في الحادثة، رضيت بقضاء الله وقدره ثم شمرت عن ساعدي و استجمعت قوتي واعدت عدتي من اليوم الأول لوفاة المرحوم، وعمدت إلى الإتفاق مع صاحب المقهى الذي كان زوجي أحد زبنائه، حول إعداد أنواع من رغيف الخبز، ملوي، ومسمن، حريرة،و الشاي للبيع، وإقتسام الأرباح والكسب الحلال”. وتضيف السعدية ل ”مراكش بريس ” : “لقد ترملت منذ ست أعوام وارتضت العمل في هذا المقهى، رغم ما يحفه من مشاكل العرض والطلب، حيث تركد الحركة التجارية مع إرتفاع الحرارة بمراكش، وإتجاه الزبناء والمارة إلى المرطبات الباردة والمشروبات. وتعتبر السعدية ضمن النساء الشهيرات في مراكش، بصناعة الرغيف و”المسمن” و”الملوي” حيث يأتي زبائنها كل صباح لإقتناء “رغيفها” المميز والمحشو بالبصل والتوابل والبهارات من الأحياء المجاورة للمقهى الذي تتواجد به، فرغيفها البلدي العادي منه والمحشو، تملا رائحته الأنوف ، وتستدعي الشهيات التواقة لفطور دسم يكسر حدة الصقيع الصباحي في مدينة الرجال السبعة. من جهتها تفتخر خديجة 27 سنة، الطالبة الجامعية التي غادرت صفوف الجامعة، وفتحت دكانا صغيرا بأحد الأسواق الشعبية داخل السمارين، بكونها تشغل في دكانها الصغير فتاتين إلى جانبها، وأن ماتجنيه من أرباح عن طريق بيع “الرغيف العادي” والرغيف المحشو” والمسمن والفطائر المدهونة بالسمن و”أملو” والعسل، مكنها من أرباح مميزة، أحسن من لو كانت موظفة بإحدى الإدارات. ولا تخفي خديجة سرا، عندما تعلن ل “مراكش بريس ” أنها بهذه المهنة إستطاعت أن تجدد بناء منزل عائلتها الذي كان آيلا للسقوط،وساعدت شقيقها في فتح “محلبة” وإشترت سيارة وكل ما كانت تطمح له زمن مراهقتها.مرددة شعار مسارها المهني : “أن الحرة تجوع ولا تأكل من ثدييها”.